(115)فلما قضينا عليه الـموت ما دلهم علي موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته‏...‏سبأ‏:14‏
بقلم الدكتور‏:‏زغـلول النجـار
هذا النص القرآني جاء في مطلع الربع الثاني من سورة سبأ‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(54)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي قوم سبأ‏,‏ وهم قبيلة من العرب سكنت اليمن وسميت باسم جدهم‏(‏ سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان‏).‏
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية‏,‏ ومن ركائزها‏:‏ الإيمان بالله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ والتوحيد الخالص لجلاله‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏),‏ والإيمان بوحيه‏,‏ وبجميع أنبيائه ورسله‏,‏ وبحتمية الآخرة‏,‏ والبعث‏,‏ والحساب‏,‏ والجزاء إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏,‏ وبأن الإيمان يصدقه العمل الصالح‏,‏ وكلاهما قوام الحكم والجزاء عند الله الذي‏...‏ لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين‏,‏ وأنه ما من قوة يمكنها أن تعصم العبد من عقاب الله‏,‏ وما من شفاعة عنده إلا بإذنه‏.‏ وترد السورة علي المشركين في إنكارهم للآخرة‏,‏ وعلي تكذيبهم بالبعث بعد الموت بعرض عدد من مشاهد القيامة‏,‏ ومن صور العذاب الذي يكذبون به‏,‏ ومن الأدلة علي عجز شركائهم الذين يدعون من دون الله‏,‏ كما ترد علي المكذبين لبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ ولرسالته الخاتمة‏,‏ وتناولت هذه السورة الكريمة أيضا قصص عدد من أنبياء الله الشاكرين لأنعمه‏,‏ وعدد من الأمم التي أبطرتها النعم كقوم‏(‏ سبأ‏)‏ الذين عاقبهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي طرهم بإقصاء نعمه عنهم‏,‏ وتلك سنة الله في خلقه‏,‏ وهي سنة لا تتوقف‏,‏ ولا تتخلف أبدا فاعتبروا يا أولي الأبصار‏...!!.‏

عرض موجز لسورة سبأ
تبدأ سورة سبأ بثناء الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي ذاته العلية بقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير‏*‏ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور‏(‏ سبأ‏:2,1).‏

ثم انتقلت السورة إلي الرد علي منكري البعث بالتأكيد علي حتمية وقوعه‏,‏ والرد علي المناوئين لبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم‏*‏ ويري الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلي صراط العزيز الحميد‏(‏ سبأ‏:6,5).‏

وتستشهد الآيات ببديع صنع الله في السماء والأرض‏,‏ وتتهدد المكذبين ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ والمتطاولين علي شخصه الكريم من الكفار والمشركين والمكذبين بالبعث في القديم والحديث وحتي قيام الساعة بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ لو يشاء لخسف بهم الأرض أو أسقط عليهم كسفا من السماء‏.‏
ثم انتقلت السورة بالحديث إلي قصة كل من نبي الله داود وولده النبي سليمان‏(‏ علي نبينا وعليهما من الله السلام‏),‏ وما من الله‏(‏ تعالي‏)‏ به عليهما من أفضال جزاء شكرهما لأنعمه‏,‏ وقارنت ذلك ببطر غالبية‏(‏ قوم سبأ‏)‏ الذين أعرضوا عن دين الله بعد أن كانت ملكتهم قد أسلمت لرب العالمين مع سليمان‏(‏ عليه السلام‏),‏ فأزال الله نعمه عنهم‏,‏ وجعلهم أحاديث‏,‏ ومزقهم كل ممزق‏,‏ وجعلت من قصتهم آيات لكل معتبر ولكل صبار شكور‏.‏

ثم توجه الآيات الخطاب للمشركين بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
قل ادعو الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير
‏(‏سبأ‏:22).‏

والخطاب هنا للتوبيخ والتعجيز إذ يقرر أن كل معبود غير الله لا يملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض‏,‏ لا علي سبيل الملك‏,‏ ولا حتي المشاركة‏,‏ والله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لا يستعين بهم في شيء‏,‏ فما هو في حاجة إلي معين‏,‏ ولا يشفع عنده إلا من أذن له‏,‏ وفي ذلك يقول‏:‏
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتي إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير‏(‏ سبأ‏:23).‏

وتؤكد الآيات أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يرزق خلقه من السماوات والأرض‏,‏ وأن كل مخلوق مسئول عن عمله‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يفصل بين خلقه يوم القيامة‏,‏ ويستنكر شرك المشركين وهو العزيز الحكيم‏.‏
وتخاطب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ له‏:‏

وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏(‏ سبأ‏:28).‏
وتعاود السورة الكريمة الرد علي منكري البعث وعلي الذين يرفضون الإيمان بالقرآن الكريم ولا بما أنزل من قبله من كتب‏,‏ وعلي المشركين فتقول الآيات‏:‏

ويقولون متي هذا الوعد إن كنتم صادقين‏.‏ قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون‏*‏ وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو تري إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلي بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين‏(‏ سبأ‏:29‏ ـ‏31).‏
وتفصل السورة الكريمة ضربا من الحوار بين الذين استكبروا والذين استضعفوا من المشركين في يوم القيامة وتختتم بقول الحق‏(‏ عز وجل‏):‏

‏...‏ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون‏(‏ سبأ‏:33).‏
وتعرج الآيات في سورة سبأ علي غرور المترفين الذين أفسد الترف فطرتهم‏,‏ وأغلظ قلوبهم‏,‏ وأفقدها رقة الخضوع لله‏(‏ تعالي‏),‏ وملأها بالكبر علي الهداية‏,‏ والإصرار علي الباطل‏,‏ والانغماس في الشهوات‏;‏ والمترفون عادة ما تخدعهم النعمة‏,‏ ويغرهم ما أغدق الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليهم من ثراء وقوة فيحسبون ذلك مانعهم من عذاب الله‏,‏ وهو وهم كاذب لا ظل له من واقع‏,‏ ولذلك تقول الآيات فيهم‏:‏

وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون‏*‏ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين‏*‏ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏*‏ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفي إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون‏(‏سبأ‏:34‏ ـ‏37).‏
وتشجع الآيات علي الإنفاق في سبيل الله مؤكدة أن الرزق من الله‏(‏ تعالي‏)‏ فتنطق بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ موجها الخطاب إلي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏

قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له و ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين‏(‏ سبأ‏:39).‏
وتعاود السورة الكريمة توجيه الخطاب مرة أخري إلي المشركين ومنهم من عبد الملائكة أو الجن من دون الله فتقول‏:‏

ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون‏*‏ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون‏*‏ فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار الذي كنتم بها تكذبون‏(‏ سبأ‏:40‏ ـ‏42).‏
ويكرر ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ إنذار المكذبين لبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بعقاب مماثل لعقاب المكذبين من الأمم السابقة فيقول‏(‏ عز من قائل‏):‏

وإذا تتلي عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفتري وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين‏*‏ وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير‏*‏ وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير‏(‏ سبأ‏:43‏ ـ‏45).‏
والمتصفح للعديد من المواقع علي شبكة المعلومات الدولية‏,‏ والمستمع إلي العديد من الإذاعات المحلية والأجنبية‏,‏ والمشاهد للقنوات الفضائية‏,‏ والمطلع علي الكثير من غير ذلك من الوسائل الإعلامية يدرك أن هذا التطاول علي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ بهذا المنطق المعوج نفسه‏,‏ وهذا الإسفاف في التعبير لا يزال سائدا‏,‏ وكأن هذه الآيات الكريمة قد نزلت لكفار ومشركي زماننا كما نزلت للكافرين والمشركين في زمن الوحي‏,‏ وفي الفترات الفاصلة بين زماننا وزمانهم وحتي قيام الساعة‏.‏

ويأتي الرد من الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالأمر إلي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يقول لهؤلاء الكفار والمشركين في زمانه‏,‏ وفي كل زمان من بعده ما نصه‏:‏
قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثني وفرادي ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏*‏ قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلي علي الله وهو علي كل شيء شهيد‏*‏ قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب‏*‏ قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد‏(‏ سبأ‏:46‏ ـ‏49).‏

وتختتم السورة الكريمة بذكر مصير الكافرين في يوم القيامة وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ولو تري إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب‏*‏ وقالوا آمنا به وأني لهم التناوش من مكان بعيد‏*‏ وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد‏*‏ وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب‏(‏ سبأ‏:51‏ ـ‏54).‏

والآيات تمثل الهول الذي يفاجأ به الكفار والمشركون في الآخرة ولقد فوجئوا بما أنذروا به فكذبوه‏,‏ ورأوا العذاب الذي حذروا منه فاستهانوا به وأنكروه‏,‏ رأوه رأي العين‏,‏ وعلموا يومئذ أن لا نجاة ولا مهرب لهم منه‏,‏ وأخذوا من موقف الحساب مباشرة إلي النار‏,‏ وأني لهم في الآخرة تناول كفرهم القديم بالإيمان‏,‏ ومحو معاصيهم السابقة بالتوبة‏,‏ وقد كان ذلك يعرض عليهم في الدنيا فرفضوه‏,‏ ويقدم إليهم بين أيديهم فضيعوه‏,‏ وكانوا يرجمون بالغيب‏,‏ ويحكمون بالظن والهوي‏,‏ ويتكلمون بما لم ينزل عليهم فيزعمون لله‏(‏ تعالي‏)‏ الشريك‏,‏ والشبيه‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة‏,‏ والولد‏,‏ وينكرون البعث‏,‏ والحساب‏,‏ والجزاء‏,‏ والجنة‏,‏ والنار‏,‏ وينكرون ربانية القرآن الكريم‏,‏ مدعين بأنه من أساطير الأولين‏,‏ وواصفين إياه بالشعر تارة‏,‏ وبالسحر المبين تارة أخري‏,‏ وواصفين النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بأوصاف لا تليق بمقامه الشريف‏,‏ وبما هو بعيد عن الحق والصواب بعد المشرقين‏,‏ ولذلك يحال بينهم وبين التوبة والإيمان بالله‏,‏ وبملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله في الآخرة‏,‏ وهو الأمر الذي يشتهون ويتمنون ولكن هيهات هيهات‏,‏ وذلك تماما ما فعل بأمثالهم ونظرائهم من كفار الأمم السابقة عليهم‏,‏ فقد كانوا جميعا في شك مريب من أمر الدين الصحيح وهو الإسلام العظيم الذي علمه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ لأبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ لحظة خلقه‏,‏ وأنزله علي فترة من الرسل‏,‏ وهدي به الخلق بواسطة نفر كثير من الأنبياء ثم أكمله وأتمه وحفظه في رسالته الخاتمة التي بعث بها النبي والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

وهكذا ختمت سورة سبأ بهذا الختام الذي يصف مشهدا عنيفا من مشاهد يوم القيامة‏,‏ وهو مشهد لم يقع في حس الناس بعد‏,‏ ولكن إذا علمنا أن كلا من الزمان والمكان من خلق الله‏(‏ تعالي‏),‏ والمخلوق لا يحد خالقه أبدا‏,‏ لأدركنا أن كلا من الماضي والحاضر والمستقبل حاضر عند الله‏(‏ تعالي‏),‏ إذا تحدث ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ عن أمر مستقبلي قادم تحدث عنه حديث المشاهد البصير‏,‏ والخبير العليم الذي لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏,‏ فتبارك الله رب العالمين‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة سبأ
تطالب سورة سبأ كل الخلق بأن يؤمنوا بالقواعد الأساسية التالية‏:‏
‏(1)‏ أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو رب السماوات والأرض وما فيهن‏,‏ وأنه هو‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ سوف يحمد في الآخرة من جميع خلقه لتحقق كل ما وعد به‏,‏ وأنه هو العزيز الحكيم‏,‏ والخبير العليم‏,‏ والغفور الرحيم‏,‏ والفتاح والرزاق ذو القوة المتين الذي يرزق عباده في السماوات والأرض‏,‏ وأنه هو‏(‏ سبحانه‏)‏ علام الغيوب وعلي كل شيء شهيد‏.‏

‏(2)‏ أن علم الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو علم محيط‏...‏ لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين‏.‏
‏(3)‏ أن البعث حتمي‏,‏ وأن الآخرة ضرورة لازمة‏,‏ وإن كذب بهما المكذبون‏,‏ وكفر بحتمية وقوعها الكافرون‏.‏

‏(4)‏ أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم من الله‏(‏ تعالي‏)‏ مغفرة ورزق كريم‏,‏ وأن الذين وقفوا في وجه الدعوة المحمدية المباركة وفي وجه آيات الله المنزلة في قرآنه الكريم معاجزين لهم عذاب من رجز أليم في الدنيا قبل الآخرة‏.‏
‏(5)‏ أن المعجزات التي أجراها الله‏(‏ تعالي‏)‏ لعدد من أنبيائه من أمثال داود وسليمان‏(‏ عليهما من الله السلام‏)‏ هي حق مطلق لا جدال فيه‏,‏ وكذلك ألوان العذاب التي أنزلها الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بعدد من العصاة السابقين من أمثال‏(‏ قوم سبأ‏)‏ هي حق كذلك‏.‏

‏(6)‏ أن كل معبود من دون الله لا يملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض‏,‏ وليس له شرك في أي منهما‏,‏ وليس له من دون الله من واق‏,‏ ومن هنا كان الشرك ظلما عظيما للنفس‏,‏ وكان كل من وقع في دنسه خاسرا خسرانا مبينا‏.‏
‏(7)‏ أن الشفاعة عند الله‏(‏ تعالي‏)‏ لا تنفع إلا لمن أذن له‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏

‏(8)‏ أن كل إنسان مسئول عن أعماله هو‏,‏ ولا يسأل عن أعمال غيره‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يفصل بين عباده بالعدل والقسطاس المستقيم‏.‏
‏(9)‏ أن خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قد أرسل إلي الناس كافة بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏,‏ وأن من لم يؤمن به وبرسالته فقد خسر خسرانا مبينا‏.‏

‏(10)‏ أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه‏)‏ هو خير الرازقين‏,‏ وإن كان أكثر الناس لا يعلمون ذلك ولا يؤمنون به‏.‏
‏(11)‏ أن‏...‏ من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون وأن الذين يعارضون القرآن الكريم ويتحدونه سوف تجرهم زبانية جهنم إليها وهم فيها محضرون‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة سبأ
‏(1)‏ تقرير أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق السماوات والأرض ومالكهما بكل من فيهما وما فيهما‏,‏ وأنه هو القادر علي أن يخسف الأرض أو أن يسقط السماء كسفا علي من يشاء‏.‏
‏(2)‏ وصف الحركة في الأرض بالولوج والخروج‏,‏ وفي السماء بالنزول والعروج وهي دقة علمية بالغة‏.‏

‏(3)‏ التأكيد علي حتمية النهاية لهذا الكون‏,‏ وهو ما تدعمه كل المشاهدات الحسية فيه‏.‏
‏(4)‏ الإشارة إلي ما هو أصغر من الذرة والذي لم يصل إليه علم الإنسان إلا في مطلع القرن العشرين‏.‏

‏(5)‏ أن المخلوقات من مثل الجبال والطير لها أقدار متفاوتة من الإدراك‏,‏ والشعور‏,‏ والإحساس‏,‏ والعبادة‏,‏ والتسبيح لله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وحده‏,‏ وهو ما بدأت الدراسات العلمية في تلمسه أخيرا‏.‏
‏(6)‏ أن الريح قد سخرت لسليمان غدوها شهر ورواحها شهر‏,‏ ومن ذلك يمكن الوصول إلي عدد من الحسابات العلمية‏.‏

‏(7)‏ الإشارة إلي القطر وهو إما القطران‏(‏ وهو الأرجح‏)‏ أو النحاس المصهور‏.‏
‏(8)‏ ذكر حقيقة أن من دواب الأرض‏(‏ أي حشراتها‏)‏ ما يأكل الخشب‏.‏

‏(9)‏ ذكر ما كانت فيه قبيلة سبأ من نعيم مقيم‏,‏ وسد للماء عظيم‏(‏ سد مأرب‏),‏ ثم أبطرتها النعمة فعاقبها الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بتسخير سيل العرم عليها فهدم السد‏,‏ ودمر الزرع‏,‏ وشتت الجمع‏,‏ وجعلهم أحاديث في أفواه الناس من حولهم‏,‏ وكل ذلك مما ثبت في دراسات متأخرة‏.‏
‏(10)‏ الإشارة إلي عالمية الدعوة الإسلامية‏,‏ وهو ما تحقق في الماضي القريب ولا يزال يتحقق إلي أن يشاء الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معاملة مستقلة‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الثامنة من القائمة السابقة التي جاءت في الآية الرابعة عشرة من سورة سبأ وقبل الوصول إلي ذلك أري لازما علي أن أستعرض أقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة قبل شرح دلالاتها العلمية‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
فلما قضينا عليه الموت ما دلهم علي موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته‏,‏ فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‏(‏ سبأ‏14)‏
‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:‏ يذكر تعالي كيفية موت سليمان عليه السلام‏,‏ وكيف عمي الله موته علي الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة‏,‏ فإنه مكث متوكئا علي عصاه وهي منسأته مدة طويلة‏...‏ فلما أكلتها دابة الأرض وهي‏(‏ الأرضة‏)‏ ضعفت وسقط إلي الأرض‏,‏ وعلم أنه كان قد مات قبل ذلك بمدة طويلة‏,‏ وتبينت الجن والإنس أيضا أن الجن لا يعلمون الغيب كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك‏....‏

‏*‏ وجاء في الظلال‏(‏ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة جزاء ما قدم‏)‏ قوله‏:...‏ وقد روي أنه كان متكئا علي عصاه حين وافاه أجله‏;‏ والجن تروح وتجيء مسخرة فيما كلفها إياه من عمل شاق شديد‏,‏ فلم تدرك أنه مات‏,‏ حتي جاءت دابة الأرض‏.‏ قيل إنها الأرضة‏,‏ التي تتغذي بالأخشاب‏,‏ وهي تلتهم أسقف المنازل وأبوابها وقوائمها بشراهة فظيعة‏,‏ في الأماكن التي تعيش فيها‏.‏ وفي صعيد مصر قري تقيم منازلها دون أن تضع فيها قطعة خشب واحدة خوفا من هذه الحشرة التي لا تبقي علي المادة الخشبية ولا تذر‏.‏ فلما نخرت عصا سليمان لم تحمله فخر علي الأرض‏.‏ وحينئذ فقط علمت الجن موته‏,‏ وعندئذ‏(‏ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‏)‏ فهؤلاء هم الجن الذين يعبدهم بعض الناس‏,‏ هؤلاء هم سخرة لعبد من عباد الله‏.‏ وهؤلاء هم محجوبون عن الغيب القريب‏;‏ وبعض الناس يطلب عندهم أسرار الغيب البعيد‏!.‏

‏*‏ وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لا أري حاجة إلي إعادته هنا‏,‏ وإن كانت الإسرائيليات قد أفاضت في ذكر قصة وفاة سليمان‏(‏ عليه السلام‏),‏ ونحن معشر المسلمين علينا الالتزام بأوامر رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقوله الشريف‏:‏ إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم لأننا إذا‏:‏ صدقناهم قد يصادف ذلك أمرا من الأمور التي حرفوها في دياناتهم‏,‏ وإذا كذبناهم فقد يصادف تكذيبنا لهم أمرا من بقايا الحق القديم الذي بقي فيما توارثوه من ذكريات عن أخبار أنبيائهم‏,‏ خاصة وأن الكتب الموجودة بين أيديهم اليوم مكتوبة بلغات غير لغات الوحي الذي أوحيت به‏,‏ ومن هنا تعددت التراجم‏,‏ وكثرت المراجعات‏,‏ وتباينت الأخبار‏,‏ وكثرت التناقضات مع ضياع الأصول‏,‏ وفقدان المرجعية‏,‏ ومن هنا أيضا كان واجب الالتزام بأوامر خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فلا نصدقهم‏,‏ ولا نكذبهم‏,‏ ولا ننقل عنهم‏,‏ لأن النقل عنهم في تفصيل بعض الأخبار‏,‏ أو التواريخ‏,‏ أو الأحداث‏,‏ أو الأشخاص قد يكون سجلا من الأخطاء تجمع تحت مسمي الإسرائيليات التي يجب نبذها‏,‏ والاحتراز من ترديدها‏,‏ وإدراك مخاطر ذلك وأخطائه العلمية‏,‏ والتاريخية‏,‏ و
الدينية‏,‏ خاصة وأن اليهود قد برعوا عبر التاريخ في تزييف الحقائق‏,‏ وطمس الوقائع التي تدينهم‏,‏ وفي تزوير التاريخ جملة وتفصيلا حتي يخفوا جرائمهم في حق الإنسانية كلها وهم أعداؤها الألدون لكثرة ما زيفوا من حقائق تصور لهم أنهم وحدهم شعب الله المختار‏,‏ أبناؤه وأحباؤه وغيرهم من الخلق حيوانات خلقت في هيئة الآدميين حتي يكونوا في خدمتهم‏,‏ وانطلاقا من هذا الوهم الخاطئ والكذب علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ ملأوا الأرض ظلما وجورا وإفسادا ولا يزالون يفعلون ذلك علي أرض فلسطين الجريحة والتي أغرقوها في بحار من الدماء والأشلاء والدمار والخراب ولا يزالون‏,‏ والله لهم بالمرصاد‏,‏ ووعده‏(‏ تعالي‏)‏ لن يخلفه بتدميرهم في الدنيا قبل الأخرة‏,‏ وما ذلك علي الله بعزيز‏.‏

من الدلالات العلمية للنص الكريم
أولا‏:‏ في قوله تعالي‏:(‏ دابة الأرض‏):‏
ودابة الأرض التي جاء ذكرها في هذا النص القرآني الكريم هي إحدي الحشرات التي تأكل الخشب‏,‏ وتحفر فيه لتتخذ منه مأوي وطعاما في آن واحد ولذا تعرف باسم ناقرات الخشب‏(WoodBorers)‏ أو القادح ومنها الأرضة‏(‏ القرضة‏),‏ العتة‏,‏ زنابير الخشب‏,‏ ويرقات الفراشة الماعز‏,‏ ويرقات الخنافس‏(‏ من مثل الخنافس ذات القرون الطويلة‏,‏ خنفساء المسك اللامعة‏,‏ الخنفساء الزنبورية‏,‏ خنفساء الحطاب‏,‏ خنافس الأثاث‏,‏ خنافس أعمدة التلغراف‏,‏ خنفساء قلف الأشجار‏,‏ والخنفسة المعروفة باسم نذير الموت‏,‏ وغيرها‏),‏ ومنها بعض سوس الأشجار‏(‏ مثل سوس شجرة الصنوبر‏),‏ ومنها ما يعرف تجـاوزا باسـم نمل الخشـب أو النمل الأبيض‏(Termites)‏ وقد جمع القرآن الكريم ذلك كله في تعبير علمي دقيق هو دابة الأرض‏.‏ وهو وصف معجز لأن أغلب هذه الحشرات تعيش تحت سطح الأرض أو في جذوع الأشجار‏,‏ أو في داخل أخشاب الأثاث والبناء مختفية عن الضوء‏,‏ لأنها لا تقوي علي التعرض طويلا لأشعة الشمس ولذا نجدها قبل غزو الخشب تتحرك في أنفاق طينية طويلة تصنعها الشغالات‏.‏ ثم إن ناخرات الخشب تشكل أعدادا كبيرة من الحشرات توضع في مجموعات تصنيفية مختلفة ومتعددة‏,‏ وتضمها صفة أنها كلها تعيش علي أخشاب الأشجار طعاما ومأوي‏,‏ فالنمل الأبيض‏(‏ نمل الخشب‏)‏ علي سبيل المثال ليس من النمل ولو أنه يعيش عيشة جماعية في مستعمرات شبيهة بمستعمرات النمل‏,‏ تقوم علي الملك والملكة‏,‏ والشغالات والناسلات المتساوية العدد تماما مع الذكور‏,‏ والجنود الذين لا دور لهم إلا حراسة المستعمرة‏.‏

وأنواع النمل الأبيض‏(Termites)‏ التي تم التعرف عليها في مختلف بقاع الأرض يصل عددها إلي قرابة الثلاثة آلاف نوع‏,‏ ينتشر أغلبها في المناطق الاستوائية والمدارية وشبه المدارية والمعتدلة‏,‏ وتتضاءل أعدادها في اتجاه القطبين‏.‏
وتحمل هذه الحشرات في جهازها الهضمي عددا من الطفيليات من البكتيريا والطلائعيات‏(‏ الحيوانات الأولية وحيدة الخلية الحاملة لنواة محددة‏)‏ التي تتعايش معها لتعينها علي هضم المواد الخشبية من السيليلوز واللجنين وتحولها إلي مواد صالحة لطعام هذه الحشرة‏.‏

أما الخنافس ذات القرون الطويلة فإن أنثاها تضع حوالي خمسين بيضة في المرة الواحدة‏,‏ وتضعها في أي كسور أو شقوق أو فتحات في الخشب سواء كان حيا‏(‏ في جذوع وفروع الأشجار والشجيرات‏)‏ أو كان ميتا أي واقعا منها‏,‏ أو منشورا عنها‏,‏ وعندما يفقس هذا البيض تخرج منه اليرقات لتنخر في الخشب الذي تتغذي علي ما تنخره منه بواسطة إنزيمات وخمائر خاصة تفرزها عليه‏,‏ وتهيئ لها سكنا فيه وإن حاولت أن تبقي قريبة من السطح‏.‏ وتعيش اليرقات في سراديبها التي حفرتها في داخل الخشب لفترات تتراوح بين السنة والثلاث سنوات إذا كان الخشب رطبا‏,‏ أما إذا كان الخشب جافا فقد تبقي اليرقات إلي فترات قد تصل إلي عشرين سنة يكتمل فيها نمو اليرقة إلي الحورية ثم إلي الحشرة الكاملة التي لا تخرج مباشرة لتعاود هذه العملية من جديد إلا في فترتي الربيع والصيف بعد أن تكون قد نخرت ثقوبا بيضاوية تتراوح أقطارها بين السنتيمتر وضعف ذلك‏,‏ مما قد يؤدي إلي أضرار بليغة بالخشب الذي نخرته وعاشت بداخله‏.‏ وعندما تخرج الحشرة الكاملة من الأنفاق التي حفرتها في الشجرة التي تطفلت عليها‏(‏ أو الخشب الجاف الذي عاشت فيه‏)‏ فإنها لا تبتعد كثيرا عنها فإما أن تعيش تحت قلفها‏,‏ أو في التربة المحيطة بها‏,‏ أو علي الأزهار المتفتحة من حولها‏,‏ والتي تتغذي علي حبوب اللقاح التي تجمعها منها‏.‏

والأشجار التي تتطفل عليها يرقات الخنافس هي عادة من ذوات الأوراق العريضة مثل أشجار البلوط‏,‏ والصفصاف‏,‏ والحور وأشباهها‏.‏ أما زنابير الخشب فإنها تركز علي الأشجار المخروطية وتعرض عن الأشجار ذات الأوراق العريضة بصفة عامة‏.‏ ومن النمل الأبيض ما يعيش في داخل الأخشاب الرطبة والجافة‏,‏ وما يحيا في داخل تربة الأرض‏,‏ مع بناء عدد من الأعشاش فوق سطح الأرض‏.‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي‏:(‏ تأكل منسأته‏):‏
من حكمة الله البالغة أنه بعث خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في أرض صحراوية يندر فيها النبات الا في بعض الواحات المحدودة‏,‏ حتي تبقي آيات النبات في القرآن الكريم وفي أحاديثه النبوية الشريفة من المعجزات الشاهدة بصدق نبوته‏(‏ عليه الصلاة والسلام‏)‏ وبصدق الوحي الموحي به إليه‏(‏ القرآن الكريم‏).‏ ومن هذه الآيات قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ عن دابة الأرض أنها كانت تأكل منسأة سليمان‏(‏ عليه السلام‏)‏ أي عصاته التي كان يتوكأ عليها‏,‏ وكانت من خشب‏.‏ وسميت العصاة‏(‏ منسأة‏)‏ لأنها يزجر بها ويساق‏,‏ وتؤخر بها الغنم وتدفع إذا جاوزت حدود المرعي‏,‏ والكلمة مستمدة من قولهم‏(‏ نسأ‏)‏ البعير أي زجره وساقه‏,‏ أو أخره ودفعه‏,‏ و‏(‏النسئ‏)‏ تأخير في الوقت عن زمنه‏,‏ ومثله‏(‏ النسيئة‏)‏ و‏(‏النساء‏);‏ و‏(‏المنسأ‏)‏ و‏(‏المنسأة‏)‏ عصا‏(‏ ينسأ‏)‏ بها الشئ أي يؤخر‏,‏ ويزجر‏.‏ وعصاة سليمان كانت بالقطع من الخشب لأن الناس ـ في زمانه ـ لم يكونوا يعرفون مصدرا لصناعة العصي غير الخشب‏.‏
وربما لاحظ الناس منذ القدم نخر بعض الحشرات للخشب ـ خاصة في البلاد ذات الكساء الخضري الكثيف ـ أما حقيقة أن تلك الحشرات بالفعل تأكل الخشب وتحيا علي مادته السيليلوزية واللجنينية الجافة بإفراز بعض الانزيمات والخمائر الخاصة عليه فلم تدرك إلا بعد تطور علم الحشرات عبر القرون القليلة الماضية حين بدأ الإنسان يعير هذه المخلوقات الدقيقة اهتمامه حتي وصل عدد الأنواع المعروفة منها اليوم إلي قرابة المليون نوع‏.‏

وتقسم الحشرات اليوم ـ كما تقسم بقية المخلوقات الحية ـ حسب طرائق اغتذائها إلي آكلات النبات‏,‏ وآكلات اللحوم‏(‏ اللواحم‏),‏ وآكلات كل من النبات واللحوم‏(‏ الحشرات المتنوعة الأكل‏)‏ بالإضافة إلي ما يعرف باسم الحشرات المرمرمة التي تتغذي علي المواد النباتية أو الحيوانية الميتة أو المتحللة مما يساعد علي تنظيف البيئة من آثارها المدمرة‏,‏ وذلك بإتمام تحلل تلك الجيف وتفكيكها إلي مواد تخصب التربة وتغذي النباتات‏.‏

ومن الحشرات آكلة النباتات ما يعيش علي امتصاص العصارات الغذائية التي تجري في خلايا تلك النباتات‏,‏ ومنها ما يعيش علي أكل أوراق النباتات‏(‏ وتعرف باسم الحشرات مجردة النباتات من أوراقها‏),‏ ومنها ما يعيش داخل أوراق النباتات‏(‏ الحشرات صانعة الأنفاق في أوراق النباتات‏),‏ ومنها ما يعيش داخل ثمار النباتات ومحاصيلها المختلفة مثل الحبوب‏(‏ آكلات الثمار‏,‏ آكلات البذور‏,‏ آكلات الفطر‏,‏ آكلات الدرنات وغيرها‏),‏ وهناك الحشرات التي تحيا علي قلف الأشجار‏(‏ حشرات القلف‏),‏ ومن الحشرات ما يحفر في الخشب ويتغذي علي ما فيه من بقايا المواد السكرية والنشوية في الخلايا الخشبية‏,‏ وعلي مكونات تلك الخلايا من المواد السيليولوزية واللجنينية بعد تفكيكها إلي مركباتها الأساسية‏,‏ وتعرف هذه الحشرات باسم ناخرات الأخشاب وهي تنخز في كل أخشاب الأشجار والأخشاب الجافة للحصول علي كل من الغذاء والمأوي‏,‏ ولذلك زودها الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالأدوات اللازمة للنخز في الخشب‏,‏ وبالقدرة الفائقة علي هضم ما به من مواد سيليلوزية ولجنينية صعبة التحلل‏,‏ وذلك بإفراز عدد من الإنزيمات والخمائر القادرة علي ذلك‏,‏ أو بالتعايش مع أعداد من البكتيريا والطلائعيات‏(‏ الأوليات‏)‏ التي تنتشر في القنوات الهضمية لتلك الحشرات والتي أعطاها الله‏(‏ تعالي‏)‏ القدرة علي تحليل المواد السيليلوزية واللجنينية وتحويلها إلي مواد صالحة لتغذية تلك الحشرات الناخرة‏.‏ وأغلب ناخرات الأخشاب هي من اليرقات التي يتحول الكثير منها إلي الحوريات ثم إلي الحشرات البالغة‏,‏ بعد فترات متباينة لنموها في داخل الخشب تتراوح بين السنة وأكثر من العشرين من الأعوام‏.‏ وقد زود الله‏(‏ تعالي‏)‏ ناخرات الخشب بالأدوات اللازمة للنخر سواء كان ذلك من الزوائد الفمية أو آلة وضع البيض في أنثي الحشرة‏.‏

ففي حالة زنابير الخشب الكبيرة التي تنخر في الأشجار المخروطية نلاحظ أن الأنثي تستخدم آلة وضع بيضها القوية المسننة مثل المنشار في نشر ثقوب في الخشب الصلب لكي تضع بيضها فيه‏,‏ وبعد فقس البيض تقوم اليرقات بالتغذية علي الخشب فتحفر أنفاقا يزيد طولها علي الثلاثين سنتيمترا في فترة نموها المتراوحة بين سنتين ونصف إلي ثلاث سنوات‏,‏ وعند تحول اليرقة إلي عذراء تكون اليرقة قد حفرت لها طريقا في الخشب يقترب من السطح بحوالي السنتيمتر الواحد فتقوم العذراء بنخره لتخرج علي هيئة زنبور الخشب الذي تعاود أنثاه الكرة من جديد‏.‏ ويلزم ليرقات ناخرات الأخشاب ابتلاع كميات كبيرة من الخشب لتحصل منها علي الغذاء الكافي لنشاطها ولنموها‏.‏
ويرقات ناخرات الأخشاب تشكل جزءا مهما من غذاء الطيور المعروفة باسم نقار الخشب الذي ينقر في أخشاب الأشجار المصابة فقط لاحتوائها علي يرقات غضة من يرقات الحشرات الناخرة للأخشاب‏,‏ والتي تتعرف عليها مثل تلك الطيور بوجود الثقوب التي تحدثها‏,‏ وتراب الخشب الذي تقذف به إلي خارج جحورها بعد أن تهضم ما فيه من مواد غذائية‏.‏

وإشارة القرآن الكريم في هذا النص المعجز الذي يقول فيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):..‏ إلا دابة الأرض تأكل منسأته‏..‏ هي أول إشارة في تاريخ البشرية إلي حقيقة أن من الحشرات ما يعيش علي أكل الأخشاب‏,‏ وهو سبق علمي يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية‏,‏ حفظا كاملا‏,‏ في نفس لغة وحيه‏,‏ في الوقت الذي تعرضت كل صور الوحي السابقة علي تنزله للضياع التام ولأقدار من التحريف لما بقي منها من ذكريات أخرجتها عن إطارها الرباني‏,‏ وجعلتها عاجزة عن هداية أصحابها إلي الدين الحق‏.‏
والحشرات ناخرة الخشب‏(‏ ومنها النمل الأبيض‏)‏ تعتبر أخطر الآفات الحشرية حيث تحدث خسائر فادحة بسبب تغذيتها علي المواد السيليلوزية واللجنينية للأخشاب المكونة لجذوع الأشجار وجذورها‏,‏ وأسقف وأبواب وشبابيك المنازل الخشبية‏,‏ وأعمدة التليفونات‏,‏ والأثاث‏,‏ والمفروشات والملابس والورق ومنتجاته‏,‏ والحبوب المخزونة‏,‏ ومنها ما ينخر في الثمار والمحاصيل النباتية الحية‏,‏ وهي في نفس الوقت تلعب دورا مهما في التخلص من أكداس النفايات التي تحولها إلي سماد للتربة التي تساعد أيضا علي تهويتها وتحسين كل من صفاتها الكيميائية والميكانيكية وإثرائها بالمواد العضوية‏.‏

وإن كان لفظ‏(‏ الدابة‏)‏ يدل علي كل شيء يدب وهو جمع للفظة‏(‏ داب‏)‏ مثل‏(‏ خائنة‏)‏ جمع‏(‏ خائن‏),‏ فإن‏(‏ دابة‏)‏ كلمة عامة في جميع الحيوانات‏,‏ وتشمل جمع المذكر والمؤنث معا‏,‏ إلا أن تاء التأنيث في الفعل تأكل منسأته تدل علي أن الذي يبدأ النخر في الخشب هي الإناث من تلك الحشرات الناخرة‏,‏ وهو سبق علمي آخر لم يكن معروفا في زمن الوحي‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعده‏,‏ وإن دل ذلك علي شئ فإنما يدل علي أن القرآن الكريم لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهد في نفس لغة وحيه علي مدي أربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها‏.‏ فالحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي نعمة حفظه علي مر الدهور والأعوام‏,‏ والحمد لله علي بعثة خير الأنام‏:‏ سيدنا محمد بن عبدالله صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏