ما للنُّصوص المضيئة التي خطَّها الأجداد بمداد التجارب، وما للأمثال التي أخضعت صروف الدهر لسلطانِ لفظها، حتى غدتْ اليوم كأطلالٍ خاويةٍ لا تسكنها سوى أصداء الخذلان؟!
أفي زمنٍ يُقصَفُ فيه قلبُ غزة وتُحاصَرُ أنفاسُها، تُرفعُ بيننا لافتات «الجار للجار» و«المؤمن للمؤمن كالبنيان» ثم تُطوى في أدراج التنصُّل، كأنما هي حِكَمٌ أُودِعَت متحف البلاغة لا ميادين الرجال؟ لقد بدا المَثَلُ العربيُّ ــ الذي طالما كبَّرنا صداه ورددناه برنة الفخر ــ كمن فقد سريان الدم في أوردة الواقع، فانطفأ وهجُه، وبهتَ لونُه، وصار حبرًا على ورقٍ أصفرَ يأكله الغبار. أيُّ معنى يبقى لـ «يد الله مع الجماعة» حين تُبتَرُ اليدُ، وتنفرط الجماعة حبلًا واهيًا يتداعى تحت وطأة المصالح الضيقة؟ بل ما جدوى «ربَّ أخٍ لم تلدْه أمك» وغزّة تكفكف دموعها وحيدةً، تطلُّ على إخوتها فلا ترى في المدى غير مرايا الصمت وصدورٍ مثقلةٍ بالحسابات؟ إنَّ خيانة المبدأ أوجعُ من انكسار السيف؛ لأن السيف يُصلَح بحداد، أمّا المبدأُ إذا تهاوى فليس له حدّادٌ يقيمه. وهكذا تَساقَطَت مآثرُ الأمة كأوراق الخريف، وانكشفت الحكمة عاريةً من سطوتها، إذ جرَّدتها الواقعة من هيبتها، وأخبرتنا ـــ بلا مواربة ـــ أنّ القيمَ إذا لم تُسقَ بعرق التضحية جَفَّت، وإذا لم تُجذِّرها أفعالُ النصرة اقتلعتها عواصف الخذلان. من هنا يبدأ السؤال المُلِحّ: أترانا سنبقى نستعير من الماضي كلامًا لا يَسْكن الحاضر، أم سنعيد إلى الحِكَمِ روحَها، فنكتب سطورًا جديدةً بقلمٍ ينقع حبرَه في دم القلب، ليعود للقول صدقه، وللمثل بريقه، وللأمة معناها؟