محاضرة ( آثار الذنوب على الفرد والمجتمع )
عبدالرحمن السحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ.>
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
< يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أمـا بعـد :.
فإن للطاعةِ من البركةِ ما يبقى حتى بعدَ موتِ صاحِبِها. قال سبحانه :
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) وقال سبحانه في قصة موسى مع الْخَضِر : (
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ .
فَحَفِظ الله الأبناء بصلاح الآباء ، وذلك من بركة الطاعة .
وإن للمعصية ضرراً وشؤماً يلحقُ صاحبَها ولو بعد الموت ، قال سبحانه عن آل فرعون
(فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)
وقال جل جلاله عن بني إسرائيل : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا) [الأعراف:166-168] .
قال ابن القيم – رحمه الله – :[COLOR=Blue] وما الذي أخرجَ الأبوينِ من الجنّةِ دارَ النَّعيمِ والبهجَةِ والسرور إلى دارِ الآلام والأحزانِ والمصائب ؟وما الذي أخرجَ إبليسَ من ملكوتِ السماءِ وطردَه ولَعَنَه ، ومسخَ ظاهرَه وباطنَه ، فَجَعَلَ صورتَهُ أقبحَ صورةٍ وأشنَعها ، وباطِنَه أقبحَ من صورتِه وأشْنَع ، وبُدِّلَ بالقربِ بُعداً ، وبالرحمةِ لَعْنَةً ، وبالجمالِ قُبْحَاً ، وبالجنة ناراً تلظى ، وبالإيمان كفرا ، وبموالاةِ الوليِّ الحميدِ أعظمَ عداوةٍ ومُشاقّةٍ ، وبِزَجَلِ التسبيحِ والتقديسِ والتهليلِ زَجَلَ الكفرِ والشركِ والكَذِبِ والزورِ والفحش .
وبلباسِ الإيمانِ لباسَ الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ ، فهانَ على الله غايةَ الهوانِ ، وسَقَطَ من عينه غايةَ السقوطِ وحَلَّ عليه غضبُ الربِّ تعالى فأهْواهُ ، ومَقَتَهُ أكبرَ المقتِ فأرداهُ ، فصار قَوّاداً لكل فاسقٍ ومجرم . رضي لنفسه بالقيادةِ بعد تلك العبادةِ والسيادةِ ! فَعِيَاذاً بك اللهمَّ من مخالفةِ أمرِك ، وارتكابِ نـهيِك .
-ماالذي أغرقَ أهلَ الأرضِ كلَّهم حتى علا الماءُ فوقَ رؤوسِ الجبال ؟ وما الذي سلطَ الريحَ على قومِ عادٍ حتى ألقتْهُم موتى على وجهِ الأرضِ ، كأنـهم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ ؟ ودَمَّرَتْ ما مَرَّتْ عليه مِنْ ديارِهم وحروثِهم وزروعِهم ودوابِّـهم ، حتى صاروا عبرةً للأمـمِ إلى يومِ القيامة .
-ما الذي أرسلَ على قومِ ثمودَ الصيحةَ حتى قَطّعَتْ قلوبَـهم في أجوافِهم ، وماتوا عن آخرهم
وما الذي رفعَ قرى اللوطيةِ حتى سَمِعَتْ الملائكةُ نبيحَ كلابِـهم ، ثم قَلَبَهَا عليهم فجعل عاليَها سافِلَها فأهلكَم جميعا ، ثم أتْبَعَهُم حجارةً من السماءِ أمطرَها عليهم ؟ فَجَمَعَ عليهم مِن العقوبةِ ما لم يَجْمَعْهُ على أُمّـةٍ غيرِهم ، ولإخوانـهم أمثالُها ، وما هي من الظالمين ببعيد .
وما الذي أرسلَ على قومِ شُعيبٍ سحابَ العذابِ كالظُّلَلِ ، فلما صار فوقَ رؤوسهم أمطرَ عليهم ناراً تلظى ؟
وما الذي أغرقَ فرعونَ وقومَه في البحر ، ثم نَقَلَ أرواحَهم إلى جهنمَ ؛ فالأجسادُ للغرقِ ، والأرواحِ للحَرَقِ ؟
وما الذي خسفَ بقارونَ وداره ومالِهِ وأهلِه ؟
وما الذي أهلكَ القرونَ من بعد نوحٍ بأنواعِ العقوباتِ ودمَّرها تدميرا ؟
وما الذي بعثَ على بني إسرائيل قوماً أولي بأسٍ شديدٍ فجاسُوا خلالَ الديارِ ، وقَتَّلُوا الرجال ، وسَبَوا الذراريَ والنساء ، وأحرقوا الديارَ ونـهبوا الأموالَ ، ثم بعثهم عليهم مرةً ثانيةً فأهْلَكُوا ما قَدَرُوا عليه ، وتَبَّرُوا ما علو تتبـيرا ؟
إنـها الذنوبُ المهلكات .
قال سبحانه :
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ)
وقال جل جلاله (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)
وصدق الله (
فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
إن الذّنوب تُورِث الذِّلّـة والمهانة .
روى الإمام أحمدُ في الزُّهد وغيرُه عن جُبيرِ بنِ نُفيْر قال : لما فُتِحَتْ قبرص فُرِّقَ بين أهلِها فبكى بعضُهم إلى بعض ، ورأيتُ أبا الدرداءِ جالساً وحدَه يبكي ، فقلتُ : يا أبا الدرداء ! ما يبكيكَ في يومٍ أعـزَّ اللهُ فيه الإسلامَ وأهلَه ؟ قال : ويحَك يا جبير ؛ ما أهونَ الخلقِ على اللهِ إذا أضاعوا أمرَه . بينا هي أمةٌ قاهرةٌ ظاهرةٌ لهم الملكُ ، تركوا أمرَ اللهِ فَصَارُوا إلى ما ترى إنه ليس هناك أحدٌ بينه وبين الله نَسب ، ولذا قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه . رواه مسلم .
فَعَمَلُ المسلم هو حسبُه ونسبُه وهو فخره وشرفُه في الدنيا والآخرة .
كم رفَعَ العِلم أقواماً ، وكم خفض الجهل آخرين .
كان عطاء ابن أبي رباح عُبيداً أسوداً لامرأة من مكة وكان أنفه كأنه باقلاء ، فجاءه سليمان بن عبدالملك وهو أمير المؤمنين جاء هو وابناه إلى عطاء ، فجلسوا إليه وهو يصلي فلما صلى انفتل إليهم ، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج ، وقد حوّل قفاه إليهم ثم قال سليمان لابنيه : قوما ؛ فقاما ، فقال : يا بَني لاتَنِيَا في طلب العلم ، فإني لا أنسى ذلّنا بين يدي هذا العبد الأسود .
وكان محمد بن عبد الرحمن الأوقص عنقُه داخلٌ في بدنه ، وكان منكباه خارجين كأنهما زُجّان ، فقالت أمه : يا بني لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوكَ منه المسخورَ به ، فعليك بطلب العلم ؛ فإنه يرفعك ، فولى قضاء مكة عشرين سنة ، وكان الخصم إذا جلس اليه بين يديه يرعد حتى يقوم . ومرت به امرأة وهو يقول : اللهم اعتق رقبتي من النار ، فقالت له : يا ابن أخي وأي رقبة لك !
فالعلم الذي يُثمر تقوى الله والبعد عن معصيته هو العلم الحقيقي ، فإن مَن كان بالله أعرف كان منه أخوف .
إنه لو لم يكن من شؤم المعصيةِ إلا أن صاحبَها وإن مضى في الغابرين ، وذهَبَ في الذّاهبين لا يزالُ يُكتبُ عليه إثـمُها ، ويجري عليه عذابُها ، إذا كانت متعدية .
قال النبيُّ 
:
« لا تُقتلُ نفسٌ ظُلما إلا كان على ابنِ آدمَ الأولِ كفلٌ مِنْ دمها لأنه أولُ من سَنَّ القتل » رواه البخاري ومسلم .
ومثله آثام المُغنّين والمُغنّيات ، وسائر أهل الفجور الذين لا تزال معاصيهم بين الناس عبر الأشرطة المرئية والمسموعة ، فإنه كلما استمعها مُستَمِع أو شاهدها مُشاهِد كُتِبَ عليهم مثل آثام مَن استمع أو شاهَد، ويتوب الله على مَن تاب .
يدلّ على ذلك قوله 
:
« من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجـرهـا وأجـر مـن عمل بها بعده مِن غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده مِن غير أن ينقص من أوزارهم شيء » رواه مسلم
قال ابن القيم :
ومن آثار الذنوب والمعاصي إنها تحدث في الارض أنواعا من الفساد في المياه والهواء والزرع والثمار والمساكن قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41] ، فالمراد بالفساد والنقص والشر والالآم التي يُحدثها الله فى الأرض بمعاصي العباد ، فكل ما أحدثوا ذنبا أحدث لهم عقوبة ، كما قال بعض السلف :كل ما أحدَثْتُم ذنبا أحدَث الله لكم من سلطانه عقوبة ، والظاهر والله أعلم أن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها ، ويدل عليه قوله تعالى : (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) فهذا حالنا ، وإنما إذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا ، فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة .
ومن تأثير معاصي الله في الأرض ما يحل بها من الخسف والزلازل ويمحق بركتها ، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديار ثمود فمنعهم من دخول ديارهم إلا وهم باكُون ، ومَن شُرب مياهِهم ، ومن الاستسقاء من أبيارهم لتأثير شؤم المعصية في الماء ، وكذلك شؤم تأثير الذنوب فى نقص الثمار ، وما ترى به من الآفات ، وقد ذكر الإمام أحمد فى مسنده فى ضمن حديث قال : وُجِدَتْ في خزائن بعض بني أمية حنطةٌ الحبة بقدر نواة التمرة ، وهي في صرةٍ مكتوب عليها : كان هذا يَنْبُتْ في زمن من العدل .
وكثير من هذه الآفات أحدثها الله سبحانه وتعالى بما أحدث العباد من الذنوب .اهـ .
المفضلات