128)‏ وتفقد الطير فقال مالي لا أري الهدهد أم كان من الغائبيـن‏*‏
‏*(‏ النمل‏:20)*‏
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في بداية الخمس الثاني من سورة النمل‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(93)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي وادي النمل الذي مر به نبي الله سليمان وجنوده‏.‏ فنطقت نملة بلغتها الخاصة بها آمرة بقية النمل بالدخول إلي مساكنهم ومحذرة إياهم من إمكانية ان يطأهم سليمان وجنوده بأقدامهم أو بحوافر خيلهم فيحطموهم وهم لايشعرون‏,‏ وفي ذلك من الدلالات القاطعة علي تملك النمل لقدر من الإدراك والفهم والنطق‏,‏ وكذلك بقية المخلوقات‏,‏ والدراسات العلمية قد بدأت بالفعل في تأكيد ذلك‏.‏
وسورة النمل ـ مثلها مثل السورة المتقدمة عليها في المصحف الشريف‏(‏ سورة الشعراء‏)‏ والسورة اللاحقة بها‏(‏ سورة القصص‏)‏ ـ تستعرض قصص عدد من الأمم السابقة لاستخلاص العبرة‏,‏ وتعلم الدرس من تعامل تلك الأمم مع رسالة السماء ونتائج ذلك التعامل‏,‏ ومقارنة مواقف الكفار والمشركين في الجزيرة العربية من خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ مع مواقف أمثالهم من رسلهم السابقين ـ ومواقف أمثال أمثالهم مع الدعاة إلي الله من بعد ذلك العصر وحتي يوم الدين‏.‏

ويدور المحور الرئيسي للسورة الكريمة حول قضية العقيدة الإسلامية بركائزها المختلفة‏,‏ وقد استهلت سورة النمل بالحرفين المقطعين‏(‏ طس‏),‏ وهذه الفواتح الهجائية التي استهلت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم قيل فيها أنها رموز إلي كلمات أو معان أو أعداد معينة‏,‏ أو أنها أسماء للسور التي استهلت بها‏,‏ أو أنها من أساليب التحدي للعرب الذين عجزوا عن الإتيان بشيء من مثل سور القرآن الكريم‏,‏ ولسوف يعجزون إلي يوم الدين‏,‏ وقد أنزل بلغتهم وتكونت كلمات آياته من نفس الحروف التي يستخدمونها وقد كانوا أرباب فصاحة وحسن بيان‏,‏ أو أن هذه المقطعات هي وسيلة من وسائل حسن الاستهلال من أجل قرع الأسماع والقلوب لكي تنصت لآيات هذا الكتاب العزيز‏,‏ أو أنها شهادة علي صدق نبوة الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لنطقه بأسماء الحروف ـ وهو الأمي ـ والأمي لا ينطق إلا بأصوات الحروف‏,‏ ولايعرف أسماءها‏;‏ أو أنها تجمع بين ذلك كله وأكثر منه‏,‏ وما لا علم لغير الله‏(‏ تعالي‏)‏ به‏,‏ وما يعتبر من أسرار هذا الكتاب العظيم‏.‏
وبعد هذا الاستهلال تستكمل أول آيتين في سورة النمل بالثناء علي القرآن الكريم وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏
طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين‏*‏ هدي وبشري للمؤمنين‏*‏
‏(‏ النمل‏:2,1)‏

ثم تصف الآية التالية المؤمنين بأنهم
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون‏*‏ وتصف الآيتان التاليتان الذين لايؤمنون بالآخرة بأنهم‏(‏ يعمهون‏)‏ أي يتيهون في ضلالاتهم التي يتحيرون فيها كثيرا ويترددون‏,‏ ثم يأتي الحكم الإلهي‏:‏
أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون‏*‏
‏(‏النمل‏:5)‏

وتمتدح الآيات القرآن الكريم مرة أخري وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ليقول له‏:‏
وإنك لتلقي القرآن من لدن حكيم عليم‏*‏
‏(‏ النمل‏:6)‏

كذلك استعرضت سورة النمل لمحات من سير عدد من أنبياء الله ورسله مؤكدة وحدة الرسالة السماوية التي تكاملت في بعثة الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏ وفي هذا السرد الإلهي تبدأ السورة الكريمة بلمحة من قصة نبي الله موسي‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ حين ناجاه ربه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالبقعة المباركة من أرض سيناء‏,‏ وكلفه بإبلاغ رسالته إلي فرعون وقومه‏,‏ وأعطاه تسع آيات تشهد له بالنبوة وبالرسالة‏,‏ ثم كيف كذب بها فرعون وملؤه حين جاءهم موسي بها واعتبروها ضربا من السحر‏,‏ علي الرغم من تيقنهم من صدقها‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين‏*‏ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‏*‏
‏(‏ النمل‏:14,13).‏

ثم جاء ذكر كل من داود وولده سليمان‏(‏ علي نبينا وعليهما من الله السلام‏)‏ في قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا علي كثير من عباده المؤمنين‏*‏ وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين‏*‏ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون‏*‏
‏(‏النمل‏:15‏ ـ‏17)‏

وكان الهدهد من ضمن ما حشر لسليمان من الطير‏,‏ ولكنه عندما تفقده لم يجده‏,‏ فتوعده بعذاب شديد‏,‏ ثم فاجأه الهدهد بنبأ جاءه به من مملكة سبأ‏,‏ حيث وجد امرأة تحكمهم‏,‏ وقد أوتيت من كل شيء‏,‏ ولها عرش عظيم‏,‏ وأنها كانت وقومها يسجدون للشمس من دون الله‏,‏ وانتقد الهدهد ذلك كما جاء في قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي لسانه إذ يقول‏:‏
أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين‏*‏ إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم‏*‏ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لايهتدون‏*‏ ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون‏*‏ الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم‏*‏
‏(‏النمل‏:22‏ ـ‏26)‏

فأرسل سليمان الهدهد برسالة منه إلي أهل مملكة سبأ‏,‏ وتلقته ملكتهم فقالت ما ترويه الآيات في سورة النمل‏:‏
قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم‏*‏ إنه من سليمان وإنه باسم الله الرحمن الرحيم‏*‏ ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين‏*‏
‏(‏النمل‏:29‏ ـ‏31)‏

وبعد مشاورات مع أهل الرأي عندها قامت ملكة سبأ بإرسال هدية إلي سليمان فرفضها‏,‏ وتوعدها بالحرب‏,‏ وأمر بالاتيان بعرشها فجيء به إليه‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين‏*‏ قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين‏*‏ قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم‏*(‏ النمل‏:38‏ ـ‏40)‏
ثم جاءت ملكة سبأ لملاقاة سليمان‏(‏ عليه السلام‏)‏ لتعلن اسلامها علي يديه‏,‏ تائبة عن عبادة الشمس قائلة في ضراعة‏:...‏ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين‏*‏
‏(‏النمل‏:44)‏

وبعد ذلك انتقلت سورة النمل إلي جانب من قصة نبي الله صالح‏(‏ عليه السلام‏)‏ وكانت قبيلته ثمود ـ في غالبيتها من المفسدين في الأرض فدعاهم إلي الاستقامة علي منهج الله‏,‏ وإلي عبادته وحده سبحانه وتعالي‏:(‏ بغير شريك ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏)‏ ولكن قومه عارضوه‏,‏ ورفضوا دعوته‏,‏ ومكروا به‏,‏ وتآمروا عليه ـ علي الرغم مما أيده الله‏(‏ تعالي‏)‏ به من المعجزات الشاهدة علي صدق نبوته‏,‏ ولذلك دمرهم رب العالمين‏,‏ ونجي صالحا ومن آمن معه‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لايشعرون‏*‏ فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين‏*‏ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون‏*‏ وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون‏*(‏ النمل‏:50‏ ـ‏53)‏

ثم عرجت سورة النمل إلي جانب من قصة نبي الله لوط‏(‏ عليه السلام‏)‏ وصدود الكافرين المفسدين في الأرض من قومه عن دعوته‏,‏ وتآمرهم عليه من أجل إخراجه ومن آمن معه من قريتهم بدعوي أنهم أناس يتطهرون‏,‏ فأنزل الله‏(‏ تعالي‏)‏ عقابه الصارم بهم‏,‏ ونجي لوطا والذين آمنوا معه‏.‏
ثم تستشهد سورة النمل بعدد من الآيات الكونية علي وحدانية الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وكررت بعد كل آية من هذه الآيات هذا الاستفسار التقريري‏,‏ التقريعي التوبيخي لكل مشرك في هذا الوجود والذي يقول فيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):(‏ أ إله مع الله‏...‏؟‏),‏ ويأتي الجواب في كل مرة صادعا‏,‏ صادقا‏,‏ عنيفا بقول الحق‏(‏ تبارك اسمه‏):‏

‏(‏ بل هم قوم يعدلون‏)‏ أي يميلون عمدا عن الحق الواضح وهو التوحيد الخالص‏,(‏ بل أكثرهم لا يعلمون‏),(‏ قليلا ما تذكرون‏),(‏ تعالي الله عما يشركون‏),‏ و‏(‏قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين‏).‏
وتعاود الآيات في سورة النمل إلي وصف كل من منكري الآخرة‏,‏ والمتشككين في إمكانية وقوعها بالعمي لأنهم لايرون الحق الأبلج الظاهر أمام أعينهم‏,‏ وتطالب خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالرد عليهم مذكرة بعواقب المكذبين من الأمم السابقة وذلك بقول الحق‏(‏ جل جلاله‏):‏
‏(‏قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين‏*)‏
‏(‏النمل‏:69)‏

ثم تؤكد الآيات في هذه السورة المباركة أن اليهود قد حرفوا دينهم‏,‏ واشتروا به ثمنا قليلا‏,‏ وأن علي الذين يطلبون الحق منهم ـ إن بقي بينهم طالب حق ـ أن يرجعوا إلي كتاب الله الخاتم‏,‏ المحفوظ بحفظ الله‏,‏ في نفس لغة وحيه‏:‏ كلمة كلمة‏,‏ حرفا حرفا‏,‏ وآية آية‏,‏ وسورة سورة‏,‏ والمحفوظ علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد‏,‏ وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏,‏ فتقول بأمر الله‏(‏ عز سلطانه‏):‏
إن هذا القرآن يقص علي بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون‏*‏ وإنه لهدي ورحمة للمؤمنين‏*‏
‏(‏النمل‏:77,76)‏

وتشير الآيات في سورة النمل إلي واحدة من العلامات الكبري للساعة‏,‏ مؤكدة جحود أغلب الناس بآيات الله المقروءة في القرآن الكريم‏,‏ والمنظورة في أنفسهم وفي الآفاق من حولهم‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏*‏
‏(‏النمل‏:82)‏

ثم تذكر الآيات بيوم البعث وأهواله‏,‏ وبعدد من الأحداث المصاحبة له‏.‏ كما تصف تمايز الناس فيه إلي محسنين ومسيئين‏,‏ وجزاء كل فريق منهم‏,‏ وتنتهي إلي قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي لسان خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بما نصه‏:‏
إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها‏,‏ وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين‏*‏ وأن أتلو القرآن فمن اهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين‏*‏
‏(‏النمل‏:92,91)‏

وتختتم سورة النمل بآية تؤكد أن كنوز المعرفة الكونية في القرآن الكريم سوف تكتشف بعد زمن الوحي مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية جيلا بعد جيل‏,‏ وأمة بعد أمة‏,‏ حتي يشهد كل عاقل في هذا الوجود بصدق القرآن الكريم‏,‏ وبصدق الرسول الخاتم الذي تلقاه وفي ذلك يوجه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ الخطاب إلي خاتم أنبيائه ورسله فيقول‏:(‏ وقل الحمدلله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون‏*)‏
‏(‏ النمل‏:93)‏

وفي هذه الخاتمة إشارة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا مضت إلي التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه اليوم والذي يعد به المستقبل القريب إن بقي للكون وللإنسان وجود‏.‏ وما كان لأحد في زمن الوحي ولا لقرون متطاولة من بعده إمكانية لاستشراف شيء من ذلك أبدا‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة النمل
‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا واحدا أحدا‏,‏ هو رب العالمين‏,‏ وهو العزيز الحكيم‏,‏ وهو رب العرش العظيم ورب هذا الكون ومليكه‏,‏ وصاحب الحول والطول والقوة المطلقة‏,‏ ولا حول‏,‏ ولاطول‏,‏ ولا قوة إلا به‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ والإيمان بأنه‏(‏ جل جلاله‏)‏ هو الخلاق‏,‏ الرزاق‏,‏ الفتاح‏,‏ العليم‏,‏ واهب النعم‏,‏ ومجري الخيرات‏,‏ وهو الغفور الرحيم‏.‏
‏(2)‏ اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ منزه عن جميع خلقه‏:‏ في ذاته وصفاته وأسمائه‏,‏ فلا يجوز دعاؤه بغير ماسمي به ذاته العلية من أسماء‏,‏ ولا يجوز وصفه إلا بما نعت به ذاته العلية من نعوت‏,‏ ولا يجوز تحديده بمكان أو زمان لأنه خالق كل من المكان والزمان‏,‏ ولايجوز تجسيده في شكل مادة أو طاقة لأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو مبدعهما‏,‏ والمخلوق لايحد خالقه أبدا‏;‏ ومن هنا فإن من أبشع صور الكفر بالله‏(‏ تعالي‏)‏ إدعاء الشريك‏,‏ أو الشبيه‏,‏ أو المنازع‏,‏ أو الصاحبة‏,‏ أو الولد له‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لأن هذه كلها من صفات المخلوقين‏,‏ والله‏(‏ جل جلاله‏)‏ منزه عن جميع صفات خلقه‏,‏ لذلك كان توحيد الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو رسالته الأولي إلي جميع خلقه يوم خلق السماوات والأرض‏,‏ علمها لأبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ لحظة خلقه‏,‏ ثم أنزل بها سلسلة طويلة من أنبيائه ورسله‏,‏ وأكملها وأتمها في رسالته الخاتمة‏:‏ القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة‏,‏ ولذلك تعهد بحفظهما إلي يوم الدين‏,‏ وقد حفظها علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية‏.‏

‏(3)‏ الإيمان بوحي السماء‏,‏ وبوحدة الرسالة السماوية‏,‏ وبالأخوة بين الأنبياء‏,‏ وبأن جميع الرسالات السابقة علي بعثة المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قد تكاملت بالرسالة الخاتمة التي تعهد ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بحفظها إلي يوم الدين‏.‏
‏(4)‏ الإيمان بحتمية الآخرة وبضرورتها‏,‏ وبالعلامات الدالة علي بدء وقوعها والتي استشهدت السورة بأعداد منها مثل دابة الأرض التي تكلم الناس‏,‏ والإيمان بجميع المظاهر المصاحبة للآخرة ومنها النفخ في الصور مرتين‏,‏ وما تصحب كل واحدة منهما من فزع‏,‏ والبعث واهواله‏,‏ والعرض الأكبر أمام الله‏(‏ تعالي‏)‏ ورهبته‏,‏ والحساب بعدل الله وقسطاسه‏,‏ والميزان ودقته‏,‏ والصراط وحدته‏,‏ والجزاء وإنصافه‏,‏ ثم الخلود بعد ذلك إما في الجنة أبدا‏,‏ أو في النار أبدا‏.‏

‏(5)‏ التسليم بالغيوب المطلقة التي تحدث عنها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة‏,‏ لأن مثل هذه الغيوب لايمكن للإنسان الوصول إليها مهما تطورت قدراته البشرية‏,‏ واتسع علمه المكتسب‏.‏
‏(6)‏ اليقين بأن القرآن الكريم هو كلام الله الحكيم العليم‏,‏ وهو‏(‏ كتاب مبين‏)‏ وأنه‏(‏ هدي وبشري للمؤمنين‏),‏ وأنه يقص علي أهل الكتاب‏(‏ أكثر الذي هم فيه يختلفون‏),(‏ وإنه لهدي ورحمة للمؤمنين‏).‏

‏(7)‏ التصديق بكل ما جاء بالقرآن الكريم من قصص الأولين‏,‏ وبكل المعجزات التي أجراها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي أيدي عدد من أنبيائه تأييدا لهم‏,‏ ودعما لصدق رسالتهم‏.‏
‏(8)‏ الإيمان بأن الله تعالي هو الذي ينبت نبات الأرض وأشجارها بعلمه وحكمته وقدرته‏,‏ وهو الذي جعل الأرض قرارا‏,‏ وجعل خلالها أنهارا‏,‏ وجعل لها رواسي‏,‏ وجعل بين البحرين حاجزا‏,‏ وهو الذي يهدي خلقه في ظلمات البر والبحر‏,‏ ويرسل الرياح بشري بين يدي رحمته ـ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده‏,‏ وهو الذي يرزق خلقه من السماء ومن الأرض‏,‏ وهو الذي يعلم غيب السماوات والأرض‏.‏

‏(9)‏ اليقين بأن من جاء بالحسنة في الدنيا‏..(‏ فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون‏*‏ ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون‏*‏
‏(‏النمل‏:90,89)‏

‏(10)‏ الإيمان بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد حرم مكة المكرمة يوم خلق السماوات والأرض‏,‏ فهي أرض محرمة إلي يوم القيامة‏.‏
‏(11)‏ اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف يري خلقه عظيم آياته التي أنزلها في محكم كتابه والتي أبرأها في الأنفس والآفاق حتي يشهد كل ذي بصيرة أن القرآن الكريم هو كلام الله الحق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏;‏ وحفظه بعهده‏,‏ في نفس لغة وحيه دون أدني تبديل أو تحريف أو تغيير حتي يبقي حجة علي جميع الخلق إلي يوم يبعثون‏.‏

من التشريعات في سورة النمل
‏(1)‏ التشريع بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة‏.‏
‏(2)‏ تحريم الشذوذ الجنسي تحريما قاطعا‏,‏ علي الرغم من محاولة مؤسسات الغرب تحليله والتشريع لتبنيه‏,‏ ولتبني زواج الشواذ مما يقضي علي مؤسسة الأسرة‏,‏ ويؤدي إلي إفناء الجنس البشري بالكامل‏.‏
‏(3)‏ تحريم الظلم لأنه من صور الإفساد في الأرض‏,‏ ولأن عواقبه وخيمة‏.‏
‏(4)‏ الحث علي صحبة الصالحين لما فيها من خير عميم‏.‏

‏(5)‏ تحريم السجود لغير الله‏(‏ تعالي‏)‏ لأنه صورة من صور الشرك الذي حرمه الله‏.‏
‏(6)‏ الحث علي مداومة الشكر لله‏(‏ تعالي‏)‏ علي عظيم نعمه‏,‏ وعلي استغفاره طلبا لرحمته‏,‏ وعلي التوكل عليه استعانة به‏.‏
‏(8)‏ الحث علي تلاوة القرآن الكريم وعلي تدبر آياته‏,‏ ذلك الكتاب المبين الذي تلقاه النبي الخاتم من لدن الله الحكيم العليم‏,‏ الذي أنزله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هدي‏,‏ ورحمة‏,‏ وبشري للمؤمنين‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة النمل
‏1‏ ـ الإشارة إلي حقيقة الآخرة‏,‏ والعلوم المكتسبة تؤكد أن الكون مستحدث فان‏,‏ كانت له في الأصل بداية‏,‏ وأنه لابد وأن تكون له في يوم من الأيام نهاية لايعلم موعدها إلا الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لأن العلوم المكتسبة لاتستطيع تحديدها رغم الشواهد المادية الكثيرة التي تؤكد حتمية وقوعها‏.‏
‏(2)‏ الإشارة إلي عالمي الغيب والشهادة والعلوم المكتسبة تؤكد أن الغيوب في الكون المدرك تفوق المشاهد منه بتسعة أضعاف علي أقل تقدير‏,‏ لأن المعلوم لنا من الجزء المدرك من الكون لايتعدي‏10%‏ من مجموع الكتل المحسوبة رياضيا وفيزيائيا وفلكيا من أجل انتظام وجوده‏.‏

‏3‏ ـ إثبات أن لكل خلق من خلق الله كالنمل والطير‏,‏ وغير ذلك من الكائنات الحية‏,‏ وحتي النباتات والجمادات لكل واحد منها قدرا من الوعي‏,‏ والإدراك‏,‏ والذاكرة‏,‏ والشعور‏,‏ والإحساس‏,‏ وله إيمان فطري بالله‏(‏ تعالي‏),‏ وعبادة‏,‏ وتسبيح‏,‏ ولايدرك ذلك إلا من وهبه الله‏(‏ تعالي‏)‏ شفافية خاصة لذلك‏,‏ كما أن لكل منها صورة من صور التعبير عن الذات‏,‏ والتفاهم والاتصال بالغير‏,‏ وتبادل المعلومات‏,‏ وقدرة علي إصدار الأوامر وتلقيها وعلي تنفيذها في أحسن صورة‏,‏ وعلوم سلوك الحيوان والنبات‏,‏ وحتي سلوك الجمادات قد بدأت في التعرف علي بعض الجوانب في هذا المجال الغامض‏.‏
‏(4)‏ إن في الاتيان بعرش الملكة من أرض سبأ إلي بيت المقدس في أقل من طرفة عين يشير إلي سرعات فائقة تقترب من سرعة الضوء‏,‏ ومثل هذه السرعات الفائقة لم يعرف إلا في القرن العشرين‏,‏ والإشارة إليها في القرآن الكريم وهو كتاب أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة علي نبي أمي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين يعتبر سبقا علميا معجزا يشهد للقرآن الكريم بأنه لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏.‏

‏(5)‏ التأكيد علي خلق السماوات والأرض بالحق‏.‏ وعلي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يبدأ الخلق ثم يعيده‏,‏ والمشاهدات في الكون كما تدونها العلوم الحديثة تؤكد ذلك وتدعمه‏.‏
‏(6)‏ الإشارة إلي كل من تصريف الرياح‏,‏ ودورة الماء حول الأرض بالتأكيد علي إنزاله من السماء‏,‏ وإلي إنبات الأرض بمجرد إنزال الماء عليها‏.‏

‏(7)‏ ذكر العديد من صفات الأرض ومنها أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد جعلها قرارا‏,‏ وجعل خلالها أنهارا‏,‏ وجعل لها رواسي‏,‏ وجعل بين البحرين حاجزا‏,‏ وكلها من الحقائق التي لم يتمكن العلم من إثباتها إلا مؤخرا‏.‏
‏(8)‏ الإشارة إلي هداية الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لعباده في ظلمات البر والبحر بواسطة كل من أضواء نجوم السماء‏,‏ وأنوار القمر‏,‏ وكلها من نعم الله العديدة علي خلقه‏,‏ ومن صور رزقه المتعددة لهم وهو الذي يرزقهم من السماء والأرض‏.‏

‏(9)‏ التأكيد علي أن كل مخلوق ـ مهما تضاءلت صورته ـ له قدر من الإيمان الفطري‏,‏ والتسبيح اللاارادي‏,‏ والعبادة التسخيرية‏.‏ والقدرات الذاتية من الوعي‏,‏ والإدراك‏,‏ والإحساس والشعور‏,‏ والذاكرة‏,‏ وقدرة الحكم علي الأشياء بمنهجية صحيحة‏,‏ ومنطق سوي‏,‏ والتعبير عن ذاته‏,‏ وانطباعاته‏,‏ وأفكاره‏,‏ ومشاعره وعلي مشاركة غيره في ذلك‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يهب لمن يشاء من عباده القدرة علي استيعاب ذلك وفهمه والتفاعل معه‏,‏ ومن هنا كان تعليم الله‏(‏ تعالي‏)‏ عبده ونبيه سليمان لغة النمل ومنطق الطير‏,‏ وكانت إرادته‏(‏ تعالي‏)‏ أن يتمكن أحد طيوره وهو الهدهد من نقل أخبار حضارة سبأ إليه حتي يأتوه مسلمين‏.‏ والدراسات المستحدثة في علم سلوك الحيوان تشير إلي إمكانية ذلك وتدعمه‏.‏
‏(10)‏ التلميح إلي دوران الأرض حول محورها أمام الشمس بذكر تبادل كل من الليل والنهار‏,‏ وبالإشارة إلي مرور الجبال مر السحاب وهي تبدو للناظر إليها وكأنها جامدة راسخة في أماكنها‏.‏

‏(11)‏ الإشارة إلي أن مستقبل البشرية في تطورها العلمي سوف يؤكد صدق ما جاء به القرآن الكريم من حقائق علمية‏,‏ وتاريخية‏,‏ ونفسية‏,‏ وتربوية‏,‏ وسلوكية ترددت في ثنايا رسالته الأساسية وهي الدين‏,‏ بركائزه الأربع الأساسية‏:‏ العقيدة‏,‏ والعبادة‏,‏ والأخلاق‏,‏ والمعاملات‏,‏ كي يكون في استمرارية ذلك ما يؤكد علي صدق ما جاء به القرآن الكريم من غيب‏.‏ وعلي صدق النبي الخاتم الذي تلقاه‏,‏ وليقيم الحجة بهذا الدين علي الخلق اجمعين حتي يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة التاسعة في القائمة السابقة والتي غطتها الآيات من رقم‏(20)‏ إلي رقم‏(26)‏ من سورة النمل‏,‏ وقبل البدء في ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح ودلالة هذه الآيات القرآنية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
وتفقد الطير فقال مالي لا أري الهدهد أم كان من الغائبين‏*‏ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين‏*‏ فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين‏*‏ إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم‏*‏ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لايهتدون‏*‏ ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون‏*‏ الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم‏*‏
‏(‏النمل‏:20‏ ـ‏26).‏

‏*‏ ذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ ما مختصره‏:...‏ ونجد أنفسنا أمام هدهد عجيب‏,‏ صاحب إدراك وذكاء وإيمان‏,‏ وبراعة في عرض النبأ‏,‏ ويقظة إلي طبيعة موقفه‏,‏ وتلميح وإيماء أريب‏...‏ فهو يدرك أن هذه ملكة‏,‏ وأن هؤلاء رعية‏,‏ ويدرك أنهم يسجدون للشمس من دون الله‏,‏ ويدرك أن السجود لايكون إلا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض‏,‏ وأنه هو رب العرش العظيم‏...‏ وما هكذا تدرك الهداهد‏.‏ إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاص‏,‏ علي سبيل الخارقة التي تخالف المألوف‏.‏
‏*‏ وقال بقية المفسرين كلاما مشابها لا أري حاجة إلي تكراره‏.‏

من الدلالات العلمية للآيات الكريمة
‏(‏الطائر‏)‏ في اللغة هو كل حيوان من ذوات الفقار له جناحان يمكنانه من السبح في الهواء ـ وإن لم يفعل ذلك ـ‏,‏ وجمعه‏(‏ طير‏)‏ وإن أطلق هذا اللفظ علي المفرد أيضا‏.‏ وجمع الطير‏(‏ طيور‏)‏ و‏(‏أطيار‏).‏
يقال‏(‏ طار‏)(‏ يطير‏)(‏ طيرورة‏)‏ و‏(‏طيرانا‏),‏ و‏(‏أطاره‏)‏ غيره أو‏(‏ طيره‏)‏ أو‏(‏ طايره‏)‏ بمعني واحد‏,‏ و‏(‏الطيار‏)‏ هو الذي يطير أو يقود طائرة‏,‏ وأرض‏(‏ مطارة‏)‏ أي كثيرة الطير‏,‏ و‏(‏المطار‏)‏ مكان انطلاق عمليات الطيران ويقال‏:(‏ تطاير‏)‏ الشيء بمعني تفرق أو طال‏,‏ و‏(‏استطار‏)‏ بمعني انتشر‏,‏ و‏(‏استطير‏)‏ بمعني طير‏.‏

و‏(‏طائر‏)‏ الإنسان عمله الذي قلده أو طار عنه من خير أو شر‏.‏
ويقال‏:‏ كأن علي رؤوسهم‏(‏ الطير‏)‏ إذا سكتوا من هيبة أو خوف‏.‏ كما يقال‏:(‏ تطير‏)‏ فلان و‏(‏اطير‏)‏ بمعني تشاءم وإن كان أصله التفاؤل بالطير ثم استعمل في كل مايتفاءل به ويتشاءم‏,‏ وإن غلب استعماله في التشاؤم‏,‏ و‏(‏الطير‏)‏ و‏(‏الطيرة‏)‏ اسم من التطير أي التشاؤم‏.‏ وفي الحديث أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ كان يحب الفأل ويكره الطيرة‏.‏
ولفظة‏(‏ الطير‏)‏ جاءت في القرآن الكريم في ستة عشر موضعا‏,‏ وجاء الفعل‏(‏ يطير‏)‏ مرة واحدة‏,‏ وجاءت لفظة‏(‏ طائر‏)‏ بمعناها الحيواني مرة واحدة كذلك‏,‏ ولفظة‏(‏ طيرا‏)‏ جاءت ثلاث مرات‏,‏ وجاء الفعل‏(‏ تطير‏)‏ و‏(‏اطير‏)‏ و‏(‏يطير‏)‏ بمعني تشاءم مرة واحدة لكل‏,‏ وجاء الاسم‏(‏ طائركم‏)‏ بمعني شؤمكم مرتين‏.‏

وجاء لفظ‏(‏ طائر‏)‏ بمعني العمل مرتين‏,‏ وجاءت الصفة‏(‏ مستطيرا‏)‏ بمعني فاشيا منتشرا مرة واحدة‏.‏
وجاء اسم طائر‏(‏ الهدهد‏)‏ مرة واحدة في القرآن الكريم‏,‏ وهو طائر أنيق‏,‏ يتسم بالذكاء‏,‏ واليقظة‏,‏ والحذر وسرعة الملاحظة‏,‏ وقوة الذاكرة‏,‏ وسعة الحيلة‏,‏ والإيمان الفطري‏,‏ والتسبيح اللا إرادي‏,‏ والقدرة علي التعبير‏,‏ وتوحيد الله‏(‏ تعالي‏)‏ بصورة تكاد تكون متصلة‏,‏ والدعوة إلي الخير بلا توقف‏,‏ وإلي عبادة الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وحده‏,‏ ولذلك نهي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ عن قتله بما جاء في حديث أبي هريرة‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ قال فيه‏:‏ نهي النبي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ عن قتل أربع من الدواب‏:‏ النملة‏,‏ والنحلة‏,‏ والهدهد‏,‏ والصرد‏.(‏ أخرجه كل من الأئمة أحمد‏,‏ وأبي داود‏,‏ وابن ماجه‏).‏

والهدهد اسمه العلمي‏(Upupaesp)‏ واسمه الدارج باللغة الإنجليزية‏(Hoopoe)‏ وينسب إلي فصيلة الهداهد‏(FamilyUpupidae)‏ وهي من فصائل الطيور ذات المنقار العظمي‏(Hornbill)‏ ولايعرف منها أكثر من سبعة أنواع من الهداهد التي تعتبر من الطيور النادرة في أوروبا والأمريكتين‏,‏ وإن انتشرت في كل من المناطق الاستوائية والمعتدلة من القارتين الإفريقية والآسيوية‏.‏
والهدهد طائر صغير يبلغ طوله حوالي‏30‏ سنتيمترا‏,‏ ويتميز بأرجله القصيرة وأقدامه العريضة‏,‏ ومخالبه القوية‏,‏ وتاجه الريشي الجميل وذيله المربع‏,‏ وريشه المزخرف‏,‏ ومنقاره الطويل‏,‏ الرقيق‏,‏ المعقوف قليلا إلي الأسفل‏,‏ وجناحاه العريضان المدوران‏,‏ وصوته الموسيقي الناعم الذي يتردد مرة كل ثانيتين تقريبا‏.‏

والهدهد يمشي علي الأرض بخطي سريعة‏,‏ ويجري بسرعة ملحوظة‏,‏ ويعيش عادة في المناطق المفتوحة‏,‏ المكسوة بالخضرة إلي مسافات كبيرة‏,‏ والنائية عن السكان‏,‏ ويري أفرادا‏,‏ وفي بعض الأحيان يري أزواجا‏,‏ وفي البعض النادر يري في جماعات‏.‏ والهدهد يطير بقوة وبمباشرة فيها شيء من الفجائية‏,‏ ويحط علي الأرض باندفاع وفجائية كذلك‏.‏ ويتغذي أساسا علي الحشرات ويرقاتها‏,‏ وعلي بعض اللافقاريات الصغيرة من مثل العناكب‏,‏ وذوات المائة قدم‏,‏ وديدان الأرض‏,‏ وغيرها‏.‏
وبما وهبه الله‏(‏ تعالي‏)‏ من قوي الذكاء الفطري يستطيع الهدهد تخليص فريسته مما لايفيده هو من طعام من مثل الأصداف‏,‏ والأجنحة‏,‏ والأرجل‏,‏ والزوائد الأخري‏,‏ وذلك بضرب فريسته في الأرض عدة مرات حتي يتخلص من تلك الأجزاء التي لاتفيده‏,‏ ثم يمزق الفريسة المنظفة بواسطة منقاره‏,‏ ويبتلعها جزءا جزءا‏.‏

والهدهد يستخدم الفتحات والفراغات الموجودة في العديد من الأشجار أو في فتحات الصخور أو في اسقف وجدران المباني لاستعمالها عشا له ولفراخه بعد فرشها بالقش‏,‏ أو الأعشاب‏,‏ أو أوراق الشجر‏,‏ حيث تضع الأنثي بيضها وتحتضنه لمدة‏(16)‏ إلي‏(19)‏ يوما ولاتغادره حتي يفقس‏,‏ وعلي الذكر ان يوافيها بالطعام طوال هذه المدة‏.‏ وبعد ان يفقس البيض‏,‏ وتخرج منه الفراخ الصغار تحتضن الأم صغارها لمدة ثمانية أيام أخري في المتوسط لأنها قد تزيد علي ذلك وقد تقصر‏,‏ والهداهد من أكثر الطيور وفاء لأمهاتها‏,‏ وحنانا علي صغارها‏.‏
والعلوم المكتسبة ـ وإن أدركت مؤخرا قوة الملاحظة‏,‏ والتمييز‏,‏ والقدرة علي التعبير في العديد من الحيوانات‏(‏ ومنها الطيور‏)‏ إلا أنها لاتستطيع أن تعرف بدقة قدرات كل كائن حي علي إدراك الأحداث التي تمر أمام ناظريه‏,‏ وعلي الانفعال بها‏,‏ والتفاعل معها ولاكيفيات عمل المخ في كل واحد من هذه الكائنات الحية‏,‏ وإن تحققت من قدراتها علي السمع والإبصار‏,‏ والمعرفة‏,‏ وتخزين المعلومات‏,‏ واجترارها‏,‏ وتمييزها‏,‏ وتبويبها‏,‏ والانفعال بها‏,‏ والتعبير عن ذلك بوسائلها المختلفة‏.‏ والاكتشافات الأخيرة في علوم سلوك الحيوان تؤكد ذلك وتدعو إليه‏,‏ وقد صدرت مؤلفات عديدة بعناوين من مثل ذكاء الحيوان وقدرته علي كل من التفكير والسلوك‏(AnimalIntelligence,ThinkingandBehhviour)‏ وعندما تبكي الفيلة‏(WhenElephantsWeep)‏ وسبق القرآن الكريم بالإشارة إلي هذه الحقائق من قبل أن يصل إليها علم الإنسان بأكثر من ألف وأربعمائة سنة مما يقطع بأن القرآن الكريم لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ وحفظه كلمة كل مة‏,‏ وحرفا حرفا‏,‏ في صفائه الرباني‏,‏ وإشراقاته النورانية‏,‏ وبكل ما جاء فيه من حق حتي يبقي حجة علي جميع الخلق إلي يوم الدين‏,‏ وما ذلك علي الله بعزيز‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا‏.‏