سـينـاريـوهـات يـوم الصّلـب: نـظـريّـة الإغـمـاء نـمـوذجًـا (1)
الحمد للّه ربّ العالمين وصلّى اللّه وسلّم على محمّد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.

لا تزال مسألة صلب المسيح وموته عند علماء النّصارى ومفكّريهم محلّ جدل كبير وواسع بحيث أقحمت في ذلك العلوم الاجتماعية والنّظريّات الفلسفية ما بين مؤيّد ومعارض, والكنائس بين المؤيّدين والمعارضين تحاول بكلّ جهد أن تصرف عوامّ النّصارى عن مثل هذه الفلسفات الدّينية منعًا لعقيدة التّذبذب أو التّشكيك التي قد تحلّ بالمسيحي التي تعتبر أساس الخلاص المسيحي وركيزة الإيمان الذي به يتقرّر الإعتقاد. وما أريد أن أتكلّم فيه في هذا المقال هو مناقشة النّظرية القائلة بأنّ المسيح لم يمت على الصّليب وأنّه نجا من الموت لإغماء حصل له.

وقبل أن أدخل في شرح نظريّة الإغماء, يحسن أن أذكر أشهر أصول النّظريّات الثيولوجية المتعلّقة بصلب المسيح عليه السّلام:

1- النّظريّة العامّة: والتي يؤمن بها غالبيّة طوائف النّصارى أنّ المسيح مات على الصّليب ثمّ قام في اليوم الثّالث.

2- النّظرية الهلوسينيّة (Hallucination Theory) : (الهلوسة) وتقول هذه النّظريّة أنّ المسيح عليه السّلام مات على الصّليب ولم يقم من الموت, لكنّ من كانوا حاضرين حوله حصل لهم نوع من الهلوسة أو التّخيّل بحيث خيّل إليهم أنّه عاد إلى الحياة وقام من الأموات.

3- النّظرية التآمريّة(Deception Theory ): وتنصّ أنّ المسيح مات على الصّليب ولم يقم من الموت, لكنّ أصحابه تآمروا على إخفاء الحقيقة ونشروا خبر حياته انتقامًا للكبت النّفسي والاضطهاد والحزن الذي حصل لهم من موته, فعمدوا إلى نشر خبر حياته بعد ثلاثة أيّام ليلاقوا بهذا الخبر نوعًا من العزاء لهم على فقدانه, وتفرّع منها أيضًا ما يسمّى بنظريّة الجسد المسروق, وهو أنّ أصحابه سرقوا جسده بعد دفنه, ثمّ ادّعوا أنّه قام من الأموات مستندين إلى الأعداد 13 إلى 15 من الإصحاح الأخير من إنجيل متّى.

4- نظريّة الإغماء(Swoon Theory ) : وتنصّ أنّ المسيح لم يمت على الصّليب أصلاً, وهذا المتعارف عند هذه النّظريّة هو جزء من نظريّة أعمق تشرح هذه النّظريّة وتسمّى الدوسيتية ( Docetism Theory ) , وتنصّ على أنّ المسيح لم تكن له طبيعة جسدية, ولذلك فإرهاصات الموت والقتل لم تبلغ مبلغها في "الحقيقة الظّاهرة الغير جسدية" التي كانت تظهر لمشاهديه إلاّ بمقدار الكشف الباطني والذي تمثّل في الإغماء, ولعلّي أشرح هذه النّظريّة بمزيد من التّفصيل في ثنايا هذا البحث.

وما يهمّنا هنا نظريّة الإغماء, والتي بدورها تحتوي العديد من الآراء والفلسفات في تبرير المحور الأساسي في نجاة المسيح من الموت على الصّليب, ويصرّ القائلون بنظرية الإغماء أنّ لهم كامل الأدلّة من الكتاب المقدّس لإثبات صحّة نظريّاتهم .وأوّل هذه الآراء تقول أنّ أحد أطبّاء الجماعة السّرّيّة "الآسينيّين" أعطى المسيح دواء مخدّرًا جعله يظهر بمظهر المغمى عليه علىالصّليب, ولمّا طلب يوسف الذي من الرّامة جسده من بيلاطس أعطى له دواء آخر فاستفاق من غيبوبته. رأي آخر يقول أنّ الدّواء أعطي له وهو على الصّليب, ودليلهم من إنجيل متى 27:49"وللوقت ركض واحد منهم وأخذ اسفنجة وملأها خلاًَ وجعلها على قصبة وسقاه", ويتكرّر النّصّ الآخر في إنجيل مرقص15:36:" فركض واحد وملأ اسفنجة خلاًّ وجعلها على قصبة وسقاه"اهـ إذ ما معنى أن يعطى مصلوبًا ينتظر أن يموت خلاًّ في اسفنجة, فلا هي ترويه من ظمأ ولا هي تنجيه من موت. وقيل أيضًا أنّ المسيح استفاق من إغمائه بمساعدة أحد الذين مرّوا عليه وهو في القبر وهي مريم المجدليّة, وقال البعض أنّ يوسف الذي من الرّامة ومريم المجدلية ومريم الأخرى كانوا على علم بأنّه لم يمت ولهذا جهّزوا العطر والأثواب البيضاء وتبعوه إلى حيث القبر, والمسيح نفسه أقرّ بذلك حينما وجدها في المقبرة وأخبرها كيف تبحثين عن حيّ بين الأموات ؟ ويتساءل الكثيرون من المناصرين لهذه الرّأي عن سبب اهتمام يوسف الذي من الرّامة بجسد المسيح وهو ميّت, ولماذا طلبه من بيلاطس إلاّ أن يكون ذلك خطّة مدروسة من أجل أن ينجيه من هذه المؤامرة السّياسيّة (راجع كتاب الدّم الأقدس, الكأس الأقدس).

دليل آخر يطرحه أنصار هذه النّظريّة وهو أنّه كيف لما أتى يوسف الذي من الرّامة لطلب جسد المسيح من بيلاطس, تعجّب بيلاطس كيف مات المسيح بهذه السّرعة وهو المشرف على الصّلب, كما جاء في مرقص:"وجاء إلى بيلاطس (أي يوسف) وطلب جسد يسوع, فتعجّب بيلاطس أنّه مات هكذا سريعًا فدعا قائد المائة وسأله هل له زمان قد مات؟". وكذلك من أدلّتهم ما جاء في إنجيل يوحنّا 19:21 حينما أدرك اليهود غروب الشّمس وأرادوا التّخلّص من موت الأجساد المصلوبة قبل الغروب لحلول يوم السّبت وقد نهوا عن ذلك, (لأنّ الصّلب المزعوم كان يوم الجمعة), فعمدوا إلى تكسير سيقان المصلوبَين لتسريع موتهما, ولمّا وصلوا لتكسير سيقان المسيح لم يكسروهما لأنّه وجدوه قد مات !, وتساءلوا كيف أدرك اليهود أنّ المسيح قد مات وبالتّالي لم تكسر سيقانه ؟

وهكذا ترى أنّ الأدلّة التي يتّكأ عليها أصحاب هذه النّظريّة من الكتاب المقدّس لها وجاهتها على اعتبار صحّة الكتاب المقدّس, ولا مجال للمعترضين من جمهور النّصارى أن ينكروا مثل هذه النّصوص الصّريحة في ذلك. والحقيقة أنّ مثل هذا الزّعم من عقلاء النّصارى وعلمائهم يحرج كثيرًا من رهبان الكنائس وقساوستهم, سرعان ما يكتفي أولئك القساوسة وأرباب الكنائس بإصدار فتاوى بكفر وهرطقة القائلين بهذه النّظريّة مفضّلين عدم الخوض في الرّدّ على تلك الشّكوك لعلمهم أنّهم يخوضون معركة قد يكونون الطّرف الخاسر فيها.

ولقد حاولتُ مرّات أن أبحث عن ردود علميّة من الكنائس وجمهور النّصارى تجاه مثل هذه الاتّهامات, فلم أجد شيئًا ذال بال مقارنة مع ردودهم على أفكار ونظريّات أخرى, وهذا ما جعل مثل هذه النّظريّة الآن تروج رواجًا كبيرًا. والسّبب في رأيي يرجع إلى شيئ مهمّ اصطلحتُ مبدئيًّا على تسميته ب"نظريّة بقاء الأفكار وتطوّرها في الفكر النّصراني" Process of the Idea Surviving and Development in Christian Dogma, وأقرّر فيه أنّ الكفر المسيحي الثيولوجي حينما يريد دحض نظريّة من النّظريّات التي يراها دخيلة على فكره, لا يسعه أن ينكرها إلاّ بحدود ماهو مسلّم عنده في الكتاب المقدّس, فدحضه لها يكون أساسًا على التفنيد الحرفي من النّصوص المسلّمة لديهم, هذا التّفنيد إذا ابتدأ في الفكر المسيحي على مرّ الزّمن فإنّه يساعد على زوال الفكرة وتحجيمها بقدر قوّة هذا التّفنيد ونشاط أصحابه, وبالعكس من ذلك إذا كانت أسس الفكرة منطلقة من القوّة التي تعتمد عليها الكنيسة في التّفنيد والتي هي الكتاب المقدّس, فإنّ الكنيسة تعجز عن دحض الفكرة وتفنيدها ومحاربتها ممّا يكسب الفكرة بقاء وتطوّرًا على مدى التّاريخ وتتشبّع بالمزيد من الرّكائز لا على أساس صحّتها, وإنّما على أساس مخالفتها للكنيسة, بغضّ النّظر طبعًا على صحّتها من بطلانها.

ونظريّة الإغماء من هذا النّوع من الأفكار التي لم تلق مصارعة بيّنة من الكنيسة لاكتسابها قوّة من الكتاب المقدّس نفسه, فجرّ الأمر بعد هذا ليس إلى مناقشة الفكرة نفسها وإنّما مناقشة نصوص الكتاب المقدّس وإعادة قرائته قراءة علمية تاريخية استقصائية.

ورغم أنّ القائلين بنظريّة الإغماء اتّفقوا على أنّ المسيح لم يمت على الصّليب, إلاّ أنّهم اختلفوا في مجريات الأحداث بعد إنزال الجسد المزعوم من الصّليب إلى روايات وأقوال عديدة, وقد أحصيتُ على الأقلّ خمسة عشر قولاً, وفي كلّ مرّة أزداد يقينًا بقول اللّه تعالى:"مالهم به من علم إلاّ اتّباع الظّنّ ". وقد أخذتُ من بين هذه الأقوال أشهر قولين للحديث عنهما, الأوّل وهو قول أصحاب كتاب الكأس الأقدس الدّم الأقدس, أو ما يعرف بحركة الصّحوة العقليّة للمسيحية, والثّاني وهو قول القاديانية.

-نظرية الإغماء عند أصحاب الصّحوة العقلية المسيحية: منذ أن أصدر الباحثون المسيحيون ميشال بريجنت وريشارد ليذ سنة 1982, بدأت بوادر هذه الحركة التّشكيكية في الظّهور مرّة أخرى, وبرزت معها نظريّة الإغماء بالشّكل الذي كان يروّج له فريدريك باهدرت في القرن الثّامن عشر, وتبعه بعد ذلك علماء مسيحيون آخرون كفنتوريني وهنريك بولوس, ولقد صدق ما كنت توقّعتُه منذ سنتين حينما فرغتُ من قراءة الكتب الثّلاثة لميشال بريجنت وريشارد ليث ولينكون خاصّة كتاب الكأس الأقدس الدّم الأقدس, فقد كنتُ توقّعتُ أن تنتشر هذه الفكرة وترتكز دعائمها, وها قد ألّفت في هذا الرّواية المعروفة شفرة دافنشي التي أشارت ضجّة كبرى, كما كتبت في هذه الفكرة عشرات الكتب التي تدعّم أفكار هذا الكتاب ومن بينها نظريّة الإغماء, وآخر الأخبار كما علمت من يومين فقط أنّ مؤلّف كتاب الكأس الأقدس الدّم الأقدس قد أصدر هذا الشّهر آخر كتب له واسمه:"أوراق عيسى"ولم أطّلع عليه بعد. أمّا تفاصيل ما تروّجه هذه الكتب من أنّ المسيح لم يمت على الصّليب وأنّه تزوّج مريم المجدلية وولدت له بنتًا وسلالته لا تزال إلى حدّ الآن في جنوب فرنسا إلى غير ذلك من النّظريّات التي تعتبر هرطقة في العقيدة المسيحيّة.

-نظريّة الإغماء عند الميرزا غلام أحمد: أخذ ميرزا غلام أحمد نظريّة الإغماء, لكنّه أضاف ادّعاء جديدًا لم يكن عند أولئك الذي قالوا بالنّظريّة أوّل مرّة, فقد زعم أنّ المسيح لم يمت على الصّليب بل أغمي عليه ودفن ثمّ هرب إلى الهند وهناك عاش إلى أن مات موتةً طبيعيّة ودفن في كشمير وقبره معروف في سرنجار, وقد قرّر الميرزا هذا في كتابه :"المسيح في الهند", ويستدلّ بهذا بتفسيره الإيواء في قوله تعالى: "وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين". وسأعود إلى هذه النّقطة حينما أتكلّم على نظريّة الإغماء من رؤية شرعيّة.

ومن المعلوم أنّ طبيعة المسيح عليه السّلام من المسائل الشّائكة في العقيدة النّصرانية لا يزال الجدل فيها واسعًا عند الثّيولوجييّن النّصارى وعلماء اللاهوت حتّى اتّخذت أبعادًا فلسفيّة أدّت إلى خلافات جوهريّة بين الطّوائف المسيحيّة, فمنذ مجمع نيقيّة في القرن الرّابع ميلادي ومنذ قتل الموحّد المسلم آريوس السّكندري (رحمه اللّه) من قبل الكنيسة, لا يزال الخلاف على أشدّه في طبيعة المسيح, ومنها النّظرية الغنوصيّة القائلة بأنّ المسيح عليه السّلام له طبيعة روحيّة ولم يكن له جسد بشري إلاّ ما تبيّن للنّاس تصوّره بسسب نورانيّة روحه فاتّخذ جسمًا خياليًا, وسمّيت هذه فيما بعد بالدّوسيتية, وهي كلمة يونانية أصلها "دوكين" بمعنى يظهر أو يتجلّى, وهذه النّظرية في الواقع انتقلت من الفلسفات الوثنية القديمة واعتمدها الفيلسوف المشهور فيلو, صاحب النّص الشّهير: "في البدء كانت الكلمة, وكانت الكلمة مع اللّه, وكانت الكلمة اللّه" هذا النّص الذي هو الآن أوّل جملة من إنجيل يوحنّا, ومن هنا فإنّ الدّوسيتيّين يفسّرون جميع الألم والعذاب التي زُعم أن المسيح تعرّض له بأنّه تقلّب روحه في النّعيم اللاّهوتي, والذي يظهر لأصحاب أجساد الخطيئة من العالم السّفلي أنّه عذاب وألم وشقاء نتيجة أرواحهم الغارقة في الخطيئة, فلا فرق عندهم بين المسيح قبل الصّلب وبعده, ومن هذا المنطلق فإنّ القتل لم يكن حاصلاً لجسده لأنّه لم يمسّ العالم الأرضي, وماظهر لمشاهديه من قتل إنّما هي حالة الإغماء تكون أشبه بحدّ التّماس بين العالمين العلوي والسّفلي من أجل حدوث تطهير الخطايا, فهو إذن عرض دون جوهر (بالمصطلح الفلسفي) معتمد على الخيال Phantom)) !, هذه النّظريّة الغنوصيّة وجدت أيضًا صداها بين الفلسفة الإسلامية وتطوّرت لتأخذ أبعاد وحدة الوجود ومن دعا إليها كابن عربي والحلاّج وابن سبعين والسّهروردي وغيرهم.

ويربط بعض أعداء الإسلام من نصارى ويهود وملحدين بين الإسلام وبين النّظريّة ويعتمدون على قوله تعالى:"ولكن شبّه لهم", وهو لا شكّ استدلال باطل لأنّ الإسلام يقرّر حقيقة المسيح الجسديّة بكلّ وضوح وأنّه بشر له طبيعة بشريّة, يبقى الأمر الذي يحتاج إلى استفاضة هو نظريّات تفنيد الصّلب في الإسلام وهل لمسألة الإغماء وجه شرعيّ في نجاة المسيح من القتل والصّلب. هذا موضوع المقال القادم باذن اللّه تعالى.

يتبع باذن اللّه..