دلالة تَرْك النبي للشيء قَصْدًا على المنع منه وتحريم البدع والمُحْدَثات في
دلالة تَرْك النبي صلى الله عليه وسلم للشيء قَصْدًا على المنع منه وتحريم البدع والمُحْدَثات في الدِّين
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، «حمدًا كثيرًا طَيِّبًا مباركًا فيه»، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صَلِّ اللهمَّ وسَلِّم وبَارِكْ عليه صلى الله عليه وسلم، وارْضَ اللهمَّ عَنْ آلِه وصَحْبِه الغُرِّ الميامين رضوان الله عليهم، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.
أما بعد:
فقد جاء الإسلام والناس يتعاملون فيما بينهم، ولهم عادات يقومون بها، فحرَّم عليهم بعض معاملاتهم، وعاداتهم، وسكت عن بعضٍ فلم يحرمها عليهم، ولذا قال العلماء: «إن الأصل في الأشياء الإباحة»، يريدون أن الأصل في عادات الناس وأشيائهم الإباحة ما لم تخالف أصلًا شرعيًّا.
بخلاف العبادات فلم تكن ثم كانت، ولا يجوز الزيادة على ما كانت، ومعنى ذلك أنها لم تكن موجودة قبل ورود الإسلام، وإنما شرعها الله عز وجل بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنه لا تكليف قبل ورود الشرع، فمتى لم يرد الشرع فلا تكليف، قال الإمام العيني: «لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع»[1].
وهذا ظاهرٌ واضحٌ في العبادات التي تتوقَّف معرفتها على ورود الشرع بها، بخلاف العادات والأشياء ففيها خلافٌ مشهورٌ بين الأصوليين، حول حكمها قبل ورود الشرع.
وقال النوويُّ: «الأصح أنه لا حكم ولا تكليف قبل ورود الشرع لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء:15]»أهـ[2]. وهو المنصوص عليه عند إمام الحرمين وغيره[3].
وفي «المستصفى» للغزالي: «الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص»[4]، وفيه أيضًا: «ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا»[5].
وهذا من المعلوم ضرورة؛ إذْ خلقَ الله عز وجل الناس لعبادته، وأرسلَ إليهم رُسُلَه، وأنزل عليهم كُتُبَه، يُعرّفهم الطريق إليه، ويُبَيِّن لهم كيفية عبادته التي يريدها، والتي لا عِلْم لأحدٍ بها إلا عن طريق الرُّسُل، ولذا لم تقم الحجة على الناس إلا بالرسالات، ولو كانت ثمة طريق أخرى لمعرفة العبادات لما كانت للرسالات فائدة، ولقامت الحجة على الناس بغير الرسالات، وهذا مما يُقْطع ببطلانه شرعًا وعقلًا.
ثم جاءت النصوص الصريحة، على اختصاص الله عز وجل بالتشريع، تأكيدًا للقضية السابقة، نحو قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ} [الشورى:21]، فأكَّد سبحانه وتعالى على اختصاصه وأحقِّيته بالتشريع، كما أَكَّد سبحانه وتعالى على ضرورة إذْنه بالعبادات والتشريعات، ومعرفة إِذْنه بذلك أن يشرعها عز وجل لعباده.
فظهر من هذا أنه لا مجال في العبادة سوى الاستسلام والطاعة، لا الاستحسان والرأي؛ لأنه لا مجال لمعرفة العبادة بالعقل.
قال ابن تيمية: «واحتجوا على أن المعرفة لا تحصل بمجرد العقل بقوله تعالى : {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللهِ}[الأحقاف:26]، وهذه الآية وأمثالها تدل على أن السمع والأبصار والأفئدة لا تنفع صاحبها مع جحده بآيات الله، فتَبَيَّنَ أن العقل الذي هو مناط التكليف لا يحصل بمجرده الإيمان النافع والمعرفة المنجية من عذاب الله، وهذا العقل شرط في العلم والتكليف لا موجبٌ له»[6].
فلا تثبت عبادة بغير الشرع، كونها توقيفية، تتوقَّف على ورود النص بها، لا يجوز لأحدٍ التعدِّي على حق الله في تشريعها، ولا الافتئات على عباد الله باختراع عبادات لهم ما أنزلها الله.
وتقوم العبادة على الاستسلام والطاعة لله، قيامًا بالعبودية، وأداءً لحق شكر نعمته على عباده، بينما تقوم العادات على مراعاة مصالح الناس.
يقول الكاساني (الحنفي): «إن العبادات و جبت لحق العبودية أو لحق شكر النعمة» [7].
وقال الشاطبي (المالكي): «الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني، أما الأول: فيدل عليه أمور: منها الاستقراء؛ فإِنَّا وجدنا الطهارة تتعدَّى محل موجبها، وكذلك الصلوات خُصَّتْ بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات..»[8].
فإذا تقرَّر هذا؛ فإنه لا يجوز لأحدٍ أن يتعبَّد الله عز وجل بما ليس مِن شريعته، خاصةً بعد ورود الوعيد لأولئك الذين يُحْدِثون في الدين؛ ويضيفون إليه ما ليس منه.
وفي الحديثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ثُمَّ قَالَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ: «أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي؛ فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ[9]: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117] فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ»[10]. وفي روايةٍ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى»[11].
قال النووي في «شرح صحيح مسلم»: «وقال الإمام الحافظ أبو عمرو بن عبد البَرّ : كلّ مَن أَحْدَث في الدِّين فهو مِن المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء, قال : وكذلك الظَّلَمَة المسرفون في الجَوْرِ وطَمْسِ الحق والمعلنون بالكبائر , قال : وكلّ هؤلاء يُخَاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر . والله أعلم» انتهى.
فانحصر الأمر بين عدة أمور لا يسع العباد الخروج منها أو التغافل عنها، وهي:
الأول: أنه لا تكليف قبل ورود الشرع.
الثاني: أن التشريع حقٌّ خالصٌ لله عز وجل لا يجوز الافتئات عليه.
الثالث: أن الإحداث في الدين منهيٌّ عنه؛ مطرودٌ صاحبه عن حوضِ النبي صلى الله عليه وسلم.
الرابع: أن الوسيلة الوحيدة إلى الله عز وجل هي رُسُل الله I ورسالاته، وكتبه التي أمرهم باتباعها.
ولهذا قال تعالى:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [12]، وقال: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[13].
قال الأزهر الشَّريف في بيانه للناس: «لاشك أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلتنا إلى الله، مِنْ حَيْثُ إِنَّه مُعَلِّم ومُرْشِد، فطاعته وحبّه أساس حب الله لِلْعَبْدِ» أهـ [14].
وقال عز وجل:{ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}[المائدة:3]، فأخبر أنه أَكْمَلَ الدين وأَتَمَّ النِّعْمَةَ، فلا يجوز الزيادة على ما أكمله الله وأَتَمَّه لعباده، بل لا يجوز اعتقاد إمكانية الزيادة على ما أكمله الله وأَتَمَّه، لما في ذلك من سوء الاعتقاد وسوء الظنِّ بالله عز وجل، ومن هنا يظهر الخطر الذي يحيط بالمبتدعة والمُحْدِثين في الدين؛ فإِنهم بإحداثهم في الدين يقولون بلسان حالهم: إِنّ الله لم يُكمل دينه، ولا أتم نعمته، فأي ضلال بعد معارضة كلام الله الواضح الصريح، وأي سوء ظنٍّ وفساد اعتقادٍ بعد رفض تصديق ما قاله الله عز وجل ؟.
فإن قيل: فكيف يعرف الناس حكم الأمور التي تحدث لهم، والتي لم يأتِ بها النص الصريح، مثل كثير من الأحكام المعاصرة؟.
فالجواب: أن الله عز وجل لم يُخل عباده من دلالة على كل ما يستجد من الأمور، في كل العصور، وما من شيءٍ إلا وقد وضع الله له دلالة في دينه، إما بالنص الصريح، أو بالقياس على مِثْلِه.
وقد سبق عن «المستصفى» للغزالي: «الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص».
وقال الشاطبي: «الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما: ما يرجع إلى النقل المحض. والثاني: ما يرجع إلى الرأي المحض، وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقرٌ إلى الآخر؛ لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل، فأما الضرب الأول: فالكتاب والسنة، وأما الثاني: فالقياس والاستدلال، ويلحق بكل واحد منهما وجوه..»[15]. وقال أيضًا: «فليس القياس من تصرفات العقول محضًّا، وإنما تصرَّفَتْ فيه من تحت نظر الأدلة، وعلى حسب ما أعطته من إطلاقٍ أو تقييدٍ، وهذا مُبَيَّنٌ في موضعه من كتاب القياس، فإِنَّا إذا دَلَّنا الشرعُ على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه مُعْتَبَرٌ، وأنه من الأمور التي قصدها الشارع وأمرَ بها ونَبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على العمل بها، فأين استقلال العقل بذلك؟ بل هو مُهْتَدٍ فيه بالأدلة الشرعية يجري بمقدار ما أَجْرَتْهُ ويقف حيث وقفته»[16].
فظهر مما سبق أن الأصل في العبادات الشرعية الحظر والمنع؛ لافتقارها إلى الشرع، بخلاف العادات والأشياء فالأصل فيها الإباحة حتى تأتي الشريعة بحظرها.
قال ابن تيمية: «تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، و أما العادات: فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله صلى الله عليه وسلم، و ذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لابد أن تكون مأمورًا بها، فما لم يثبت أنه مأمورٌ به كيف يُحكم عليه بأنه عبادة؟ و ما لم يثبت من العبادات أنه مَنْهِيٌّ عنه كيف يُحكم على أنه محظور؟ و لهذا كان أحمد و غيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معنى قوله: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}.
اللهم نصرك لغزة الذي وعدت
المفضلات