حرِّروا أرواحكم من شواغل الحياة تســـعدوا
اجتمعت قريش في دار الندوة تدبر كيدها للنبيوللدعوة التي جاءهم بها، فبلغ ذلك رسول الله
فاغتمَّ له، والتف بثيابه، وتزمل، ونام مهموماً، فجاءه جبريل عليه السلام بشطر سورة المزمل الأول: يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا.
لقد كان اختيار الرسوللهذه العزلة طرفاً من تدبير الله له، ليهيئه لما ينتظره من الأمر العظيم، ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه، ويخلُص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة، ويفرُغ لموحيات الكون، ودلائل الإبداع، وتسبح روحه مع روح الوجود، وما هذه العزلة إلا لإعداده لحمل الأمانة الكبرى، ولتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ، فبعد أن جاءه التكليف والصدع بالحق، علم الرسول
أنه لم يعد هناك نوم، وأن هنالك تكليفاً ثقيلاً، وجهاداً طويلاً، فما أن قيل لرسول الله
: قم حتى قام، وظل قائماً بعدها عشرين عاماً، لم يسترح، ولم يسكن، ولم يعش لنفسه، ولا لأهله، بل قام، وظل قائماً على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ، ولا ينوء به: عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض... عبء البشرية كلها.. عبء العقيدة، والكفاح، والجهاد.
فيا أيها الدعاة: تخلصوا من أثقال الأرض وجواذبها، وألقوا عن كواهلكم أوهاق الشهوات وأغلالها حتى إذا خلُص هذا الضمير الإنساني مما يثقله من ركام الجاهلية، والحياة الأرضية بدأ معركة أخرى في ميدان آخر.. بل معارك مع أعداء الدعوة المتألبين عليها وعلى المؤمنين بها، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها، فمعركة الضمير معركة خالدة يعترك معها الداعية طوال حياته فلا يتأثر، بل يجب عليه أن يمضي قدماً في حياته، ودعوته، وحركته، وهكذا قام محمد، وهكذا عاش في المعركة الدائمة المستمرة عشرين عاماً، لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمر منذ أن سمع النداء العلوي الجليل، وتلقى منه التكليف الرهيب.. جزاه الله عنا، وعن البشرية كلها، خير الجزاء.
لاشك أيها الداعية في أن الاستجابة للنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم بحاجة للإعداد الكامل للقيام بهذا العبء الجسمي من قيام ليل، وصلاة، وترتيل للقرآن، والذكر الخاشع المتبتل، والاتكال على الله وحده، والصبر على الأذى، والهجر الجميل للمكذبين.
أيها الأخوة:
قوموا لأمر الله الذي ينتظركم، والعبء الثقيل المهيأ لكم، قوموا للجهد، والنصب، والكد، والتعب، قوموا فقد مضى وقت النوم والراحة، فالذي يعيش لنفسه يعيش مستريحاً، لكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير، فما له والنوم؟؟ فما له والراحة؟؟ فما له والفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح.
ولقد عرف رسول الله
حقيقة الأمر وقدَّره، فقال لخديجة ـ رضي الله عنها ـ وهي تدعوه لأن يطمئن، وينام "مضى عهد النوم يا خديجة". أجل: مضى عهد النوم، وما عاد منذ اليوم إلا السهر، والتعب، والجهاد الطويل الشاق، فالله عز وجل أعدَّ رسوله لهذا التكليف بالزاد الإيماني العميق في قوله تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا، وكما تعلمون، فإن القرآن في مبناه ليس ثقيلاً، فهو مُيسَّر للذكر، لكنه ثقيل في ميزان الحق، في أثره بالقلب، وتبعته الثقيلة.
لا تستطيلوا الطريق فرسولكم ص عاش للدعوة، ومات للدعوة، وترك الراحة، والدعة من أجل النداء العلوي الكريم، فاجعلوها قضيتكم وهمكم، قال تعالى:
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين 139 إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين 140 (آل عمران).
المفضلات