
-
سفينة نوح والتيتانك
فلك نجاةٍ وفلك هلاك
سفينة نوح والتيتانيك
مقامة أدبية
في يومٍ من أيّام نيسان الدافئ.. والشمس تبتسمُ لجمال البحر الهادئ.. والأمواج تتكسّرُ بلطفٍ على الشاطئ.. أبحر أبو يوسف بمركبه بعيداً عن المرافئ.. ونشرَ شِباكهُ القويّة.. ليصيد لحماً طرِيّاً.. ويحمِلَ لأهلِهِ رزقاً سخيّاً..
جلس على مركبِهِ يتأمّلُ السماء والبحر.. ويُرَطِّبُ لِسانهُ بالذِّكر.. ويُعمِلُ عقلهُ بالفكر.. كان يُمارِسُ عبادةً منسيّةً لكثيرٍ من المؤمنين.. وهوايةً مطويّةً عن كثيرٍ من المنشغلين.. إنّها عبادة التأمّل.. وإطلاق العنان للعقل للتجوُّل.. أمام قُنوت البحر للخالق الجليل.. تملًكَ أبا يوسفَ إحساسٌ جميل.. وكأنّهُ بِنوحٍ عليه السلام يصنعُ الفُلكَ الكبير.. يجمعُ اللوح إلى اللوحِ ويُثبّتهما بالمسامير.. كانت فُلكاً بدائيّةً، لا عرفت المُحرّكات ولا المعايير.. ومع ذلك صمدت في موجٍ كالجِبال.. فلا اخترقها موجٌ ولا أغرقها شلّال.. لقد كان من عليها قوماً صالحين.. اتُّهِموا لإيمانهم بالأراذلِ والكذّابين.. قوماً عرفوا نعمةَ الله فشكروها.. واهتدوا لطريق النجاة فسلكوها..
أدار أبو يوسف وجهه بالاتّجاه الآخر الحزين.. ليرى مشهداً مُغايراً لا يسُرُّ النّاظرين.. مشهد قومٍ سخّرَ الله لهم السماء وما أنزلت.. والأرض وما أخرجت.. وأراهم الآيات وآتاهم البيّنات.. فما زادهم العلم إلّا غروراً.. وما زادتهم القوّةُ إلّا شُروراً.. وأمّا الآيات والبيّنات فما زادتهم إلّا نفوراً.. عام ألفٍ وتسعمئةٍ واثني عشر.. صُنِعت سفينةٌ من أروع ما أبدع البشر.. عُدَّت في وقتها من أعظم سُفُنِ السّفر.. احتشدَ لصنعها صفوةٌ من مهندسي وعلماء العصر.. استعانوا بأحدث تقنيّةٍ متوفّرةٍ في ذلك الزّمان.. وزوّدوها بأحسنَ ما ابتكرت عقولهم من مظاهر الأمان.. فكانت تيتانيك السفينةَ التي لا تغرق.. الماردَ الجبّار الذي لا يُخرَق.. كأنّها بنايةٌ من أحد عشر طابقاً متطاولة.. وعرضُها يُعادل أربعة أبنيةٍ متجاورة.. وما لا يقلّ عن الضخامة درجةُ الفخامة: في كلّ ركنٍ من صالاتها وحُجُراتها سائدة.. لم يُهمل من زينتها شيءٌ حتى حليةُ المائدة..
وفي اليوم الذي مخرَت فيه الماء.. في زهوٍ وخُيلاء.. غطّت راياتها السماء.. وهزّت موسيقاها الأجواء.. وخشعت الجماهير الممتدّةُ لفتنتها.. وتوحّدت الصحافة باتّجاه قبلتها..
في ذلك اليوم.. نظر أهلُها إلى حجم الإنجاز الضخم.. وتملّكهم الغرور بقوّتها وألقها.. وفرِحوا بما عندهم من العلم.. وقالوا:"حتّى الربُّ لا يستطيعُ أن يغرقها"..
لقد أنساهم قليلُ العلم جهلَهم.. وقليلُ القوّة ضعفَهم.. وأنّ الفضلَ لله وليس لهم.. واستخفّهمُ البريقُ وسخرَ الشيطانُ بهم.. وظنّوا أنّهم بسفينة استغنوا عن ربّهم..
وعلى ظهرها لم يُغادروا شيئاً من ألوان المعصية والفجور.. مارسوا اللهو ولعبوا القمار وشربوا الخمور.. وهكذا قطَعَت شوطاً كبيراً من الرحلة.. وأهلُها في خفّةٍ ولهوٍ وغفلة..
وفي ليلةٍ باردةٍ من ليالي نيسان.. والقمرُ في إجازةٍ والبحرُ نعسان.. أوى إلى فراشه مطمئنّاً القبطان.. متوكّلاً على ما في سفينته من وسائل الأمان.. وأهلُ السفينة بهناءٍ نائمون.. أو في صالات اللهو سامِرون.. فقد كمُلت السفينة بما لديها.. وظنّ أهلُها أنّهم قادرون عليها..
وبعد قليلٍ دخلت السفينة منطقة جليد.. وكانت تسير بسرعة الواثق العنيد.. اصطدمت بجبلٍ جليديٍّ بحجم الوتد.. اصطداماً خفيفاً لم يكترث له أحد.. إلى أن توقّفت السفينة بأكملها.. وتمّ اكتشاف كسرٍ صغيرٍ في أسفلها.. مما أقلق الطاقَمَ فأعلنوا إخلاء المركب.. لكنّ الرّكاب كانوا بين ساخرٍ ومُكذِّب.. وبعد لحظاتٍ كان لا بُدَّ من تصديق مالا يُصدَّق.. التيتانيك بالفعل بدأت تغرق!
في ظلمة الليل الدامس.. وقسوة البرد القارس.. أين القوّة والفخر.. أم أين العزّة والكِبر.. والعلماء وأصحاب الأمر؟ "قُل من يُنجّيكم من ظُلُماتِ البرِّ والبحر"؟
فجأةً غرق طرفٌ وارتفع الطرف الآخر إلى السماء.. وجاءهم الخوف من كلّ الأنحاء.. وتعطّلَ نظام الكهرُباء البديع وانطفأت القناديل.. وتبدّلَ الهدوء والأمان إلى صراخٍ وعويل.. حتى إذا أيقنوا بالهلاك دعوا الله مخلصين له الدّين.. وبعد أن انقطعت بهم الأسباب رفعوا أيديهم لربّ العالمين..
لم تُغنِ عنهم القوارب ولا سُتَرُ النّجاة.. ونداءات الـ"SOS " المتكررة قوبِلت باللامُبالاة.. بالكاد حشروا النساء والأطفال في القوارب.. ومن تبقّى من القومِ لا محالة هالك.. كانت درجةُ الماء تحت الصفر.. صقيعٌ أشدُّ على العظامِ والأعصابِ من حرِّ الجمر.. شقّت السفينة التي لا تغرق طريقها إلى القعر.. وخلال أقل من ثلاث ساعاتٍ لم يبقَ لها أثر..
السفينة التي امتلأت بالزهو وغرور النّفس.. واللهو والرّقص.. كأن لم تغنَ بالأمس..
عاد أبو يوسف إلى أهله وقد امتلأت شباكه صيداً ثميناً.. والأهمّ من ذلك امتلأ قلبه إيماناً ويقيناً..
بسم الله الرحمن الرحيم: "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشدّ قوّةً وآثاراً في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (82) فلمّا جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (83) فلمّا رأوا بأسنا قالوا أمنّا بالله وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين (84) فلم يكُ ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا سنّة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون (85)". (غافر)
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة 3abd Arahman في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 23
آخر مشاركة: 20-12-2010, 02:57 PM
-
بواسطة مريم في المنتدى قسم الأطفال
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 27-03-2010, 02:00 AM
-
بواسطة الاشبيلي في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 21-02-2008, 06:22 PM
-
بواسطة Confused_man في المنتدى الإعجاز العلمي فى القرأن الكريم والسنة النبوية
مشاركات: 8
آخر مشاركة: 16-09-2006, 09:52 AM
-
بواسطة أقوى جند الله في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 27-05-2006, 09:01 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات