130)‏ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن
وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏...*‏
‏*(‏ الاسراء‏:44)*‏

بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هذا النص القرآني الكريم جاء في نهاية الثلث الأول من‏'‏ سورة الإسراء‏',‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(111)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة في مطلعها إلي رحلة الإسراء من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلي المسجد الأقصي في بيت المقدس‏,‏ والتي تلاها المعراج من بيت المقدس إلي سدرة المنتهي مرورا بالسماوات العلي‏,‏ وقد كان في هذه الرحلة من التكريم لخاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ مالم ينله مخلوق من قبل ولا من بعد‏.‏

ويدور المحور الرئيسي‏'‏ لسورة الإسراء‏'‏ حول قضية العقيدة الإسلامية‏,‏ ومن ركائزها الأساسية التوحيد الخالص لله تعالي‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏),‏ وتنـزيهه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ ولذلك بدأت السورة الكريمة بقوله الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏'‏ سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير‏*'‏
‏(‏ الإسراء‏:1)‏

ثم تنتقل السورة الكريمة إلي الحديث عن التوراة‏,‏ ذلك الكتاب الذي آتاه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عبده ونبيه موسي بن عمران لكي يكون هدي لبني إسرائيل فانصرفوا عنه‏,‏ وحرفوه‏,‏ وزوروه‏,‏ وتذكرهم بأنهم من ذرية الذين حملهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ مع نبيه نوح‏(‏ إنه كان عبدا شكورا‏),‏ ولكنهم آثروا الانحراف عن منهج الله‏,‏ والصد عن سبيله فكتب عليهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ النكبة والهلاك والتشريد مرتين عقابا علي إجرامهم وإفسادهم في الأرض مع إنذارهم بتكرار هذه النكبات والهلاك والتشريد كلما عادوا إلي إفسادهم في الأرض‏,‏ وذلك بقوله‏(‏ تعالي‏):‏
‏'...‏ وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا‏*'‏
‏(‏ الإسراء‏:8)‏

ثم تمتدح‏'‏ سورة الإسراء‏'‏ القرآن الكريم‏,‏ ذلك الكتاب الخاتم الذي أنزله الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وتعهد بحفظه في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ إلي قيام الساعة فتقول‏:‏
‏'‏ إن هذا القـرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا‏*'.‏
‏(‏الإسراء‏:9)‏

وتقرر الآيات أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أعد للذين لا يؤمنون بالآخرة عذابا أليما‏,‏ وأن الإنسان في طبعه شئ من الاندفاع والعجلة‏,‏ ومن المبادرة بالدعاء بالشر قبل الدعاء بالخير‏,‏ علما بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد فصل له كل شئ‏,‏ كما تقرر المسئولية الفردية في الهدي والضلال وأنه‏(.....‏ لا تزر وازرة وزر أخري‏.....),‏ وأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لا يعذب أحدا دون إنذار‏(...‏ وما كنا معذبين حتي نبعث رسولا‏*),(‏ الإسراء‏:15)‏
ومن هنا كانت حكمة الله‏(‏ تعالي‏)‏ باتخاذه العهد علي ذاته العلية بحفظ رسالته الخاتمة‏,‏ لأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ كان قد ترك حفظ رسالاته السابقة لأهل كل منها فضيعوها‏.‏

كذلك تقرر الآيات في‏'‏ سورة الإسراء‏'‏ قاعدة التبعية الجماعية في التصرفات والسلوك‏,‏ وتحذر من الترف المخل الذي يؤدي إلي الفسوق‏,‏ ومن ثم إلي التدمير والهلاك‏,‏ كما تحذر من الإقبال علي الدنيا ونسيان الآخرة‏,‏ ومن عواقب ذلك‏,‏ وتدعو إلي السعي للآخرة مع الإيمان الكامل‏,‏ وتؤكد أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يمد بعطائه الدنيوي كلا من المؤمنين والكافرين‏,‏ وأن التفاضل في درجات الآخرة أكبر وأعظم من التفاضل في أمور الدنيا‏.‏ وتحذر الآيات من أخطار الشرك بالله‏(‏ تعالي‏),‏ وتؤكد أن الواقع في هذه الكبيرة مذموم مخذول‏,‏ كما تؤكد أن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قد قضي بألا يعبد سواه‏,‏ وتثني بالحض علي بر الوالدين‏,‏ وإيتاء ذوي القربي‏,‏ والمساكين‏,‏ وأبناء السبيل في غير إسراف ولا تبذير‏,‏ وبتحريم قتل الذرية‏,‏ وتحريم الاقتراب من جريمة الزنا‏,‏ وتحريم القتل بغير الحق تحريما قاطعا‏,‏ كما تأمر برعاية مال اليتيم‏,‏ وبالوفاء بالعهود‏,‏ وبتوفية كل من الكيل والميزان‏,‏ وبالمسئولية عن الحواس‏,‏ وتنهي عن الخيلاء والكبر‏,‏ وتكرر التحذير من الشرك‏,‏ مؤكدة أن جزاء الواقع فيه هو الخلود في جهنم مذموما مدحورا‏.‏ وتستنكر الآيات في‏(‏ سورة الإسراء‏)‏ فرية الولد والشريك لله‏(‏ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا‏),‏ وتبين ما فيها من اضطراب وتهافت‏,‏ وتقرر توحيد الكون كله لله‏(‏ تعالي‏)‏ وخضوع كل من فيه لذات الله العلية بالعبادة والتسبيح والتقديس والتنزيه عن كل وصف لا يليق بجلاله‏.‏

ثم تنتقـل الآيات إلي الحديث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلي الله‏(‏ تعالي‏),‏ وإلي موقف كفار قريش‏-‏ وموقف الكفار والمشركين من بعدهم في كل زمان ومكان‏-‏ من الاستماع إلي القرآن الكريم‏,‏ وهم يجاهدون أنفسهم في صم آذانهم عنه‏,‏ وإغلاق عقولهم عن الإنصات إلي حجيته‏,‏ وصد قلوبهم عن التحرك بما نزل فيه من الحق‏,‏ وصرف فطرتهم عن أن تستجيب لندائه الصادق‏.‏
وبعد ذلك تستعرض الآيات موقف الكفار والمشركين من خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ واستبعادهم لوقوع البعث‏,‏ وتؤكد علي نزغ الشيطان بين الناس وأنه عدو مبين لهم‏,‏ كما تؤكد علي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو المتصرف في شئون الخلائق بلا معقب لحكمه‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ أعلم بمن في السماوات والأرض‏,‏ وقد فضل بعض النبيين علي بعض‏,‏ وأن دور الرسول منحصر في التبليغ عن ربه‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وفي الإنذار والتبشير‏.‏

ثم تبين الآيات السبب في أن معجزات الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لم تكن كلها من قبيل الخوارق المادية التي كذب بها الأولون‏,‏ فمعجزته الخالدة هي القرآن الكريم‏,‏ والخوارق المادية شهادة علي من رآها من الناس‏,‏ والقرآن باق إلي قيام الساعة‏,‏ كما تتناول تكذيب المشركين لما رآه رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في رحلة الإسراء والمعراج‏,‏ ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس وإعلانه أنه سيكون حربا علي ذرية آدم‏(‏ عليه السلام‏),‏ وتعقب الآيات بتخويف البشر من عذاب الله‏,‏ وتذكيرهم بنعمه عليهم‏,‏ وبتكريمه للإنسان‏,‏ وبمصائرهم في يوم القيامة‏.‏
ويأتي في الجزء الأخير من هذه السورة المباركة استعراض كيد المشركين لخاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه‏,‏ ومحاولة إخراجه من مكة المكرمة‏,‏ ولو أخرجوه قسرا قبل أن يأذن له الله‏(‏ تعالي‏)‏ بذلك لحل بهم العذاب والهلاك الذي حل بالأمم من قبلهم حين أخرجوا رسلهم أو قاتلوهم أو قتلوهم‏,‏ وتأمر الآيات هذا النبي الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالاستمرار في طريقه متعبدا لله‏(‏ تعالي‏)‏ بما أمر‏,‏ داعيا إياه‏(‏ سبحانه‏)‏ أن يحسن مدخله ومخرجه‏,‏ وأن يعلن مجيء الـحق وظهوره‏,‏ وزهوق الباطل واندحاره‏,‏ مؤكدا أن هذا القرآن فيه شفاء وهدي للمؤمنين‏,‏ بينما الإنسان علمه قليل‏.‏

وتختم السورة الكريمة كما بدأت بحمد الله‏,‏ وبتقرير وحدانيته‏(‏ بلا شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد‏)‏ وتنزهه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن الحاجة إلي الولي والنصير‏,‏ وهو العلي الكبير المتعال فتقول‏:‏
‏'‏ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسني ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا‏*‏ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا‏*'(‏ الإسراء‏:111,110)‏

من ركائز العقيدة الإسلامية في سورة الإسراء
لفظ الجلالة مكتوب بحبات الرمل فى داخل عينة من العتيق اليمانى يرجع عمرها الى 25 مليون سنة مضت من عصر الاوليجوسين
من ركائز العقيدة التي جاءت في سورة الإسراء الإيمان بما يلي‏:‏
‏1)‏ ضرورة تنزيه الله‏(‏ تعالي‏)‏ عن كل وصف لا يليق بجلاله‏.‏

‏2)‏ قدسية كل من المسجد الحرام والمسجد الأقصي‏,‏ وضرورة تطهيرهما من دنس الكفار والمشركين‏,‏ والمحافظة علي وجودهما بأيدي المسلمين‏,‏ والدفاع عنهما بالنفس والنفيس‏.‏

‏3)‏ رحلة الإسراء والمعراج‏,‏ وما أطلع عليه المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أثناءها من أحداث ومراء عديدة‏.‏

‏4)‏ أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو رب السماوات والأرض ومن فيهن‏,‏ وهو قيوم السماوات والأرض ومن فيهن‏,‏ المهيمن علي الوجود كله‏,‏ الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏,‏ والذي يرحم من يشاء ويعذب من يشاء‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ هو السميع البصير الخبير‏,‏ وهو الحليم الودود الغفور‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ ما كان معذبا أحدا حتي يبعث رسولا‏,‏ وأن الكون بجميع من فيه وما فيه‏,‏ يخضع لله‏(‏ تعالي‏)‏ بالعبادة والطاعة والتسبيح إلا عصاة الإنس والجن‏.‏

‏5)‏ أن التوراة أنزلت بالتوحيد الكامل لله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي أيد عبده ورسوله موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ بتسع آيات بينات‏,‏ كفر بها فرعون وملأه فأغرقهم الله أجمعين‏,‏ ولذلك فإن توحيد الله‏(‏ تعالي‏)‏ واجب علي كل العباد‏,‏ نزلت به كل الشرائع‏,‏ ومن هنا كان الشرك بالله كفرا به‏,‏ وكان من موجبات الذم والخذلان في الدنيا والآخرة‏,‏ والإلقاء في جهنم باللوم والدحور‏,‏ حيث لا يملك الذين أشركوا بهم كشف الضر عنهم أو تحويله‏.‏

‏6)‏ أن إفساد بني إسرائيل في الأرض وعلوهم فيها مرتان‏,‏ مضت أولاهما بطردهم من جزيرة العرب مذمومين مدحورين‏,‏ والثانية التي نحن فيها والتي سوف تنتهي بهزيمتهم المنكرة والقضاء عليهم بإذن الله‏(‏ تعالي‏)‏ وصدق الله العظيم إذ يقول‏:‏

‏'...‏ فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا‏*'.(‏ الإسراء‏:7)‏
‏7)‏ أن جهنم هي مثوي الكافرين الضالين المنكرين للبعث‏,‏ أو الجاحدين لبعثة النبي والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

‏8)‏ أن القرآن الكريم قد أنزل بالحق‏,‏ وأنه‏'....‏ يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا‏*'‏
‏(‏الإسراء‏:9).‏

وأن القرآن الكريم‏,‏ هو‏(...‏ شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا‏..*)‏
‏(‏ الإسراء‏:82)‏

وإن هذا الكتاب معجز لا تقوي قوة علي وجه الأرض أن تأتي بشيء من مثله‏:'‏ قل لئن اجتمعت الإنس والجن علي أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا‏*'(‏ الإسراء‏88).‏
‏9)‏ أن كل إنسان مسئول مسئولية كاملة عن أعماله‏,‏ وأنه سوف يسلم كتابا تفصيليا بتلك الأعمال في يـوم القيامة حتي يكون هو حسيبا علي نفسه‏,‏ وأنه‏'...‏ لا تزر وازرة وزر أخري‏......'.‏

‏10)‏ أن الترف المسرف هو من موجبات التدمير الذي حدث للعديد من الأمم السابقة‏,‏ وأن السعي المشكور هو السعي للآخرة‏,‏ مع عدم إهمال مسئولية الفرد في الحياة الدنيا‏,‏ وأن التفاضل فيه أكبر من التفاضل في ماديات الدنيا‏;‏ وأن البعث بعد الموت حتمي وضروري‏.‏

‏11)‏ أن الإنسان مخلوق مكرم‏,‏ خلقه الله‏(‏ تعالي‏)‏ من طين‏,‏ ونفخ فيه من روحه‏,‏ وعلمه من علمه‏,‏ وفضله علي كثير من خلقه‏,‏ وأن الشيطان عدو مبين للإنسان‏.‏

‏12)‏ أن مهمة الأنبياء والمرسلين هي التبليغ عن الله‏(‏ تعالي‏),‏ والإنذار والتبشير‏,‏ وأن الله‏(‏ جل شأنه‏)‏ قد فضل بعض النبيين علي بعض‏,‏ وآتي داود كتابا اسمه‏'‏ الزبور‏'.‏

‏13)‏ أن كل أناس في الآخرة سوف يدعون بإمامهم‏(...‏ فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلا‏*'‏
‏(‏ الإسراء‏:71)‏

‏14)‏ أن الروح غيب لا يعلمه إلا الله‏(‏ تعالي‏),‏ وعلي ذلك فلا يجوز الخوض فيه‏.‏

‏15)‏ أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو المستحق للحمد وللتكبير‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)'...‏ لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل‏...'‏ وأنه‏(‏ جل شأنه‏)‏ منـزه عن هذه النقائص تنـزيها كبيرا‏.‏

من التشريعات الإسلامية في سورة الإسراء
‏1)‏ أن بر الوالدين فريضة إسلامية‏,‏ ومن أعظم الطاعات لله‏,‏ ومن موجبات رحمته ومغفرته‏,‏ وكذلك إيتاء ذي القربي حقه‏,‏ والمسكين‏,‏ وابن السبيل‏,‏ وعدم التبذير والإسراف لأن المبذرين هم إخوان الشياطين‏(‏ وكان الشيطان لربه كفورا‏),‏ وعدم البخل والتقتير وجعل اليد مغلولة إلي العنق‏.‏

‏2)‏ تحريم قتل الأولاد خشية الإملاق‏.‏

‏3)‏ النهي القاطع عن الاقتراب من الزنا ومن جميع مقدماته‏(....‏ إنه كان فاحشة وساء سبيلا‏*).‏

‏4)‏ النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق‏,‏ وعن الإسراف في الثأر لذلك‏.‏

‏5)‏ النهي عن أكل مال اليتيم أو الاقتراب منه إلا بالتي هي أحسن حتي يبلغ أشده‏.‏

‏6)‏ الأمر بالوفاء بالعهد وبتأكيد المسئولية عنه‏,‏ وبالوفاء بكل من الكيل والميزان‏.‏

‏7)‏ الأمر بالمحافظة علي الحواس مثل السمع والبصر والفؤاد‏,‏ والتأكيد علي مسئولية الإنسان عن حواسه‏.‏

‏8)‏ النهي عن الاختيال والزهو بالنفس وعن الاستعلاء والاستكبار في الأرض‏.‏

‏9)‏ الأمر بإقامة الصلاة لدلوك الشمس إلي غسق الليل‏,‏ وبتلاوة القرآن في الفجر لأن‏(...‏ قرآن الفجر كان مشهودا‏),‏ وبالتهجد به نافلة بالليل‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة الإسراء
‏1)‏ الإشارة إلي آيتي الليل والنهار‏,‏ أي‏:‏ نورهما‏,‏ حيث كان الليل ينار بظاهرة بقي منها اليوم ما يعرف بظاهرة الفجر القطبي‏,‏ وكان النهار ينار‏-‏ كما ينار اليوم‏-‏ بالحزمة المرئية من ضوء الشمس‏,‏ فمحا الله‏(‏ تعالي‏)‏ نور الليل بنطق الحماية المتعددة التي خلقها للأرض‏,‏ وأبقي ظاهرة الفجر القطبي دلالة علي ذلك‏.‏

‏2)‏ الإشارة إلي ما وهب الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الماء من قدرات تمكنه من حمل الفلك في البحر بقانون الطفو‏.‏

‏3)‏ الإشارة إلي تسبيح كل شئ في هذا الوجود لله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ما عدا عصاة كل من الجن والإنس وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏...(‏ الإسراء‏:44).‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها ولذلك فسوف أقصر الحديث هنا علي النقطة الثالثة من القائمة السابقة‏,‏ وقبل ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذا النص القرآني الكريم‏.‏

من أقوال المفسرين في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
‏'‏ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده‏,‏ ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا‏*'(‏ الإسراء‏:44)‏
ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما نصه‏:'‏ يقول تعالي‏:‏ تقدسه السماوات السبع والأرض ومـن فيهن‏,‏ أي‏:‏ من المخلوقات‏,‏ وتنزهه وتعظمه وتجله وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون‏,‏ وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته‏....‏ كما قال تعالي‏:(‏ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا‏)...‏ وقال أبو القاسم الطبراني‏:.....‏ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ليلة أسري به إلي المسجد الأقصي‏,‏ كان بين المقام وزمزم‏,‏ جبريل عن يمينه وميكائيل عن يسراه‏,‏ فطارا به حتي بلغ السماوات السبع‏,‏ فلما رجع قال‏:(‏ سمعت تسبيحا في السماوات العلي مع تسبيح كثير‏:‏ سبحت السماوات العلي من ذي المهابة‏,‏ مشفقات لدي العلو بما علا‏,‏ سبحان العلي الأعلي‏,‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وقوله‏:(‏ وإن من شئ إلا يسبح بحمده‏)‏ أي‏:‏ وما من شئ من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله‏,(‏ ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏),‏ أي‏:‏ لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس‏,‏ لأنها بخلاف لغتكم‏,‏ وهذا عام في الحيوانات والنبات والجماد‏,‏ وهذا أشهر القولين‏,‏ كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل‏,‏ وفي حديث أبي ذر‏:‏ أن النبي صلي الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات‏,‏ فسمع لهن تسبيح كطنين النحل‏,‏ وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان‏,‏ رضي الله عنهم‏,‏ وهو حديث مشهور في المسانيد‏,‏ وقال الإمام أحمد‏...‏ عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه مر علي قوم وهم وقوف علي دواب لهم ورواحل‏,‏ فقال لهم‏:(‏ اركبوها سالمة‏,‏ ودعوها سالمة‏,‏ ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق‏,‏ فرب مركوبة خير من راكبها‏,‏ وأكثر ذكرا لله تعالي‏)‏ وفي سنن النسائي عن عبدالله بن عمرو قال‏:‏ نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن قتل الضفدع‏,‏ وقال‏:‏ نقيقها تسبيح‏...,‏ وقال بعض السلف‏:‏ إن صرير الباب تسبيحه‏,‏ وخرير الماء تسبيحه‏...‏ وقال آخرون‏:‏ إنما يسبح ما كان فيه روح‏,‏ يعنون من حيوان أو نبات‏.....'.‏

وجاء في‏'‏ الظلال‏'(‏ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة‏)‏ ما نصه‏:'.....‏ وهو تعبير تنبض به كل ذرة في هذا الكون الكبير‏,‏ وتنتفض روحا حية تسبح الله‏,‏ فإذا الكون كله حركة وحياة‏,‏ وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة شجية رخية‏,‏ ترتفع في جلال إلي الخالق الواحد الكبير المتعال‏,‏ وإنه لمشهد كوني فريد‏,‏ حين يتصور القلب كل حصاة وكل حجر‏,‏ كل حبة وكل ورقة‏,‏ كل زهرة وكل ثمرة‏,‏ وكل نبتة وكل شجرة‏,‏ كل حشرة وكل زاحفة‏,‏ كل حيوان وكل إنسان‏,‏ كل دابة علي الأرض وكل سابحة في الماء أو الهواء‏..‏ ومعها سكان السماء‏...‏ كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه‏.‏ وإن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه‏,‏ وكلما همت يده أن تلمس شيئا‏,‏ وكلما همت رجله أن تطأ شيئا‏....‏ سمعه يسبح الله‏,‏ وينبض بالحياة‏:(‏ وإن من شئ إلا يسبح بحمده‏)‏ يسبح بطريقته ولغته‏,(‏ ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏)‏ لا تفقهونه لأنكم محجوبون بصفاقة الطين‏,‏ ولأنكم لم تتسمعوا بقلوبكم‏,‏ ولم توجهوها إلي أسرار الوجود الخفية‏,‏ وإلي النواميس التي تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير‏,‏ وتتوجه بها إلي خالق النواميس‏,‏ ومدبر هذا الكون الكبير‏,‏ وحين تشف الروح وتصفو فتتسمع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح‏,‏ ويتوجه بالتسبيح‏,‏ فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلي‏,‏ وتدرك من أسرار هذا الوجود مالا يدركه الغافلون‏,‏ الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية السارية في ضمير هذا الوجود‏,‏ النابضة في كل متحرك وساكن‏,‏ وفي كل شئ في هذا الوجود‏'.‏

وجاء في تفسير الشعراوي‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما نصه‏:'...‏ وقوله تعالي‏:(‏ وإن من شئ‏....‏ أي‏:‏ ما من شئ‏,‏ كل ما يقال له شئ‏,‏ والشيء هو جنس الأجناس‏,‏ فالمعني أن كل ما في الوجود يسبح بحمده تعالي‏,‏ وقد وقف العلماء أمام هذه الآية وقالوا‏:‏ أي تسبيح دلالة علي عظمة التكوين‏,‏ وهندسة البناء‏,‏ وحكمة الخلق‏,‏ وهذا يلفتنا إلي أن الله تعالي منزه ومتعال وقادر‏,‏ ولكنهم فهموا التسبيح علي أنه تسبيح دلالة فقط‏;‏ لأنهم لم يسمعوا هذا التسبيح ولم يفهموه‏,‏ وقد أخرجنا الحق سبحانه وتعالي من هذه المسألة بقوله‏:(‏ ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏)‏ إذن‏:‏ يوجد تسبيح دلالة فعلا‏,‏ لكن ليس هو المقصود‏,‏ فالمقصود هنا هو التسبيح الحقيقي كل بلغته فقوله تعالي‏:(‏ ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏)‏ يدل علي أنه تسبيح فوق تسبيح الدلالة الـذي آمن بمقتضاه المؤمنون‏,‏ إنه تسبيح حقيقي ذاتي ينشأ بلغة كل جنس من الأجناس‏,‏ وإذا كنا لا نفقه هذا التسبيح‏,‏ فقد قال تعالي‏:‏
‏(‏ كل قد علم صلاته وتسبيحه‏..*)‏
‏(‏ النور‏:41).‏

إذن‏:‏ كل شئ في الوجود علم كيف يصلي لله‏,‏ وكيف يسبح لله‏,‏ وفي القرآن آيات تدل بمقالها ورمزيتها علي أن كل عالم في الوجود له لغة يتفاهم بها في ذاته‏,‏ وقد يتسامي الجنس الأعلي ليفهم عن الجنس الأدني لغته‏,‏ فكيف نستبعد وجود هذه اللغة لمجرد أننا لا تفهمها ؟‏...'.‏
وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لا أري حاجة إلي تكراره‏.‏

من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم
يقرر النص القرآني الكريم الذي نحن بصدده أن الخلق بمختلف مستوياته وهيئاته وصوره يسبح الله‏(‏ تعالي‏)‏ تسبيحا لا يفهمه من الناس إلا من أعطاه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ القدرة علي ذلك فقال‏(‏ عز من قائل‏):‏
‏'‏تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا‏*'‏
‏(‏ الإسراء‏:44).‏

وهو تسبيح حقيقي ذاتي ينشأ بلغة كل مخلوق من الأحياء والجمادات ومن مختلف صور المادة والطاقة والظواهر المصاحبة لوجودها‏.‏

معني التسبيح في اللغة العربية
التسبيح لغة هو الذكر بالتمجيد والتقديس مع التنزيه عن كل نقص‏,‏ وعلي ذلك فإن تسبيح الله‏(‏ تعالي‏)‏ يقصد به ذكره الدائم‏,‏ وتمجيده‏,‏ وتقديسه‏,‏ وإخلاص العبادة له وحده‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏),‏ وتنـزيهه‏(‏ تعالي‏)‏ عن كل وصف لا يليق بجلاله‏.‏
ولفظة‏(‏ التسبيح‏)‏ مشتقة من‏(‏ السبح‏)‏ و‏(‏ السباحة‏)‏ أي‏:‏ العوم‏,‏ وهو في اللغة المر السريع للجسم المادي في وسط أقل كثافة منه كالماء أو الهواء‏,‏ يقال‏:(‏ سبح‏)(‏ يسبح‏)(‏ سبحا‏)‏ أي‏:‏ مر مرورا سريعا و‏(‏السبح‏)‏ أيضا الفراغ‏,‏ أو التصرف في المعاش‏,‏ وقد استعير‏(‏ السبح‏)‏ لمرور النجوم في صفحة السماء لقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏
‏'‏ وكل في فلك يسبحون‏*'‏
‏(‏يس‏:40)‏

والفعل‏(‏ سبح‏)‏ بمشتقاته المختلفة جاء سبعا وثمانين‏(87)‏ مرة في القرآن الكريم بمعني الذكر السريع المتكرر لله‏(‏ تعالي‏)‏ بأسمائه الحسني‏,‏ وصفاته العليا‏,‏ في كل وقت‏,‏ وعلي كل حال‏,‏ وإن كان التسبيح قد جعل عاما في مختلف العبادات‏:‏ قولا كانت أو فعلا أو نية‏,‏ إلا أنه قد خصص بالذكر اللفظي لأسماء الله وصفاته التي أنزلها في محكم كتابه‏,‏ أو علي لسان خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ حتي يتضح للذاكر معني تنزيه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ فعن طلحة بن عبيد الله أنه قال‏:‏ سألت رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ عن تفسير‏(‏ سبحان الله‏)‏ فقال‏:'‏ هو تنزيه الله عز وجل عن كل سوء‏',‏ واللفظة‏(‏ سبحان‏)‏ في هذا التعبير التعبدي منصوبة علي المصدر علي نحو‏(‏ غفران‏):‏ كأن قائلها يقول‏:‏ أنزه الله تعالي تنـزيها يليق بجلاله عن كل وصف لا يليق بهذا الجلال‏.‏
ويقال‏:(‏ سبحات‏)‏ وجه الله تعالي أي جلالته‏,‏ و‏(‏السبوح‏)‏ من صفات الله الحسني ومعناه‏'‏ الجامع لصفات الكمال المطلق‏,‏ المنزه عن كل نقص‏',‏ والتعبير التعبدي‏(‏ سبحان الله‏)‏ معناه التنزيه لله‏,‏ وهو منصوب علي صيغة المصدر كأن قائله يقول‏:‏ أبرئ الله‏(‏ تعالي‏)‏ من السوء براءة قاطعة‏,‏ وأنفي كل ما لا يليق بجلاله وعظمته‏,‏ من غير تشبيه‏,‏ ولا تمثيل‏,‏ ولا تأويل‏,‏ ولا تحريف‏,‏ ولا تعطيل‏,‏ وأثبت لجلاله ما وصف به ذاته العلية‏,‏ وأثبته له خاتم أنبيائه ورسله من صفات الكمال المطلق‏.‏

والتعبير القرآني‏:'‏ إن لك في النهار سبحا طويلا‏'(‏ المزمل‏:7).‏ أي فراغـا أو متقلبا طويلا‏..‏ و‏(‏السبحة‏)‏ هي خرزات في خيط يسبح بها‏,‏ وهي أيضا التطوع من العبادة والذكر‏,‏ يقال‏:‏ قضيت‏(‏ سبحتي‏)‏ أي أديت نافلتي من صلاة‏,‏ أو زكاة أو صيام‏,‏ أو حج‏,‏ أو دعاء‏,‏ أو توحيد لله‏(‏ تعالي‏)‏ توحيد الألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ وتوحيد الأسماء والصفات‏,‏ وكل ذلك من تسبيح الله‏(‏ جل جلاله‏),‏ أي تنزيهه عن كل وصف لا يليق بجلاله من نحو الادعاء الباطل بنسبة الجن أو الصاحبة أو الولد إليه‏,‏ أو الاعتقاد الخاطئ بوجود شريك له في ملكه‏,‏ أو منازع له في سلطانه‏,‏ أو مثيل له في ألوهيته وربوبيته‏,‏ ووحدانيته‏,‏ أو في جمعه لصفات الكمال المطلق‏,‏ أو في طلاقة القدرة التي لا تحدها حدود‏,‏ والاستعلاء فوق كل من المادة والطاقة‏,‏ وكل من حدود المكان والزمان‏,‏ وقوانين الموت والفناء‏,‏ فكل ما عدا الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو مخلوق فان‏,‏ تشكله المادة أو الطاقة أو كلاهما‏,‏ ويحده المكان والزمان‏,‏ وعلي ذلك فلا يمكن لأحد من خلق الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن يشبهه‏,‏ أو أن يقترب من صفاته‏:‏
‏'..‏ ليس كمثله شئ وهو السميع البصير‏*'(‏ الشوري‏:11)‏

الفرق بين تسبيح التكليف أو الاختيار وتسبيح الفطرة أو التسخير
تدل الآية الكريمة التي نحن بصددها علي أن السماوات والأرض ومن فيهن من ملائكة‏,‏ وجن‏,‏ وأناسي‏,‏ وغير ذلك من مختلف الكائنات الحية غير المكلفة من الحيوانات والنباتات‏,‏ والكائنات غير الحية‏(‏ أي الجمادات المادية ومختلف صور الطاقة‏),‏ وما يرافق ذلك كله من الظواهر والسنن الكونية‏,‏ كل ذلك خاضع لإرادة الله‏,‏ ومسخر حسب مشيئته‏,‏ ومسبح بحمده ومقدس له‏;‏ ونحن نفهم تسبيح العقلاء المكلفين من مؤمني الإنس والجن وهو ما يعرف باسم‏'‏ تسبيح التكليف‏'‏ أو‏'‏ تسبيح الاختيار‏',‏ ونسلم بتسبيح الملائكة في عالمهم الغيبي بالنسبة لنا وهو من صور‏'‏ تسبيح الفطرة أو التسبيح التسخيري‏',‏ أما تسبيح المخلوقات غير المكلفة من الأحياء والجمادات والظواهر والسنن الكونية وهو من نفس نوع تسبيح الملائكة الفطري التسخيري فهو يصدر بصورة لا تستطيع الغالبية العظمي من الناس إدراكها‏,‏ وبهيئة لا يقوي غالبية البشر علي استيعابها‏,‏ وهو تسبيح تؤكده الآية القرآنية الكريمة التي نحن بصددها‏,‏ وعشرات غيرها من آيات القرآن الكريم‏,‏ ومن أحاديث الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ علي أنه تسبيح حقيقي لا مجازي‏,‏ وليس علي مجرد الدلالة فقط‏.‏

من صور التسبيح الفطري التسخيري
يقدر العلماء أن عدد أنواع الحياة الأرضية يصل إلي حوالي الخمسة ملايين نوع‏,‏ يمثل كل نوع منها بالعديد من الأفراد الذين قد يصل عددهم في بعض هذه الأنواع إلي عدة بلايين‏,‏ وهذه تتخاطب فيما بينها بلغات وإشارات وتعابير تتفاوت من نوع إلي آخر‏.‏
ومنذ فترة والمتخصصون في علم سلوك الحيوان يحاولون إدراك شئ من وسائل التفاهم بين هذه المخلوقات‏,‏ واثبتوا ذلك بالملاحظة والتجربة للعديد منها من مثل القردة الكبيرة‏(GreatApes)‏ وأسود البحر‏(Sea-Lions),‏ والدلافين‏(Dolphins),‏ والحيتان‏(Whales)‏ والببغاوات‏(Parrots),‏ والهداهد‏(Hoopoes)‏ والغربان‏(Crows)‏ وغيرها من الطيور‏,‏ ومن مثل النحل‏(Bees)‏ والنمل‏(Ants)‏ وغيرهما من الحشرات‏,‏ والتي ثبت أن لها قدرات متفاوتة علي التعبير والإدراك وعلي اكتساب المعارف‏.‏

فالبغبغانات‏-‏ علي سبيل المثال‏-‏ لها قدرات فائقة علي ترديد ما تسمعه من أصوات‏,‏ وكلمات‏,‏ وجمل‏,‏ وقد تم تدريب بعضها علي معرفة العديد من الأسماء والأشكال والألوان المختلفة والنطق بها‏,‏ وعلي الرد المناسب لما يطرح عليها من أسئلة أو ثناء أو عتاب أو تعنيف وعلي التعبير بالعديد من الإشارات والإيحاءات التي تقترب من لغة الإشارة عند الصم والبكم‏.‏
وكذلك ثبت أن الحيتان تغني‏,‏ وتتواصل متبادلة الأخبار والأفكار والمشاعر عبر مسافات طويلة‏,‏ وثبت أن كلا من النمل والنحل ينظم خلاياه بدقة هندسية واجتماعية فائقة‏,‏ فالنحل يخبر شغالاته بمواقع أفضل الزهور‏,‏ وبكيفيات الوصول إليها‏,‏ ويحدد لها كلا من المسافات والاتجاهات والصعوبات التي قد تواجهها‏,‏ وكذلك النمل في ممالكه ينظم حياة أفراده تنظيما دقيقا للغاية‏,‏ وأصبحت لغة التخاطب عند كل من الحيوان والنبات علوما تدرس اليوم وتجري فيها البحوث‏.‏

والآية التي نحن بصددها تؤكد علي أن كل موجود من الأحياء والجمادات يعرف خالقه بالفطرة والإلهام‏,‏ ويعبده‏,‏ ويسبح بحمده‏,‏ ويقدسه تقديسا تسخيريا‏,‏ ويتمتع بقدر من الشعور والإدراك تتفاوت فيه هذه المخلوقات تفاوتا كبيرا‏,‏ ولكن لا يعلمه أي منهم‏.‏ والعلوم المكتسبة قد بدأت في تلمس شئ من ذلك‏,‏ والسبق القرآني به من قبل ألف وأربعمائة سنة يجزم بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي أربعة عشر قونا أو يزيد‏,‏ وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏.‏ كما يشهد ذلك للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقي القرآن العظيم بالنبوة والرسالة‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏