بسم الله الرحمن الرحيمفلقد اهتم القرآن الكريم وعنى عناية كبرى بدعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه لإنه موافق ومصدق لما فى كتبهم فوجه لهم عدة نداءات نذكرها تباعا حسب ورودها على ترتيب سورالقرآن .
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
النداء الاول : الدعوة لكلمة سواء
قال تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّـهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿٦٤﴾ال عمران
ان هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ومن جرى مجراهم
والكلمةهنا تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا . ثم وصفها بقوله : سواء بيننا وبينكم ) أي : عدل وانصاف ، نستوي نحن وأنتم فيها . ثم فسرها بقولهألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا )
ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله المراد بهذا تقرير وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية ، وكلاهما متفق عليه بين الأنبياء ، فقد كان إبراهيم موحدا صرفا ، وقد كان الأساس الأول لشريعة موسى قول الله له : " إن الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى . أمامي لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء من فوق ، ومما في الأرض من تحت ، ومما في الماء من تحت الأرض ، لا تسجد لهن ولا تعبدهن " وعلى هذا درج جميع أنبياء بني إسرائيل حتى المسيح - عليه وعليهم الصلاة والسلام - ، وهم لا يزالون ينقلون عنه في إنجيل يوحنا قوله : ير 17 : 3 " وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته " وغير ذاك من عبارات التوحيد.
وأما وحدانية الربوبية فهي قوله : ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فالرب : هو السيد المربي الذي يطاع فيما يأمر وينهى ، والمراد هنا من له حق التشريع والتحليل والتحريم كما ورد في حديث عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال : يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقلت له : يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم ، فقال : أليس يحرمون ما أحل الله فيحرمون ، ويحلون ما حرم الله فيحلون ؟ فقلت : بلى .
قال تعالى: فإن تولوا وأعرضوا عن هذه الدعوة وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله باتخاذ الشركاء الذين يسمونهم وسطاء وشفعاء واتخاذ الأرباب الذين يحلون لهم ويحرمون فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون نعبد الله وحده مخلصين له الدين لا ندعو سواه ولا نتوجه إلى غيره في طلب نفع ولا دفع ضر ، ولا نحل إلا ما أحله ولا نحرم إلا ما حرمه .
النداء الثانى :الدعوة لاتباع ملة ابراهيم عليه السلام
قال تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقلونَ ﴿٦٥﴾ ال عمران
روى ابن إسحاق بسنده المتكرر إلى ابن عباس قال : " اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا ، فأنزل الله : يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم الآية.
وأقول : جاءت هذه الآية والآيتان بعدها في سياق دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام ، وبيان أنه دين جميع أنبيائهم الذين يدينون بإجلالهم ، وكان إبراهيم - عليه الصلاة السلام وعلى آله - موضع إجلال الفريقين منهم لما في كتبهم من الثناء عليه في العهد القديم والعهد الجديد ، كما كانت قريش تجله وتدعي أنها على دينه ، فأراد - تعالى - أن يبين لهم جميعا أن هذا النبي الكريم الذي كانوا يجلونه لم يكن على شيء من تقاليدهم ، وإنما كان على الإسلام الذي يدعوهم هو إليه على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، فبدأ بالاحتجاج على أهل الكتاب بقوله : وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أي فإذا كان الدين الحق لا يعدو التوراة كما تقولون أيها اليهود ، أو لا يتجاوز الإنجيل كما تقولون أيها النصارى ، فكيف كان إبراهيم على الحق واستوجب ثناءكم وثناء من قبلكم ، أفلا تعقلون أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا له !
وفى هذا يقول الله عز وجل
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿٦٧﴾ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّـهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٦٨﴾ ال عمران
النداء الثالث والرابع: النهى عن تعمد الكفروكتم الحق
قال تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿٧٠﴾يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٧١﴾ال عمران
يقول ربنا عز وجل : لم تجحدون حجج الله التي آتاها محمدا في كتبكم وغيرها ، التي قد ثبتت عليكم بصدقه ونبوته وحجته . وأنتم تعلمون صدقه ؟ فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم متعمدون الكفر بالله وبرسوله مع علمهم أنه الحق.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٧١﴾
والظاهر من الايه أنه سبحانه وتعالى أنكر عليهم لبس الحق بالباطل ، وكتم الحق ، وكأن الحق منقسم إلى قسمين : قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز ، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر .
المصدر تفسير المنار لمحمد رشيد رضا
يتبع ان شاء الله
المفضلات