بسم الله الرحمن الرحيم

رجـاحــة العقــل وقــوة الـحـجـــة


للإيمان إشراقاته وآثاره، وللعلم فعاليته ودوره، ويبقى للذكاء والفطنة أهميتهما التي لا تُنكر، وإيجابيتهما التي لا تخفى، وتوفر الذهن الوقاد والعقل السديد ميزة عظمى يتحلى بها الداعية، فلا سذاجة تضيع بها معاني الريادة، ولا طيش ولا خفة تطمس معالم الهيبة، بل عقل فطن يرجح إذا اختلفت الآراء.

وهناك أصناف من المدعوين يحتاج الداعية معهم إلى إقامة الحجة العقلية لإثبات القضية ولعدم اكتفائهم بالأدلة الشرعية، ومن هؤلاء:
1 ـ الكافرون الذين لا يؤمنون بالكتاب والسنة.
2 ـ المعتدُّون بعقولهم المُقدمون لها على النص العقلي.
3 ـ المخدوعون بالشبهات. 4
ـ المعاندون.


وهناك أساليب كثيرة مستنبطة من الكتاب والسنة في إقامة الحجة العقلية واستخدام الأقيسة المنطقية، واستحضار التفكر والتأمل، وهذه جوانب من هذه الأساليب مع بعض الأمثلة عليها:

1 ـ أسلوب المقارنة

وذلك بعرض أمرين أحدهما هو الخير المطلوب الترغيب فيه، والآخر هو الشر المطلوب الترهيب منه، وذلك باستثارة العقل للتفكر في كلا الأمرين وعاقبتهما للوصول ـ بعد المقارنة ـ إلى تفضيل الخير واتباعه، ومن الأمثلة على ذلك: قال تعالى: "أوَمن كان ميتاً فأحييناه وجلعنا له نوراً يمشي به في الناس كَمَنْ مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها كذلك زُين للكافرين ما كانوا يعملون"، قال ابن كثير في تفسيره: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً في الضلالة هالكاً حائرا، فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله.

2 ـ أسلوب التقرير

وهو أسلوب يؤول بالمرء بعد المحاكمة العقلية إلى الإقرار بالمطلوب الذي هو مضمون الدعوة، ومن الأمثلة القرآنية على ذلك، قوله تعالى: "أم خُلِقوا من غير شيء أم هم الخالقون. أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون. أم عندهم خزائن ربك أم هم المُسيطرون. أم لهم سُلَّمٌ يستمعون فيه فليأتِ مُستمعهم بسلطان مبين. أم له البنات ولكم البنون. أم تسألهم أجراً فهم من مغرمٍ مثقلون. أم عندهم الغيب فهم يكتبون. أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المَكيدون. أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون" (الطور: 35: 43)، قال ابن كثير في تفسيره: هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى: "أم خُلِقوا من غير شيءٍ أم هُمْ الخالقون"، أي أُوجِدوا من غير مُوجد؟ أم هم أوجَدوا أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورا.

وهذه الآية في غاية القوة من حيث الحجة العقلية لأن وجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطق الفطرة ابتداءً ولا يحتاج إلى جدل كثير أو قليل، أما أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدَّعوه، ولا يدعيه مخلوق، وإذا كان هذان الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة فإنه لا يبقى سوى الحقيقة التي يقولها القرآن وهي أنهم من خلق الله جميعاً، والتعبير بالفطرة مقصوده الأمر المقرر بداهة في العقل.

3 ـ أسلوب الإمـرار والإبطـال

وهو أسلوب قوي في إفحام المعاندين وأصحاب الغرور والصلف بإمرار أقوالهم وعدم الاعتراض على بعض حججهم الباطلة منعاً للجدل والنزاع، خلوصاً إلى حجة قاطعة تدمغهم وتبطل بها حجتهم تلك فتبطل الأولى بالتبع، ومن الأمثلة القرآنية: قصة إبراهيم مع النمرود، قال تعالى: "ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أُحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبُهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين"، وقد أحسن صاحب الظلال في توضيح هذا الأسلوب حيث قال: عرف إبراهيم ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد، ولا يمكن أن يزعمها أحد، وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية، ويراه مصدر الحكم والتشريع وغيره، قال: "ربي الذي يحيي ويميت"، فهو من ثم الذي يحكم ويشرع، ثم قال تعليقاً على قوله تعالى: "أنا أحيي وأميت" لم يرد إبراهيم عليه السلام أن يسترسل معه في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة، حقيقة منح الحياة وسلبها، هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئًا، وعندئذٍ عدل عن هذه السنة الكونية الحقيقية إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية، وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله: "ربي الذي يحيي ويميت"، إلى طريقة التحدي، وطلب تغيير سُنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله، ولاشك أن الداعية مطالب بتفهم هذه الأساليب والإفادة منها ليكتسب فطنة تساعده على تقرير المسائل وإقامة الحجة وسرعة البديهة.

أمثلة من التاريخ

وهذه أمثلة لأئمة ودعاة كانت لهم أقوال ومواقف تبين رجاحة عقولهم وقوة حجتهم:
المثال الأول : يذكر عن أبي حنيفة أنه حاجَّ قوماً من الملاحدة الدهريين، فقال لهم: ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال، مملوءة من الأثقال قد احتوشها في البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها، هل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا: لا، هذا شيء لا يقبله العقل، فقال أبو حنيفة: يا سبحان الله، إذا لم يَجُز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مُجري فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها، وسعة أطرافها وتباين أكنافها، من غير صانع وحافظ؟ فبُهت القوم وأفحموا.

المثال الثاني : طلب الحجاج الحسن البصري، فلما دخل عليه قال له الحسن: يا حجاج كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير، قال: فأين هم؟ قال: ماتوا، فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن، وهذا المثل على وجازته فيه استخدام العقل بالتفكير والتأمل والوصول إلى النتيجة التي فيها العظة والعبرة.

المثال الثالث : سأل بعض النصارى القاضي أبا بكر الباقلاني بحضرة ملكهم، فقال: ما فعلت زوجة نبيكم؟ وما كان من أمرها بما رُميت من الإفك؟ فقال الباقلاني على البديهة: هما امرأتان ذكرتا بسوء، مريم وعائشة فبرأهما الله عز وجل، وكانت عائشة ذات زوج ولم تلد بولد، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج، فكان هذا الجواب في غاية الروعة والإفحام، لأن ذلك الخبيث أراد التعريض والإحراج بقصة حادثة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها، فأجاب الباقلاني بأن هذه فرية برأها الله منها، ولكنه قرن ذلك بذكر مريم، ليشير إلى أن براءة عائشة عقلاً أولى، لأنه لو تطرق إلى العقل احتمال الريبة فهو في حق مريم أعظم، فإن قبلتم أيها النصارى براءتها فليلزمكم قبول براءة عائشة من باب أولى.