الفصل الرابع
الإيضاح القطعي للمعنى الحقيقي
للإنجيل
- 16 -
(وظيفة خاصة تنحصر في إصلاح الأمة الموسوية وإرشادها ونفخ الروح الجديدة وإعطاء
اللدنات لدين موسى)
يجب أن تقرأ وتطالع الكتب السماوية مهما كانت مضطربة ومحرفة بكل عناية واحترام لان كلام الله وآياته الجليلة لا تزال باقية بين هذه الكتابات المحرفة والمشوبة بالخرافيات ، في إمكانكم أن تطيلوا اللسان على المحرفين ولكن ليس لنا أن تستهزئ بالكتاب الذي لا ذنب له البتة ولهذا السبب أراني مضطراً إلى تكرار التنبيه على أن لا يشجع أحد على ترجمة التآليف المشهورة بالفرنسية والإنجليزية ضد الإنجيل والتوراة. وان يجتنب المسلمون هذه النشرات الملوثة بالهذيان ، لان كل ما نشر من المصنفات ضد الإنجيل والتوراة لحد الآن لم يفد غير إيراث الضرر والخلل للدين والإيمان ، ونحن عندما نطالع الكتب الحاملة اسم الإنجيل والتوراة الشريفين فطالعهما بكل احترام كسائر المسلمين المستقيمين طالبي الحقيقة ، مفكرين بان في هذه الكتب حقيقة لا تزال مكتومة مستورة فلنجتهد بقراءتها آملين أن نكشف عن تلك الحقيقة على كل حال .
ان المهمة الخاصة التي
أرسل الله بها عيسى عليه السلام هي عبارة عن إصلاح بني إسرائيل ، وشرح الشريعة
الموسوية وبث الروح الجديدة فيها .
وان المواعظ الأربعة المسماة بالأناجيل تقول تكراراً أن المسيح مرسل ومأمور بإرشاد
اليهود خاصة ، وبإيداع شريعتهم الحياة والروح الجديدة ، وبناء على ذلك نضطر إلى
الاعتقاد بان كل ما وجدناه فيها من البيانات المخالفة لذلك فهو محرف قد الحق
بالكتاب أخيراً ، لأنه لا يتصور أن نبياً عظيماً كالمسيح عليه السلام يتكلم بكلام
يكذب بعضه بعضاً فان من يقول لم أرسل إلا لبني إسرائيل فقط . لا يقول أنا نور
العالم أو يقول اذهبوا وتلمذوا العالم اجمع . فالعبارات الأولى التي في الطابق
التحتاني هي الحرية بالاعتماد عليها ، وأما المخالفة فهي الحاقيه يجب طيها .
- 17 -
(التكامل الديني نظير التكامل القومي(*) تماماً)
ما وصلت إليه أمة من الأمم إلى المدنية والتكامل التام عقيب انتباهها طفرة ، بل لابد للوصول إلى المدنية التامة من اجتياز ثلاثة انقلابات . لنتصور أمة بدوية أو تحت نير غيرها ، كيف يمكن أن تصل إلى المدنية أمة مبتلاه بالجهل والفقر والمظالم ؟ ينبغي أولاً إيقاظ هذه الأمة وسوقها إلى التربية القومية تدريجاً من حيث لا تشعر ، وعندما يثنيه شعورها القومي وتظهر فيها فكرة وحدة الوطن تبتدى باجتياز المرحلة الثانية فينفتح أمامها باب الحكم الذاتي فتسعى من طريق الاستقلال الإداري إلى إعداد الأسباب الموصلة إلى الاستقلال التام ، وبعد أن يحضر ويتهيأ لها كل شيء تنهض لكسر نير الأجنبي ولإعلان الاستقلال المطلق ، وحينئذ تدخل باب المدنية التامة لتنال السعادة والمدنية ، مثال ذلك أمة البلغار ، كانت أولاً في دور الأسر ثم انتقلت إلى الحكم الذاتي الإداري وأخيراً نالت الحرية والاستقلال التام .
وإذا أمعنا النظر في كل دين من الأديان نراه يصادف ثلاثة أدوار من الانقلابات أيضاً لكي يتكامل ، ولا يمكن أن يتكامل أي دين في أول نشأته ، والأديان المؤسسة من لدن يوذاو كوفوشيوس محكوم عليها بالانقلاب جديد أخير . أن ديني بوذا وكونفوشيوس نشأ من دين براهمن الهند القديم ، ولم يصلا حتى الآن إلى آخر خطوة من التكامل ، والعيسوية دين منقلب عن الموسوية ، أي أن الدين نسفه انتقل إلى الدور الثاني بواسطة الانقلاب . وكذلك الزردشتية والبوذية دينان قد انقلبا من الأديان القديمة التي كانت في حالة الطفولة والصبا ، فكل هذه الأديان وفي ضمنها العيسوية مجبورة أولا بدلها من انقلاب ثالث قطعي ، وان صحائف القرآن تثبت أن الإسلام ليس بدين جديد ، بل هو دين متمم ومكمل للعيسوية والموسوية على الأخص ، وحائز على صفة الحياة إلى يوم القيامة ومن أهم ما يستلفت نظري في استقراء مباحثي الدينية فكرة المحافظة والارتجاع ، كما هو الحال في الحكومات، أي كما أن هناك قوة تمانع كل انقلاب ، وان المرتجعين في كل انقلاب ديني يخاصمون القائمين بالانقلاب ويشهرون الحرب عليهم كذلك جاء المسيح عليه السلام ولم تقبله اليهود المرتجعة ، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقبله المسيحيون المرتجعون ، ولكن من القوانين الطبيعية أن يكون المرتجعون دائماً مغلوبين(1) .
ليس بين علماء اليهود من يستطيع أن يدعي بان كتاب العهد القديم كتاب كاف لتشكيل دين جامع لكل الأمم . أن هذا الادعاء مما يستحقر عزة انفس الأقوام والأمم الأخرى ، نحن نقدس التوراة لأنه كتاب من الله يحتوي على بيانات والهامات خاصة لهداية وإرشاد قوم خاص. وكذلك نطالع كتب الدين للصينيين والهنود والفارسيين بكل احترام ، ويمكننا أن نشاهد في جميعها بعض الحقائق والأوامر والنواهي الإلهية ، لان الله لم يترك أمة بغير إمام أو حيكم أو نبي ، وقد أرسل من قبل الله إلى كل أمة مرشدون ومعلمون وأنبياء(*) .
ولهذا فلو اجتمع اليهود والبوذيون والكونفشيوسيون والمجوس بمحل واحد ، فانهم لا يستطيعون تبادل الأفكار عن وحدة الدين ، ولا يمكن أن يوجد الاتحاد بين هذه الأديان قطعاً، ولا يمكن أن يكون كتاب أحدهم كتاباً عاماً للجميع أي أن يكون الكتاب هو الكتاب الوحيد للأديان الأربعة ، ولابد من كتاب آخر لأجل إيصالهم إلى تربية أخلاقية ودينية هو اكثر تدقيقاً واكثر اتساعاً ، فأي دين غير دين الإسلام له مثل ذلك الكتاب بشكل كتاب منزل من الله ؟ يجب الإنصاف .
ان المسيح عليه السلام لم يترك ولا سطراً واحداً بهيئة كتاب ، وإذا ادعوا ذلك فليخرجوه بأي لسان كتب ؟ وماذا كتب ؟ والى من فوض ما كتب ؟ حتى ولو وضعنا كتب العهد الجديد في صف الكتب المقدسة ، لا يمكن أن يكون مجموع الكتب المذكورة كتاب الله الكافي لتشكيل دين عام ، هذه الكتب تشتمل على عقائد وتعاليم تدمي قلب اليهودي وتؤذي احساساته الدينية ، لم تكن الكتب الإنجيلية في وقت ما مظهر التوجه والرغبة تجاه الأديان الموجودة في آسية . فالفرس بقوا دائماً متبعين لكتاب زردشت المسمى (زنده اويسته) ونظروا إلى العيسوية بنظر النفرة . وأهل الصين والهند لا يرون العهد الجديد كافياً كالعهد القديم ، إنما ظهرت الكتب المذكورة (كتب العهد الجديد) مناسبة للأقوام الغربية المتشبعة أفكارهم بفلسفة اليونان القديمة ، ولم تكن إلا أسفاراً وجدت باللغة اليونانية وصبغت بالفلسفة النئويلطونية .
فها نحن أولاء نرى انه لا يمكن ولا يتصور دين عام جامع للبشر غير الإسلام ، ولا كتاب باسم الله غير القرآن الكريم ، أن الكتب الإنجيلية - مع الأسف - قد استعاضت عن أن تسوق البشر إلى الرقي ، إلى الانقلاب الديني ، إلى التكامل في دين موسى ، بان سارت بهم القهقري فرجعوا إلى الوراء ، فبعد أن مات الإسكندر والقياصرة الرومانيون واليونانيون القدماء الكفار (الوثنيون) إذا بإله اللاتين واليونان الكاثوليك والأرثوذكس الجديد قد تجسد في هيئة طفل يهودي واكل وشرب وتاجر وبعد أن تعلم صنعة التجارة صلب وقتل من قبل اليهود ، ثم صار يؤكل ويشرب كل يوم في جميع الكنائس والمعابد التي تبلغ نصف مليون (؟) فكيف تفتقر الموسوية وسائر الأديان الشرقية - التي تشعر بحاجتها إلى التكامل والارتقاء الديني - إلى مثل العيسوية المضطرب دينها إلى هذه الدرجة ؟
تصرف جماعات المبشرين منذ أربعمائة سنة في خزائن من النقود تحت مؤازرة كل حكومات أوربا (وأمريكا) ولكنهم لم يستطيعوا أن يزحزحوا أفكار الأقوام الشرقية عن مكاتبها الدينية . زد على ذلك أن الاحساسات الدينية في أوربا وأمريكا آخذة في التفسخ وفساد الأخلاق يتكاثر ، وبينما الموحدون من جهة واللادينيون من جهة أخرى يهجمون على المسيحية نرى المبشرين منهمكين في نشر الكتب المقدسة ومواظبين على الوعظ بها(*).
- 18 -
نص المواعظ (الأناجيل) الأربعة الصريحة (في أتباع المسيح عليه السلام للتوراة
وأنبيائها ، وعدم نقض شيء منها) (ولا من روايات وتفاسير العبرانيين لها)
روى متى أن حضرة المسيح عليه السلام قد بين بصورة أكيدة وصريحة أن المحافظة على شريعة موسى عليه السلام وطاعتها والعمل بموجبها فرض قطعي ، قال : (لا تظنوا أني جئت لانقض الشريعة أو الأنبياء ، ما جئت لانقض بل لأكمل ، فأني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض ، لا يـزول حـرف واحـد أو نقطـة واحدة من الناموس حتى يكمل الكل) متى 5: 17-18 .
ليس لدي وثيقة تستطيع أن تبين ما إذا كانت هذه الآية صدرت من فم المسيح عليه السلام حرفياً أم لا ، ولكن هناك إفراط في ترجمة الآية المذكورة إلى اللغة التركية ، وما ذلك إلا لان البروتستانت - بسبب عدم وقوفهم على العلوم الدينية - يتصدون لمثل هذه التفاسير - فكل حرف في شريعة موسى وكل نقطة موضوعة فوق أحد حروف كتاب الشريعة أو تحته اكبر قيمة من السموات فمثلاً كان موسى عليه السلام قد خصص يوم السبت(1) يوماً مباركاً ، يوم عطلة وراحة للموسويين ، ثم ابطل هذا ونسخ من قِبل كنيسة المسيح وأقيم مكانه يوم الأحد من غير أن تزول السموات أو تنمحي كرة الأرض وأين إلغاء إحدى الوصايا العشر من زوال نقطة من فوق أحد الحروف ؟
وهاك نص الوصية الرابعة منها :
( ) اذكر يوم السبت (خروج 8:20)
فكيف يمكن التوفيق بين إفادات المسيح القطعية وبين إلغاء يوم السبت الذي هو المادة الرابعة من أحكام الشريعة ؟
كل كتب العهد القديم تسمي هذا يوم اليهود العزيز ، وتخبر انه سيدوم يوماً مقدساً إلى آخر الزمان ، والمسيح عليه السلام بالذات التزم يوم السبت وقدسه ، ولكن الكنيسة جعلت يوم الأحد عوضاً عن السبت ، فماذا تقول للكنيسة التي خالفت المسيح؟(*)
ولم تكتف الكنيسة بإلغاء يوم السبت بل أبطلت الختان أيضاً(**) مع علمها بان المسيح قال بصراحة أنه لم يأت لإبطال حرف واحد من شريعة موسى ، وهو بالطبع ليس له خبر عن (التثليث) وعن (الأسرار السبعة) التي لوعت اليهودية .
لم يكتف المسيح ببيان محافظته على شريعة موسى عليهما السلام فقط بل قال : حتى القوانين والأوامر الموضوعة من قبل العلماء والفقهاء من اليهود واجبة الطاعة ومنه قوله في (متى 4:8) (فقال له يسوع انظر أن لا تقول لأحد بل اذهب أرِ نفسك للكاهن وقدم القربان الذي أمر به موسى شهادة لهم) .
في هذه الدرجة كانت محبته لشريعة موسى وارتباطه بها وتعصبه لها عليه السلام حتى أن متى اخـبر عن المسـيح بأنه كان يسمي اليهود (أبناء) ويسمي الأقوام الأخرى (كلابا) متى 15 : 21-28 .
وبينما كان المسيح يتجول يوماً مع تلاميذه الأثنى عشر في صور وصيدا من أراضي فينيقية القديمة(1) إذ بامرأة كنعانية تركض وراءه قائلة : (ارحمني يا سيدي(2) ابن داود بنتي تتعذب كثيراً من الجن) أما المسيح فلم يجبها بكلمة ، والمرأة مداومة على الصياح والعويل ، وفي هذه الأثناء وبناء على مراجعة التلاميذ قال المسيح (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) أخيراً اقتربت تلك المسكينة وقبلت قدميه وقالت سيدي أغثني(*) فأجابها قائلاً : (ليس هنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب) ولكن المرأة أجابت قائلة (نعم يا سيدي ، لان الكلاب أيضاً تأكل من الفتات الساقطة من سفرة أصحابها) وعلى هذا قال لها المسيح (يا أمراة عظيم إيمانك ، ليكن لك كما تريدين) فشفيت ابنتها من تلك الساعة .
لا اعلم هل قال المسيح عليه السلام ذلك أم لم يقله ، ولكني اعلم جيداً أن اكثر من تضرر من جراء تأثير ذلك الكلام هو أمته عالم النصرانية ، ومن جراء ذلك التحقير والتعبير بالكلاب، نرى النصارى يجتهدون بكل ما استطاعوا في محو كل من لم يكن من دينهم : والصحيح أن هذا الكلام لا يليق بدكتور أو مسلم أو مدرس فضلاً عن أن لا يليق بنبي أو مسيح .
ومع كل ما هنالك فالآن ظهر جلياً أن عيسى المسيح عليه السلام قد أرسل إلى قوم بني إسرائيل فقط(*) ولاشك في أن المسيح الذي لم يخلص مجنونة كنعانية إلا بعد الجهد الطويل ، لا يمكنه أن يسعى لتخليص العالم ، فان الصاحب الذي لا يريد أن يعطي جزءاً من فتات سفرته لكلابه ، لا يفكر أبداً بالذهاب إلى القتل والصلب في سبيل كلب ويفدي الكلاب بنفسه .
ان كون المسيح لم يرسل إلى غير الأمم الموسوية حقيقة تثبتها الطبقات القديمة من المواعظ الأربعة ، فلا هو وعظ الأمم وارشدهم ، ولا تلاميذه حتى انه نهى تلاميذه الذين أرسلهم ليبشروا باقتراب ملكوت الله أو ملكوت السموات هكذا (هؤلاء الأثنى عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً : إلى طريق أمم(1) لا تمضوا ، والى مدينة السامريين لا تدخلوا ، بل بالحزي اذهبوا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ، وفيما انتم ذاهبون عظوا (اكرزوا) قائلين انه قد اقترب ملكوت السموات) (متى 10 : 5-7) فمن هنا تبين جليا أن الآيات الأخرى المضادة لهذه الآيات أما محرفة أو زائفة .
فاذا كان المسيح ينهي تلاميذه من الذهاب حتى إلى جارتهم أمة السامريين الممتزج دمهم بدم اليهود ، والذين يصدقون أسفار توراة موسى ، فكيف وبأي جسارة يسوغ لمتى وجود هذه الآيات والنصوص أن يقول في إنجيله عن لسان المسيح (اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس) متى 19:28 .
- 19 -
إصلاح قوم بني إسرائيل
انا لا اقدر ان اكتب عن الموسويين غير الاحترام وما تقتضيه الرقة والمجاملة رغم انتسابي بالجنس إلى أمة الأثوريين الكلدانيين الذين أساءوا جداً إلى اليهود ، وكيفية إصلاح بني إسرائيل المتعلق ببحثنا مرتبط بالأناجيل الأربعة .
أي ان الأناجيل الأربعة تعلمنا كيف كانت أخلاق اليهود الذين كانوا في زمن المسيح عليه السلام ، وكم كانت أحوالهم الروحية قد فسدت وتلوثت بالسيئات ، فنظراً إلى الأناجيل الأربعة كان اليهود في زمن المسيح يريدون أن يتمسكوا بأوامر الكتاب الذي في أيديهم في جميع المعاملات الشرعية بصورة حرفية ، ليس بحكمة الشريعة وروحها ، بل بمادتها وحروفها وبما ان يوم السبت يوم مقدس حسب الحكم الرابع من الوصايا العشر ، كانوا يأمرون بتعطيل كافة الأشغال والأعمال البدنية . ولم يكن اليهودي مأذوناً بإجراء أي عمل عدا العبادة والاستراحة ، وليس هذا قاصراً على اليهودي وحده بل هو مجبور على إراحة عبده وخادمه وجاريته وحماره وكل حيواناته الداجنة في يوم السبت (كل من يعمـل فيـه عمـلاً يقتـل) ( لا تشـعلوا ناراً في جميـع مساكنكم يوم السبت ) خروج 35 : 2 - 3 .
وكان جزاء كل من يعمل بما نهى الله عنه الموت والإعدام ، لاشك أن شريعة موسى الشديدة كانت معتبرة ونافعة لقوم بني إسرائيل البدو (؟) الذين نجوا حديثاً من نير استعباد المصريين ، وان رعاية القانون تحصل أما من الخوف أو من خلق الحياء من العار ، أما الأمة المتمدينة فكما أنها تقيم العدالة بروح حكم القانون ، فكذلك تلطف وتعدل بعض مواد القانون نظراً لمقتضيات الحال والزمان : وأما تطبيق الشريعة وإجراء أحكامها حرفياً فليس بضروري إلا في الأقوام الوحشية أو التي في حال البداوة فقط ، ولابد من تربية ملية تسوق أخلاق العامة إلى الصلاح والمدنية والرقي والسعادة الحقيقية كما يجب التأديب والعقاب على كل فعل وحركة مخالفة لآداب معاشرة القوم وأخلاقهم السائدة ، على أن تكون مرتبطة بالعدالة وبقوانين معقولة ومشروعة ونافعة (ولما كان بنو إسرائيل في البرية وجدوا رجلاً يحتطب حطباً يوم السبت فقدمه الذين وجدوه يحتطب حطباً إلى موسى وهارون وكل الجماعة فوضعوه في المحرس لأنه لم يعلن ماذا يفعل به . فقال الرب (يهوه) لموسى قتلا يقتل الرجل ، يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج المحلة ، فأخرجه كل الجماعة خارج المحلة ورجموه بحجارة فمات كما أمر يهوه موسى) عدد 15: 32 - 36 .
نعم يمكنني أن أتصور رجم فاعل الذنب البسيط عديم الأهيمة من قبل أمة عدد أفرادها لا يبلغ المليونين أو الثلاثة بهذه الصورة المدهشة في الصحراء ، ولكن لا أتصور إمكان إجرائه في (بارك هايد) لندن ، أو في (شانزه ليزه) باريس . فالشريعة المذكورة استمرت على الحكم بكل دهشتها مدة تزيد على الثلاثة آلاف سنة ، وأصيب بنو إسرائيل بالانحطاط والأسر ، وعلماء اليهود وفقهاؤهم وضعوا كتباً كثيرة تحتوي على قوانين مغلقة وتعاليم عديمة الفائدة ، تركت الملة في حالة الحيرة والاضمحلال ، وبينما كانت هذه الأمة البيئية تستحق من قبل لينيونات(1) القيصر الجديد مادة ، ومن قبل زمرة العلماء المرائين عديمي الأخلاق معنا ، ظهر حضرة المسيح عليه السلا م ودعا الملة المذكورة إلى الإصلاح .
أول من خاصم النبي الكريم هم العلماء والخواص - دون العوام - أولئك العلماء الذين اعتادوا على امتصاص دماء الأمة . مثال ذلك انهم لما قبضوا على زانية جاؤا بها إلى المسيح وسألوه (وجدنا هذه المرأة في فعل الزنا ، ومعلوم أن موسى أمرنا برجم أمثالها ، فالآن ماذا تقول أنت ؟ ) فأجابهم قائلاً لهم (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر) (يوحنا 7:8) .
وبما أنهم لم يكونوا سالمين من الذنب تسللوا من عنده واحداً بعد واحد ، فقال المسيح للخاطئة المسكينة الباقية وحدها (اذهبي ولا تخطيء أيضاً) يوحنا 11:8 , وهذه خطة نبي مأمور بعمل الإصلاح .
(موسى أمركم في شريعته قائلاً لا تزن(*) وأما أنا فأقول لكم أن كل من ينظر إلى امرأة بنظر الشهوة يكون قد زنى بها في قلبه . موسى قال لا نقتل وأما أنا فأقول لكم أن كل من يبغض ويعادي أحداً يكون قد قتله ) (متى 5 : 21-26) .
فالمسيح عليه السلام فسر روح الشريعة وشرح حكمها بإفاداته المجددة ، فان منبع فعل الزنا هو الشهوة وان منشأ القتل هو البغض ، وكذلك فان نهي الشريعة عن أن يعمل عمل في يوم السبت لم يكن لمنع الاشتغال بالأمور الحسنة وفعل الخير في اليوم المذكور . وان الشريعة التي نجزم الأمر بغسل الأيدي والأواني وعلى الأخص بالطهارة لا تأمر بترك القلب والفم ملوثين بالرجس من الأفكار والأقوال ، وان الإنسان يمكنه أن يتطهر بحفنة من الماء ، ولكنه لا يمكنه أن يطهر قلبه بكل مياه البحر المحيط الكبير .
قام مسبح فقير تارك للدنيا يعظ بقلب مشتعل بحب الإنسانية ، ملتهب بالعشق الإلهي ، يوصي شديداً بالتزام أسس الدين كالصدق والرحمة والعفو والحب الإلهي تجاه العلماء ذوي الطمع اللاتهاتي في حطام الدنيا ، اكثر الناس التزاماً لرسوم الذبائح ولا عشار ، مرتكبي أنواع الرياء والتزوير لأجل الحصول على مديح العامة ، ظهر يسوع ناصري لا يعير أهمية لمثل مسائل نقل الميت وتغيير القبور ، يعلم بان كرامة الإنسان ليست بالجسد الذي هو عبارة العظم واللحم ، بل هي قائمة بالروح الساكنة في ذلك الجسد ، تجاه الكهنة الجادين في تعظيم الأموات وتزيين القبور ، الماهرين في فنون خداع الأحياء وتسليبهم .
الفريسيون أولئك الذين إذا وقع خروفهم في البئر يركضون بأربع أرجل لأجل إخراجه يوم السبت ، يؤاخذون المسيح عليه السلام ، ويتهمونه بعدم التزام يوم السبت لأنه يبرئ فيه المرضى والمجانين .
الحاخامون أولئك البطالون ، ذوو الجبب الطويلة ، عابسو الوجوه أثناء الصوم ، آكلوا أموال الأرامل واليتامى ومحرقوا أكبادهم ، يفترون على تلاميذ المسيح بعدم الصوم ، أولئك المنافقون الذين يجولون البر والبحر ليتلقفوا مهتدياً تائباً بقصد أن يسلبوه حتى ثيابه ، أصروا على البغضاء للمسيح المتواضع الحليم الذي يدعو الاهلين المساكين أشباه الغنم الضالة إلى التوبة وإصلاح النفس ، وهكذا رموا المسيح عليه السلام بالكفر واللؤم ، حينما كان يلقي فكرة التجديد أو الولادة من جديد ، ويعلم طريق الحقيقة ويبشر به ، وبعدما حارب ابن مريم عليهما السلام أولئك الرجعيين المرائين في الدين خادمي الأجسام ، أنذرهم بان أهالي سدوم وطمورا سيكونون احسن حالاً منهم يوم الجزاء ، ثم انه أخيراً غاب ولن يروه بعد ، من غير أن يصلح القوم المذكورون .
فإذا كانت المواعظ الأربعة تبين هذه الحقائق بكل تفصيل وتمثيل ، فكيف وبأي صلاحية يمكن الادعاء بان المسيح نبي عام ؟ والتلاميذ الذين لبثوا ثلاث سنين بصفة مرداء المسيح ، الذين بقوا إلى آخر دقيقة أجهل مما كانوا قبلاً ، بأي علم وبأي قوة يتمكنون من إقناع الأمم بقولهم : كان رجل يسمى يسوع قتل على الصليب وكان هو الله ؟ (استغفر الله ثم استغفر الله)(*) .
- 20 -
(كان الإنجيل عبارة عن التبشير بملكوت الله)
إذا سألتم راهباً مسيحياً ما هو الملكوت ؟ يجبيكم فوراً هو الكنيسة ، وان لم يكن قد تشكل في زمن المسيح مثل هذه الكنيسة ومثل هذه الملة والجماعة ، فالمسيح وتلاميذه كانوا يدخلون (السيناغوغا) المسمى (كنشت كنيس) كسائر اليهود ويصلون ويتعبدون ، ولم يخطر على باله أحداث مذهب جديد أو جماعة جديدة وبناء على ذلك لم يتشكل ملكوت الله في زمن عيسى عليه السلام .
علم المسيح تلاميذه صلاة بشكل الفاتحة وهي - بالرغم من وقوع تحريف أو تحريفين فيها - صلاة بليغة مهمة جداً من جهتين ، أما أولاً فلأنها تبين عقيدة التوحيد بكل احترام وبكمال العزة ، وأما ثانياً فلأنها تحتوي على عبارة (ليأت ملكوتك) خطاباً لله تعالى ، لان كل صلاة حقيقية تحتوي على مادتين : الأولى أداء فرض التحية والكلمات الناطقة بالتعظيم والعبودية للخالق والسجود له ، والأخرى عبارة عن طلبنا الإسعاف ورجالنا قضاء الحاجة من الله تعالى . فالكنيسة المتخشمة الصارخة بضع مرات في كل يوم (ليأت ملكوتك) منذ اكثر من ألف وتسعمائة سنة لم تكن غير الجماعة العيسوية ، يا للتضاد ، يا للعناد والعصيان ! لقد مضى تسعة عشر عصراً ، أإلى الآن ننتظر قائلين (ليأت ملكوتك) .
فان كان ملكوتك الله هو الكنيسة ، فما بال الكنيسة تكرر بفهما ولسانها كل يوم هذا الدعاء وتطلب من الله أن يبعث لهم ملكوته ؟ الحق أقول يجب عليهم الإنصاف والحياد . فما دام الله لم يستجب لهم ، ولا أسعف لهم هذا الطلب حتى الآن ، أما ان لهم أن يكفوا عن هذه المراجعة المستمرة في هذا الشأن ؟ القطط العديمة التجربة ، عندما ترى بائع الكبود ، ترقص بين يديه وحواليه وتصيح وتطلب بلسانها لقمة من ذلك الإنسان . أما القطط الأخرى ذوات التجربة فأنها تجلس أمام الباب وتنظر عن بعد ولا تتحرك من مكانها ، لأنها قد علمت بالتجربة أن بائع الكبود لا يعطي قطعة من الكبد ما لم يأخذ قطعة من النقوذ ، وانتم منذ تسعة عشر عصراً تنادون (ليأت ملكوتك) ومع أنكم تعلمون أنه لم يأت ولن يأتي ، لا تزالون تكررون (ليأت ليأت) ! هل من الممكن عدم التعجب والحيرة ؟ إذا كان ملكوت الله هو الكنيسة كما تزعمون ، فقد جاءت الكنيسة واستولت على الدنيا ، فأي ملكوت أذن تطلبون ؟ أم أفلا تخافون - إذا ما جاء ملكوت الله - أن يلحق المقامات الروحانية مع البطاركة والبابا بالعدم والزوال؟ أم ماذا يكون حال الملوك والعساكر العيسوية القديرة حينئذ؟ أفلا ترون إذا ما جاء ملكوت الله ، انه لا يختم ويقضي على كنائس المذاهب المختلفة التي يتجاوز عددها الخمسمائة ؟
المسيح عليه السلام لخص صلاة اليهود الزبورية وكل صلواتهم الطويلة بهذا الدعاء (أبانا الذي ... الخ)(1) كما لخص شريعة موسى بوصيتين ، فالوصيتان اللتان هما عبارة عن (حب الله وحب الجار) تبينان لب الشريعة الموسوية وروحها . ومما هو حرى بالدقة أن المسيح عليه السلام لم يتعد حدود الشريعة المذكورة أبداً ، وقد اتصف الله تكراراً في كتب التوراة بلفظ (الله ، الآب) على أن كلمة (أب) هذه لا من حيث أن الله ابنا وحيداً كما تزعم الكنيسة ، بل لأنه موجد كافة الموجودات ومكون كل الكائنات(*) على أن معنى (أب) اللغوي الحقيقي هو إعطاء الثمر كما تقدم بيانه ، وان مادة (أب) المؤلفة من ألف مفتوحة وباء هي في جميع اللغات السامية بمعنى (الوالد) و (المثمر) وبالألف المكسورة بمعنى (الثمر) وفي العربية (اباب) بمعنى طراوة وخضرة ، وبهذا القصد والمعنى كانوا يخاطبون خالق الكائنات موجدها بكلمة (أب) وبالطبع لم يكن بأس في هذا التعبير ، ولكن لما أساءت الكنيسة استعماله في كتب العهد الجديد التي أوجدتها ، صار لا يجوز لأبناء ملكوت الله أن يخاطبوا الله اليوم بهذا الاسم .
وان ملكوت السماوات لما رأى مخالفة الكنيسة واعتداءها على تعاليم المسيح في تعبيرها (باسم الآب والابن والروح القدس) أظهر خطأ الكنيسة بالآية القرآنية الجليلة { بسم الله الرحمن الرحيم } .
فالمسيح عليه السلام يؤيد الأمر الأول لشريعة التوراة التي لخصها(1) في صلاته هذه (ليتقدس اسمك) ( يا إلهنا الذي في السماء ليتقدس اسمك لان لك الملكوت والقدرة والعزة إلى الأبد آمين ) (متى 6 :9-13) .
وأما الوصية الثانية من شريعة موسى فهي (حب الجار) .
سأل فريسي عارف بالشريعة من المسيح عليه السلام طلباً للشر(*) أي يريد أن يأخذ كلاماً من فم المسيح عليه السلام حتى يأخذه عليه حجة بقصد إيقاعه في فخ (أي وصية هي العظمى في الشريعة ؟) فقال له عيسى عليه السلام ، هي التي لله (لتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل روحك ومن كل فكرك ) ، هذه الوصية الأولى والعظمى الثانية مثلها (لتحـب جـارك كنفـسك ، بهاتين الوصيتـين تتعلـق الشـريعة كلها والأنبياء) (متى 22 : 34-40) .
فبعد أن رأينا هذا التفسير من المسيح لشريعة موسى وتصديقه تعاليم جميع أنبياء بني إسرائيل بصراحة على الوجه المبين أعلاه ، أقوال للأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت والنصارى المنسوبين إلى المذاهب المختلفة الأخرى التي يربوا عددها على الخمسمائة مذهباً : راجعوا أيها القوم ضميركم واحساساتكم التي هي محبة للحقائق ، وإذا اقتضى الأمر راجعوا روح قدسكم بكل دقة ، وتفكروا خدمة للحقيقة في هذه الآيات المذكورة .
لمن أعطيت الشريعة ؟ طبعاً لليهود ، إلى أي ملة كانت تنتسب الأنبياء والى من أرسلوا؟ طبعاً إلى اليهود ، لان المسيحيين متفقون على الاعتقاد بان الله لم يرسل نبياً من غير اليهود . حسن جداً : من أي ملة كان السائل ؟ بالطبع كان يهودياً ، ماذا كان المسيح ؟ طبعاً هو كان يهودياً أيضاً ، من كان يمكن أن قد كان جارهما ؟ بالطبع لا يكون جار اليهودي إلا يهودياً أيضاً، والجار الذي لا يكون يهودياً يجب أن يكون أما أسيره أو ظالمه ، وعلى كلتا الحالتين فهو مكلف بان لا يحبه كنفسه .
أذن فانظروا المسيح عليه السلام وان كان يبحث عن الصديق والعدو في موعظته المشهورة (متى 5 إلى نهاية الباب السابع) فانه كان دائماً يخص اليهود بكلامه هذا وقد بين أن اليهودي ليس مكلفاً يحب جاره اليهودي فحسب ، بل يقول يجب أن يحب عدوه اليهودي أيضاً، وليس هناك من إشارة قطعاً حول كون (الأمم) أصدقاءهم أم أعداء .
فها أنذا أقول لهؤلاء المسيحيين الذين يبلغ عددهم الملايين وهم ليسوا من الإسرائيليين : انظروا . ان مسيحكم لم يعرفكم قطعاً . ولم ينقل عنه انه قال عنكم حرفاً واحداً بل انه سمى غير الإسرائيليين كلاباً . فمن انتم ؟ ثم من هم أبناء الملكوت؟ أتعلمون ماذا انتم حسب شريعة موسى ؟ أن الذين لم يختتنوا إنما يعدون ملوثين (نجساً) حتى أن المسيح نفسه ختن في اليوم الثامن من ولادته ، وهو إلى يوم غيبوبته كان على مسلك اليهودية تماماً ، أذن فارجعوا إلى الإنصاف ولا تعودا تبحثون عن الإنجيل وعن عيسى والصليب .
أليست هذه هي أناجيلكم الأربعة ، كونوا واثقين إنها بسبب تصوير المسيح يهودياً تاماً وملياً (ناسيوناليست) شديد التعصب لقوميته بدرجة مفرطة ، صارت قسوس البلغار يحملون الصلبان ويتلون آيات التمجيد والثناء للذين ارتكبوا أشنع الفظائع في أعدائهم في الحرب . أذن فهم ولا شك معذورون في هذه الشناعات ، هذه هي آثار الملية المفرطة ، فأنى للمسيح أن يؤسس كنيسة أو ملكوتاً وان اليهودي إذا لم يختن في لحم غرلته كان يحكم عليه بالإعدام؟ (تكوين 14:7 وخروج 24:4) فكيف كان للمسيح أن يأخذ النصارى القلف أي الذين لم يختتنوا إلى ملكوت الله ؟! وأمر الله في التوراة صريح بأنه واجب على اليهودي ختان ذريته حتى انه قد أوجب عليه أن يختن عبده والأجنبي الذي اشتراه بفضته أيضاً ، ولا يباح لأي ذكر غير مختون أن يسكن في بيت يهودي وليس ذلك من شعائر اليهودية فحسب ، بل مما أطلق الله عليه اسم العهد والميثاق .
وإذا أمعنا النظر في عدم تجويز الشريعة دخول الاغلف (أي الذي لم يختن) معابد الموسويين ، فهل نرى من الممكن أن يدخل المسيح معابد الكنائس التي ألغت رسم الختان وأقامت مكانه المعمودية أو يجالسهم أو يساكنهم ؟!
يقول المسيح (احب ألهك اكثر من نفسك ، واحب جارك كنفسك) ولكنه لا يقول: احب أن جنسك كنفسك . حسن جداً ، ماذا كان المحذور لو قال احب ابن دينك كنفسك ؟ لم يتمكن من أن يقول هذا أيضاً ، لان ابن دبن اليهودي يجب أن يكون يهودياً أيضاً .
اتضح جلياً وبصورة مقعنة
أن عيسى المسيح لم يكن ليفدي أحداً بحياته بل لم يكن يسمح بتقديم قلامة من أظفاره
هدية للعالم فضلاً عن انه لم يتعهد للروس والإنجليز والاميركيين بالنجاة لانه لم
يعرفهم ، ولا بإراقة قطرة من دمه في سبيل جعل الروم واليونان الأجانب ، والسوريين
الساكنين في سورية - مسيحيين بواسطة المعمودية ، لإعطائهم الحياة الأبدية ، بل لم
يكن ليعطي رطلاً من النجارة التي أمام منضدة (محل تجارته) لأجل ذلك .
لا ريب في ان القسم الثاني من محتويات الدعاء المذكور المبهمة عبارة عن تأسيس اخوة
صحيحة وتوطيد المعاملة الفدائية بين الإسرائيليين ، وتأمين مقتضيات الخلاص من شر
أعدائهم وغوايتهم وهو : (خبزنا كفافنا
اعطنا اليوم ، واغفر لنا خطاينا كما نغفر نحن أيضاً للمخطئين ألينا ، ونجنا من
الشرير الذي يذهب بنا إلى الإغواء(1)) متى 6،10-13 .
هل كان من حد الأمم غير الإسرائيليين أن يجترءوا على مثل هذه المطالب من حضرة (يهوه) الرب الذي يحسبونه أباهم(*) (فلو سألنا اليوم الإسرائيليين : من هم الأشرار وذووا الغولية الشيطانية الذين يغوونهم ؟ هل من شبهة في الجواب الذي يعطونه ؟ آه هم المسيحيون ، آه انهم المبشرون) .
بقي اكبر ما يتعلق ببحثنا
من الصلاة الإنجيلية وهو المادة التي في شان ملكوت الله (ليأت ملكوتك لتكن إرادتك
كما في السموات أيضاً على الأرض) .
هنا يعد المسيح بان سيأتي ملكوت سماوي ، وبأن ستعطى الإرادة والكلام الخاص بالملكوت
المذكور .
عجباً ، ماذا يمكن أن يكون القصد من ملكوت الله هذا ؟ هل هو عبارة عن ان شرطتنا تتألف من الملائكة ، وعساكرنا من الكرويين ، وهيئة وزرائنا من السرافيين ؟! المسيحيون يعتقدون أن المسيح سيأتي ويحكم قبل يوم الجزاء على وجه الأرض ألف سنة ، أما نحن المسلمين فنتمنى ان لو جاء المسيح وأسس سلطتنه العظيمة على هذا النمط - وعلى الأخص بمناسبة إصلاحاتنا الداخلية هذه - ساعة اقدم ، (لان مجيء المسيح يخلصنا من مكايد أهل الكيد ودسائس الاغيار) .
نعم نحن نتمنى ذلك لان مجيء المسيح الوحيدين هم المسلمون ! أما اليهود فقد رفضوه ، وأما المسيحيون فقد نسبوا المسيح التاريخي الحقيقي وأقاموا محله يسوعاً خيالياً متألهاً .
إن المعنى المراد من كلمة (الملكوت) إنما هو على الوجه الذي ذكره المسيح تكراراً (بكلام الملكوت) أو (كلام الله) عبارة عن إرادة ورضاء صاحب الملكوت جل جلاله وفي الصلاة المذكورة أعلاه قد استعمل لفظ ثيليما اليونانية ورضا العبرانية ، ولا حث عن (أيودوكيا) بعد ، لماذا لا يبحث عن أيودوكيا (حمد) ؟ بالطبع أن للبشرية شيئين دائمين هم (الإسلام) وهو يقيم ديناً حقيقياً وملكوت الله على الأرض ، و (القرآن) وهو اقدس كتاب في العالم يحتوي على إرادة الله ورضائه في تحقيق وتسهيل إدارة ملكوت الله وبعد أن اكمل محمد صلى الله عليه وسلم الملكوت والكتاب القديم المحتوي على رضاء الله بصورة رسمية أرتحل إلى دار النعيم . وان دين الإسلام والقرآن الكريم سيبقى دائماً وثابتاً إلى يوم القيامة .
وسيأتي في الفصل العاشر أن كل تفسير أو تأويل يباين هذا التفسير فهو باطل ولا معنى له ، فستراه مفصلاً تفصيلاً .