‏(109)‏ ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا‏...*‏
‏*‏ النحل‏:69*‏

بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هذا النص القرآني جاء في بدايات النصف الثاني من سورة النحل‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(128)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها الي تلك المجموعة من الحشرات المعروفة باسم نحل العسل‏,‏ والتي نحلها الله‏(‏ تعالي‏)‏ القدرة علي جمع رحائق الزهور‏,‏ وغبار طلوعها‏,‏ وهضمه وتحويله في بطونها الي ذلك الشراب المختلف الألوان‏,‏ الذي جعل الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ فيه شفاء للناس‏.‏
ويدور المحور الرئيسي لسورة النحل حول قضيتين من ركائز الدين الإسلامي الحنيف وهما‏:‏ العقيدة‏,‏ ومكارم الأخلاق‏,‏ وفي سبيل الاستشهاد علي حجية ما دعت إليه أوردت السورة الكريمة عددا من آيات الله في الكون‏,‏ تنطق بطلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق‏,‏ وتشهد علي حتمية البعث‏,‏ وعلي وحدانية الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏):‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏,‏ لأن هذه كلها من صفات المخلوقين‏,‏ والخالق منزه تنزيها كاملا عن صفات خلقه‏.‏

وقد صيغت هذه الإشارات الكونية في سورة النحل‏,‏ كما صيغت في باقي سور القرآن الكريم ـ صياغة فائقة الدقة والشمول والكمال‏,‏ مما يشهد لهذا الكتاب العظيم بأنه كلام الله الخالق‏,‏ ويشهد للنبي والرسول الخاتم‏,‏ الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة‏,‏ حيث لم يكن لأحد من الخلق في زمن الوحي‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعده‏,‏ إلمام بشيء من تلك الحقائق التي لم يصل إليها علم الإنسان إلا في خلال القرنين الماضيين علي أقصي تقدير‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة النحل
‏(1)‏ الإيمان بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شيء‏,‏ وهو رب كل شيء ومليكه‏,‏ وبأنه الإله الواحد الأحد‏,‏ الفرد الصمد‏,‏ الذي لم يلد‏,‏ ولم يولد‏,‏ ولم يكن له كفوا أحد‏,‏ هو الخالق وغيره لا يخلق‏,‏ وهو الرازق وسواه لا يرزق‏,‏ وهو المعبود بحق ودونه لا يعبد أحد‏,‏ قد تقدست أسماؤه فلا يدعي إلا بما سمي به ذاته العليا من الأسماء الحسني‏,‏ وقد تنزهت صفاته‏,‏ فلا يوصف إلا بما وصف به حقيقته الإلهية‏,‏ ولما كانت تلك الحقيقة محجوبة عن المخلوقين‏,‏ فإنهم يعجزون عن معرفة شيء من صفات خالقهم إلا بما أبلغهم به‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ ومن ثم فإنهم عاجزون عن ضرب الأمثال لله‏,‏ لأنهم لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا‏.‏
ومن صفات الله‏(‏ تعالي‏),‏ التي أخبرنا بها في سورة النحل‏,‏ أن له غيب السماوات والأرض‏,‏ وأن أمره نافذ‏,‏ عاجل‏,‏ لا يرد‏,‏ وأن الدين له‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وحده‏,‏ وأنه علي كل شيء قدير‏.‏
وتخبرنا سورة النحل أن من سبل اليقين بالله‏(‏ تعالي‏),‏ إدراك حقيقة أن الخلق يشهد لخالقه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالربوبية والألوهية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ كما يشهد له‏(‏ سبحانه‏)‏ بطلاقة القدرة في إبداع الخلق‏,‏ والقدرة علي افنائه‏,‏ وإعادة خلقه‏,‏ ويشهد له‏(‏ تعالي‏)‏ بالعلم المحيط‏,‏ والهيمنة الكاملة علي جميع الخلق‏,‏ فكل ما في الكون خاضع لأمر الله‏,‏ يسجد لجلاله طوعا أو كرها‏.‏

‏(2)‏ الإيمان بحقيقة الوحي‏,‏ وبأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قد أنزل ملائكته بهدايته الربانية لخلقه‏,‏ علي من اصطفي من عباده‏,‏ لهداية الخلق الي معرفة الدين بركائزه الأربع الأساسية‏:‏ العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات‏,‏ وهي إما تقع في دائرة الغيب المطلق‏(‏ كالعقيدة‏)‏ أو الأوامر الإلهية الخالصة‏(‏ كالعبادة‏),‏ أو ضوابط السلوك‏(‏ كالأخلاق والمعاملات‏),‏ والتاريخ يؤكد لنا أن الإنسان كان عاجزا دوما عن أن يضع لنفسه فيها ضوابط صحيحة‏,‏ ومن هنا كانت ضرورة الوحي بالدين الذي أكمله الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وأتمه في بعثة الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ ولذلك تعهد ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بحفظ هذه الرسالة الخاتمة‏.‏

‏(3)‏ الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله‏,‏ وبالقدر خيره وشره‏,‏ وبالآخرة وما فيها من أهوال وحساب‏,‏ ثم خلود إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏,‏ وبأن الجنة هي مثوي المتقين‏,‏ وبأن النار هي مثوي المتكبرين‏,‏ الذين لا يؤمنون بالله ولا برسالاته‏,‏ أو الذين أشركوا غيره في عبادته‏,‏ ولم يعتبروا بعقاب الأمم العاصية من قبلهم‏,‏ والإيمان كذلك بفجائية وقوع الآخرة‏,‏ وبأن موعدها قد اقترب‏,‏ وبأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم في يوم القيامة‏,‏ وأن خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ سوف يشهد علي أمته‏,‏ وعلي جميع الأمم من يوم بعثته الشريفة الي يوم الدين‏,‏ لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد بعثه هاديا للخلق أجمعين‏.‏

‏(4)‏ الإيمان بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي لا تحصي نعمه‏,‏ ولا تعد أفضاله‏,‏ قد فضل بعض خلقه علي بعض في الرزق‏,‏ وأن كل نعمة اختص بها عبدا من عباده هي من فضله‏,‏ وأن من نعم الله المنعم علي عباده‏:‏ الزوجية‏:‏ والنسل‏(‏ الذرية‏),‏ والحواس كالسمع والأبصار والأفئدة‏,‏ حتي يكتسب الإنسان بها المعارف‏,‏ ويقوي علي حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض‏,‏ لأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ يخرج المواليد من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا‏.‏

‏(5)‏ الإيمان بفضل كل من الجهاد والهجرة في سبيل الله‏,‏ وأن أجر كل منهما عظيم في الدنيا والآخرة‏,‏ وبأن الذين مكروا السيئات لا يأمنون أن يخسف الله‏(‏ تعالي‏)‏ بهم الأرض‏,‏ أو أن يرسل عليهم العذاب من حيث لا يشعرون‏,‏ وبأن من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن‏,‏ فسوف يحييه الله حياة طيبة‏,‏ ولسوف يجزيه أجره بأحسن ما كان يعمل‏,‏ وأن الذين زين لهم الشيطان أعمالهم‏,‏ سوف يكون هو وليهم يوم القيامة‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أعد لهم عذابا أليما‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ لو يؤاخذ الناس بظلمهم‏,‏ ما ترك علي ظهر الأرض من دابة‏,‏ ولكن يؤخرهم الي أجل مسمي لا مهرب منه‏.‏

‏(6)‏ التسليم بأن الحاكمية لله‏(‏ تعالي وحده‏),‏ ومن ثم فإن له وحده حق التشريع‏,‏ والتحليل‏,‏ والتحريم‏,‏ ولا يجوز ذلك لأحد من المخلوقين أبدا‏.‏

‏7)‏ اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد وهب كل إنسان عقلا مدركا يفكر به‏,‏ وارادة حرة يختار بها‏,‏ وبين طرق الهداية المفضية الي الخير‏,‏ وطرق الانحراف الموصلة الي الشر‏,‏ وأكد أنه‏(‏ تعالي‏)‏ يحاسب كل فرد علي عمله‏,‏ فمن وجد خيرا فليحمد الله‏,‏ ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏.‏

من مكارم الأخلاق في سورة النحل‏:‏


أ- صورة لاحدى شغالات النحل تجمع الرحيق وحبوب اللقاح من داخل احدى الزهرات
ب - صورة فريدة لاحدى شغالات النحل تخرج بسانها لتمتص به رحيق وقد انتثرت على راسها حبيبات اللقاح
‏1)‏ الدعوة الي إقامة عدل الله في الأرض‏,‏ والي الوفاء بالعهد‏,‏ والاحسان الي الخلق‏,‏ واحترام الأيمان‏,‏ والي غير ذلك من مكارم الأخلاق‏,‏ وضوابط السلوك‏,‏ وقواعد المعاملات بين الأفراد والجماعات‏,‏ علي أن ينطلق ذلك كله من تقوي الله ورجاء رضاه‏,‏ ومخافة عقابه‏,‏ ومن الإيمان بضرورة ذلك لاستقامة الحياة علي الأرض‏.‏

‏(2)‏ الدعوة الي الإنفاق في سبيل الله‏,‏ والي إيتاء ذي القربي‏.‏

‏(3)‏ الدعوة الي رفض الظلم بكل أشكاله وصوره‏,‏ والي مقاومته بكل وسيلة مشروعة‏,‏ فإن تعذر ذلك فلتكن الهجرة في سبيل الله‏.‏

‏(4)‏ التحذير من الوقوع في الفتن‏,‏ ما ظهر منها وما بطن‏,‏ وفي مقدمتها فتن الكفر بالله أو الشرك به‏,‏ وما أكثرها في أيامنا الراهنة‏.‏

‏(5)‏ النهي القاطع عن السقوط في الفحشاء والمنكر والبغي‏,‏ وعن الوقوع في أوحالها‏.‏

‏(6)‏ التذكير المستمر بنعم الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي خلقه‏,‏ والحض علي دوام شكرها‏,‏ فبالشكر تدوم النعم‏,‏ وتنكسر حدة الغرور في النفس الإنسانية الأمارة بالسوء كلما أغناها الله‏(‏ تعالي‏).‏

‏(7)‏ التذكير برحلة الإنسان في هذه الحياة الدنيا‏,‏ من النطفة الي إنشاء الجنين في خلق آخر‏,‏ ثم إخراجه من بطن أمه وهو لا يعلم شيئا‏,‏ ثم ما يمر فيه بعد ذلك من مراحل الطفولة والشباب‏,‏ ثم الكهولة والشيخوخة‏,‏ وما فيها من هرم وضعف للقوة وللذاكرة‏,‏ ثم الاحتضار والموت‏,‏ وما يتخلل هذه الرحلة من فترات الرخاء والنعمة‏,‏ وفترات الابتلاء والشدة‏,‏ ومحصلة ذلك كله عند لحظة الموت وبعدها‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة النحل
‏(1)‏ التأكيد علي حقيقة الخلق بأبعاده المختلفة‏:‏ خلق السماوات والأرض‏,‏ خلق الحياة‏,‏ وخلق الإنسان‏.‏

‏2)‏ الإشارة الي قدرة الله البالغة‏,‏ في خلق الأنعام بمنافعها الكثيرة للإنسان‏,‏ وكذلك خلق كل من الخيل والبغال والحمير‏,‏ وغير ذلك من وسائل الركوب والزينة‏,‏ وحمل الأثقال المعروفة في زمن الوحي‏,‏ والمستجدة من بعده‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ قادر علي أن يخلق ما يشاء‏.‏

‏(3)‏ الإشارة الي دورة الماء حول الأرض‏,‏ بذكر إنزاله من السماء مصدرا للشراب‏,‏ ولانبات الشجر والزروع من مثل أشجار الزيتون والنخيل والأعناب‏,‏ وغير ذلك من أشجار مختلف الثمرات‏,‏ واعتباره آية للذين يتفكرون‏.‏

‏(4)‏ الاستشهاد علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في خلق الكون‏,‏ بتسخير الأرض حتي تكون صالحة للعمران‏,‏ ومن ذلك تكويرها‏,‏ وتدويرها حول محورها حول الشمس‏,‏ حتي يتبادل عليها كل من الليل والنهار‏,‏ وجريها في مدارها حول الشمس حتي تتبادل الشهور والفصول والأعوام‏..‏ وتسخير كل من القمر والشمس والنجوم كي تستقيم الحياة علي الأرض‏.‏

‏(5)‏ الإشارة الي ظاهرة مد الظل وقبضه كنتيجة لدوران الأرض حول محورها أمام الشمس‏,‏ واعتبار ذلك صورة من صور سجود كل شيء لله‏(‏ تعالي‏)‏ سجودا تسخيريا جبريا‏,‏ يختلف عن السجود الإرادي الاختياري عند الخلق المكلفين‏.‏

‏(6)‏ التنبيه الي مختلف صور وأشكال وألوان المخلوقات من الأحياء والجمادات في الأرض‏,‏ والي اعطاء الإنسان من القدرات الحسية ما يعينه علي تمييزها والتمتع بها وبألوانها المختلفة‏.‏

‏(7)‏ الإشارة الي تسخير الله‏(‏ تعالي‏)‏ البحر للانسان‏,‏ بما فيه من أحياء ذات لحم طري يؤكل‏,‏ وهياكل للحيوانات تصلح لصناعة حلي تلبس‏,‏ وقدرة علي حمل الفلك ذات الأحجام المختلفة التي تجري بمصالح العباد‏,‏ شاقة عباب مائه‏,‏ وما فوق الماء من هواء‏.‏

‏(8)‏ وصف الجبال بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد ألقاها علي الأرض‏,‏ وجعلها رواسي لها كي لا تميد ولا تضطرب‏,‏ ووصف قمم الجبال بأنها منابع للأنهار‏,‏ وعلاقة ذلك بشق الفجاج والسبل‏,‏ وتكوين مختلف أشكال الأرض التي تصبح علامات يهتدي بها في وضح النهار‏,‏ كما أن النجوم علامات للهداية بالليل‏.‏

‏(9)‏ وصف عقاب بعض الأمم السابقة‏,‏ بما ينطبق بدقة بالغة علي فعل الهزات الأرضية العنيفة‏(‏ الزلازل‏)‏ في زماننا‏,‏ من قبل أن يعرف الإنسان شيئا عن الزلازل‏.‏

‏(10)‏ تأكيد لمحة الإعجاز في خلق الأنعام‏,‏ وفي تكوين اللبن في ضروعها من بين فرث ودم‏,‏ وخروجه من تلك الضروع لبنا خالصا سائغا للشاربين‏.‏

‏(11)‏ الاستشهاد بما في ثمرات كل من النخيل والأعناب من الرزق الحسن‏,‏ وإن أساء بعض الناس استخدامها في صناعة المسكرات‏.‏

‏(12)‏ الإشارة الي الإعجاز في خلق أمة نحل العسل‏,‏ والي اعطاء الخالق سبحانه وتعالي لها قدرا من الوعي والإدراك‏,‏ ومنحها عددا من القدرات الفطرية التي تعينها علي تنظيم مجتمعاتها تنظيما تتوزع فيه الاختصاصات والمسئوليات والمهام بدقة فائقة‏,‏ تصلح لعيش جماعي تكافلي منظم‏,‏ ومن هنا كانت الإشارة الي أمة نحل العسل بالجمع في تسمية السورة سورة النحل‏,‏ وفي الآيات التي جاء ذكر النحل فيها‏,‏ والأمر الي الاناث‏(‏ الشغالات‏)‏ منها‏,‏ واعطائها قدرا من الحرية في اختيار بيوتها من الجبال‏,‏ ومن الشجر‏,‏ ومما يعرشون‏,‏ وقدرا من تحديد الأماكن والاتجاهات بدقة عالية‏,‏ وقوة علي الطيران لمسافات طويلة‏,‏ وبسرعات كبيرة‏,‏ حتي تتمكن من تغطية أكبر مساحة ممكنة من الأرض في زمن محدد‏,‏ لتجني الرحيق وحبوب اللقاح من أزهار نباتاتها‏,‏ ومنحها القدرة علي تحويل ذلك في بطونها الي ذلك الشراب المختلف الألوان‏,‏ والذي جعل الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيه شفاء للناس من العديد من الأمراض‏,‏ والخطاب في هذه السورة المباركة‏,‏ جاء الي إناث النحل لأنها هي التي تقوم بذلك كله‏.‏

‏13)‏ الإشارة الي خلق السلالة البشرية كلها من نفس واحدة‏,‏ هي نفس أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏),‏ التي خلق الله‏(‏ تعالي‏)‏ منها زوجها‏,‏ وبث فيهما رجالا كثيرا ونساء‏,‏ وخلق منهم بنين وحفدة‏,‏ في دورة مبهرة للحياة‏,‏ وجعل من هؤلاء من يتوفي مبكرا‏,‏ ومن يرد الي أرذل العمر‏,‏ وضعف البنيان الجسدي‏,‏ ومن أبرز مظاهره فقدان الذاكرة جزئيا أو كليا‏.‏

‏(14)‏ الإشارة الي السمع قبل البصر في هذه السورة المباركة‏,‏ وفي العديد من السور القرآنية الأخري‏,‏ والدراسات العلمية تؤكد خلق حاسة السمع قبل حاسة البصر في أجنة الإنسان‏,‏ وأجنة غيره من المخلوقات‏.‏

‏(15)‏ التلميح الي الطيور وهي مسخرات في جو السماء‏,‏ والتأكيد علي أنه لا يمسكهن إلا قدرة الله البالغة‏.‏

‏(16)‏ استخدام تعبير الحر بمفهوم كل من الحرارة والبرودة‏,‏ وهو تعبير علمي صحيح لم يكن معروفا في زمن الوحي‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعده‏.‏

‏(17)‏ تحريم أكل كل من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به‏,‏ والبحوث العلمية تثبت أخطار ذلك كله علي صحة الإنسان‏.‏

وكل قضية من هذه القضايا‏,‏ تحتاج الي معالجة خاصة بها‏,‏ ولهذا فسوف أقصر الحديث هنا علي النقطة الثانية عشرة من القائمة السابقة‏,‏ التي أشارت إليها الآية رقم‏(69)‏ من سورة النحل‏,‏ وقبل استعراض دلالتها العلمية‏,‏ لابد من الرجوع الي أقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الآية القرآنية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا‏...*(‏ النحل‏:69)‏
‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:..‏ ثم أذن لها تعالي إذنا قدريا تسخيريا‏,‏ أن تأكل من كل الثمرات‏,‏ وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالي مذللة لها‏,‏ أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة‏,‏ ثم تعود كل واحدة منها الي بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة‏,‏ بل الي بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل فتبني الشمع‏...‏ وتقيء العسل من فيها‏....‏

‏*‏ وذكر القرطبي‏(‏ رحمه الله‏),‏ كلاما مشابها لا داعي لتكراره‏.‏

‏*‏ وجاء كل من الزمخشري وأبي حيان بتفسير للسبل‏,‏ بمعني الطرق التي ألهمها الله‏(‏ تعالي‏)‏ لشغالات النحل في عمل العسل‏,‏ مع عدم انكار المعني السابق أي الطرق‏.‏

‏*‏ وذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ ما نصه‏:‏ والنحل تعمل بإلهام من الفطرة التي أودعها إياها الخالق‏...‏ وقد ذلل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وفي طبيعة الكون حولها من توافق‏....‏

‏*‏ وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ رحم الله كاتبها رحمة واسعة‏)‏ ما نصه‏:...‏ وفي غدوها لاقتطاف الأزاهير والثمار‏,‏ ورواحها الي خلياتها من مسافات بعيدة دون أن تخطئها‏,‏ وفي تنصيب أمة النحل في الخلايا ملكة عليها نافذة الحكم والسلطان‏,‏ واقامة حاجب علي كل خلية يحرسها ولايمكن غير أهلها من الدخول فيها‏,‏ مع صغر حجم النحلة وضعف بنيتها‏,‏ ودأبها علي العمل بنظام دقيق ـ أدلة متضافرة علي كمال قدرة مبدعها‏,‏ وبداعة صنع ملهمها‏...,(‏ سبل ربك ذللا‏)‏ مذللة‏,‏ ذللها الله تعالي وسهلها لك‏,‏ جمع ذلول‏,‏ وهو حال من‏(‏ سبل‏)‏ أي الطرق التي هداها الله إليها وهي راجعة الي خلاياها وبيوتها‏....‏

‏*‏ وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ ما نصه‏:‏ ثم هداها الله ـ سبحانه ـ للأكل من كل ثمرات الشجر والنبات‏,‏ وسهل لها أن تسلك لذلك طرقا هيأها لها ربها مذللة سهلة‏,‏ فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس‏,‏ إن في ذلك الصنع العجيب لأدلة قوية علي وجود صانع قادر حكيم‏,‏ ينتفع بها قوم يستعملون عقولهم بالتأمل فيفوزون بالسعادة الدائمة‏.‏
وبالهامش تعليق للخبراء علي تركيب عسل النحل‏.‏

‏*‏ وجاء في صفوة التفاسير‏(‏ جزي الله كاتبها خيرا‏),‏ ما نصه‏:(‏ ثم كلي من كل الثمرات‏),‏ أي كلي من كل الأزهار والثمار التي تشتهينها‏....,‏ فإن الله بقدرته يحيلها الي عسل‏(‏ فاسلكي سبل ربك ذللا‏),‏ أي ادخلي الطرق في طلب المرعي حال كونها مسخرة لك لا تضلين في الذهاب أو الإياب‏....‏

ومن الغريب حقا‏,‏ أن يصل عدد من قدامي المفسرين من أمثال الزمخشري‏(‏ في الكشاف‏),‏ وأبو حيان‏(‏ في تفسير البحر المحيط‏),‏ والنسفي‏(‏ في مدارك التنزيل وحقائق التأويل‏),‏ والعز بن عبدالسلام في‏(‏ فوائد في مشكل القرآن‏)‏ الي تفسير قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ فاسلكي سبل ربك ذللا بالطرق التي يرشح منها الغذاء الذي تأكله شغالات النحل الي فمها‏,‏ فيخرج عسلا‏,‏ ويأتي العلم الحديث مؤكدا أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد زود شغالات النحل بأربع مجموعات من الغدد التي تنتقي من غذائها‏:‏ العسل‏,‏ والغذاء الملكي‏,‏ والشمع‏,‏ والخمائر‏,‏ والسموم‏,‏ وليس هذا لغير شغالات النحل‏.‏

من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم

أولا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):‏
ثم كلي من كل الثمرات‏...*:‏
وواضح الأمر أن المقصود بالثمرات هنا‏,‏ هي الزهور بما فيها من الخلايا التناسلية التي تنتجها النباتات المزهرة‏,‏ والرحائق المصاحبة لها‏,‏ وهذه الخلايا التناسلية منها الأنثوية‏(‏ بويضات الزهور‏),‏ والذكرية‏(‏ حبوب اللقاح أو غبار الطلع‏),‏ وباتحادهما تتم عملية إخصاب الزهور وانتاج الثمار المعروفة لنا في أغلب الأحوال‏,‏ لأن بعض الثمار قد تنتج عن تضخم مبيض الزهرة وحده أو الكأس وحده أو غير ذلك من أجزاء الزهرة‏.‏ ونستند في ذلك الي قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في سورة الرعد‏:‏
وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين‏....*(‏ الرعد‏:3).‏

فزهور النباتات تحمل كلا من أعضاء التأنيث‏(‏ مبيض الزهرة‏),‏ وأعضاء التذكير‏(‏ أسدية الزهرة التي تنتج حبوب اللقاح‏),‏ وقد ينفصل الجنسان علي شجرة مؤنثة وأخري مذكرة‏,‏ كما هو الحال في نخيل البلح‏,‏ وقد يوجدان في نفس الزهرة الواحدة‏,‏ كما هو الحال في زهرة التين‏.‏
وفي الحالتين الأخيرتين تتم عملية إخصاب الزهرة بما يعرف باسم عملية التلقيح الخلطي‏,‏ حيث تقوم الحشرات أو الرياح أو كلاهما بنقل حبوب اللقاح من زهرة الي بويضات زهرة أخري‏,‏ وذلك لأن تلقيح بويضات الزهرة بحبوب لقاحها هي‏,‏ يتسبب في إضعاف كل من ثمرتها ونسلها تماما كما يحدث في تكرار زواج الأقارب لأجيال متعاقبة‏.‏

ولذلك‏,‏ فإن من حكمة الله البالغة في خلقه‏,‏ أننا نجد تفاوتا كبيرا في أطوال الأسدية والبويضات المجتمعة في زهرة واحدة‏,‏ أو تفاوتا في أزمنة نضج كل منهما حتي يلقح بنظير من زهرة مختلفة من نبات آخر من نفس النوع‏,‏ وذلك لتحسين كل من النسل والثمار‏,‏ وتقوم الشغالات من إناث النحل بالدور الأكبر في عملية التلقيح الخلطي للزهور‏,‏ وذلك في أثناء امتصاصها للرحائق وحملها قدرا من حبوب اللقاح‏.‏
فشغالات النحل تتغذي علي كل من رحيق الأزهار وحبوب اللقاح الموجودة فيها‏,‏ والرحيق عبارة عن محلول مائي غني بالكربوهيدرات التي أهمها السكريات‏,‏ أما حبوب اللقاح فهي غنية بكل من البروتينات‏,‏ والأحماض الأمينية‏,‏ والفيتامينات‏,‏ والخمائر‏,‏ بالإضافة الي عدد من العناصر المعدنية‏.‏

ويفرز الرحيق بواسطة غدد خاصة في الزهرة‏,‏ توجد عادة في قاعدة السداة‏(‏ أعضاء التذكير‏),‏ وهي غدد معقدة البناء تقوم علي تنظيم عمليات تركيب الرحيق وتدفقه الي داخل الزهرة باستمرار طوال فترة حياتها‏.‏
وقد ألهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ الشغالات‏,‏ من إناث نحل العسل‏,‏ اختيار فرق من المستكشفات من بينهن يغادرن الخلية للبحث عن الأزهار الحاملة للرحيق‏,‏ ثم يعدن لإخبار بقية الشغالات عن أمكنة وجود تلك الزهور‏,‏ وعن أنواعها‏,‏ وأنواع ما تحمله من الرحيق‏,‏ وتحدد لها الموقع بدقة فائقة‏,‏ فتتحرك جامعات الرحيق من الشغالات الي تلك المناطق‏,‏ متنقلة من زهرة الي أخري لجمع ما تستطيع جمعه من الرحيق ومن حبوب اللقاح‏,‏ ومع تنقلها تحمل بعض حبوب اللقاح من زهرة الي أخري‏,‏ فتعين علي إخصابها‏,‏ مما يؤدي الي انتاج الثمار والبذور التي تساعد علي تكاثر النبات واستمرارية سلالاته‏.‏

وتتغذي الشغالات الجانية لعسل النحل علي جزء مما تجمعه‏,‏ وتغذي عددا من أفراد خليتها علي جزء آخر منه‏,‏ ويمكنها الباقي من صناعة الشراب الشافي من العسل‏,‏ والغذاء الملكي‏,‏ والشمع والسم‏.‏
ولكي تنتج الواحدة من شغالات النحل كيلو جراما واحدا من العسل الناضج‏,‏ فعليها أن تجمع ما بين‏3‏ و‏4‏ كيلوجرامات من رحيق الأزهار‏,‏ ويستلزم ذلك ما بين ستمائة ألف وثمانمائة ألف طلعة‏,‏ والوقوف علي ما يتراوح بين الستة ملايين والثمانية ملايين زهرة‏.‏

ويتفاوت مجموع أطوال المسافات التي تقطعها شغالة النحل لتحقيق ذلك‏,‏ بتفاوت بعد الزهور عن الخلية‏,‏ وإن كان يصل في المتوسط الي نحو النصف مليون كيلومتر‏,‏ وهي مسافة تعادل أكثر من عشرة أضعاف محيط الأرض‏,‏ المقدر بنحو الأربعين ألف كيلومتر‏(40,075‏ كم‏)‏ عند خط الاستواء‏,(‏ وهو أقصي طول لمحيط الأرض‏),‏ وذلك لأن كيس العسل في الشغالة من إناث النحل‏,‏ يتسع لنحو الخمسين ملليجراما من الرحيق في المتوسط‏,‏ ويستغرق ملؤه بالرحيق قرابة الساعة‏,‏ تزور خلالها الشغالة ما يقرب من مائة زهرة‏,‏ وعادة ما تركز علي نوع معين من الزهور في كل فصل من فصول السنة‏,‏ وبذلك تقطع آلاف الكيلومترات ذهابا وايابا بين الخلية وموضع الزهور الحاملة للرحيق‏(‏ دكتور رضا فضيل بكر‏:‏ وجوه الاعجاز في آيات النحل‏).‏
وبالإضافة الي الرحيق‏,‏ تجمع الشغالة حبوب اللقاح‏,‏ ويبلغ متوسط ما تجمعه الشغالة الواحدة من تلك الحبوب نحو العشرين ملليجراما في كل طلعة‏,‏ وهي حبوب متناهية الصغر‏,‏ الواحدة منها عبارة عن خلية كاملة محاطة بغلاف داخلي هش‏,‏ وغلاف خارجي مقاوم لكل من التفكك‏,‏ والتعفن‏,‏ والحرارة العالية‏,‏ وكل من الحموضة والقلوية الشديدتين‏,‏ وتجمع شغالة النحل حبوب اللقاح في سلال خاصة علي أرجلها الخلفية‏,‏ وتعود الي خليتها مثقلة بما تحمله كل من الرحيق وحبوب اللقاح‏,‏ لتفرغه في عيون خاصة بالخلية‏.‏

وبعد ذلك‏,‏ تقوم العاملات من الشغالات في داخل الخلية‏,‏ بتفتيت حبوب اللقاح وخلطها بالقدر المناسب من العسل‏,‏ وكبسها في عيون خاصة بخلية النحل‏,‏ تتغذي عليه اليرقات الكبيرة‏,‏ أما اليرقات الصغار لتتغذي علي مادة هلامية بيضاء تفرزها الشغالات تعرف باسم الهلام الملكي‏,‏ ثم يستبدل ذلك بعد أيام برحيق الأزهار وحبوب اللقاح‏,‏ أما اليرقات التي تعد لمنصب الملكات‏,‏ فإنهن يغذين باستمرار بالهلام الملكي‏(‏ المعروف باسم غذاء ملكات النحل‏),‏ وقد زود الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ تلك الحشرة‏,‏ بحواس متطورة للبصر والشم والتذوق‏,‏ وبأجهزة خاصة لتقدير المسافات والاتجاهات والأزمنة‏,‏ بواسطة ما يعرف باسم الساعة الحيوية‏,‏ ومن هذه الأجهزة‏,‏ ثلاث عيون بسيطة وزوج من العيون المركبة التي تحتل مكانا مناسبا من رأسها‏,‏ وتتكون كل عين منها من‏6300‏ عدسة صغيرة متجانسة‏,‏ وهذا النظام الإبصاري المعقد والمكون من العيون المركبة والبسيطة‏,‏ يعين النحلة علي الرؤية من مسافات بعيدة ومرتفعات شاهقة‏,‏ حيث تستطيع شغالة النحل الطيران لمسافة تتراوح بين‏7‏ و‏11‏ كم ذهابا‏,‏ ومثلها إيابا من الخلية وإليها بسرعة تصل الي‏60‏ كم‏/‏ساعة‏,‏ في الذهاب ونصف ذلك في الإياب‏,‏ وقد أعطي الله‏(‏ سبحانه وتعالي عيون النحلة القدرة علي تمييز عدد من أطياف النور الأبيض‏,‏ بالإضافة الي الأشعة فوق البنفسجية التي لا تراها عين الإنسان‏,‏ وبذلك تستطيع تمييز ألوان الزهور بدقة فائقة‏,‏ كما أعطاها قدرات عالية لكل من حاستي الشم والتذوق‏,‏ لتمايز بين الزهور بواسطة روائحها‏,‏ وروائح ما بها من الرحيق‏,‏ ومن حبوب اللقاح‏,‏ ولتمايز بين طعوم ما بها من سكريات‏,‏ فتقبل علي المناسب منها وتتجنب غير المناسب‏.‏

كذلك زود الله‏(‏ تعالي‏)‏ شغالات النحل بزوجين من الأجنحة الغشائية موزعين علي جانبي جسمها‏,‏ وبفم قارض لاعق‏,‏ وبعدد من قرون الاستشعار التي يتألف الواحد منها من‏(13)‏ عقلة تحتوي العقل الست الأولي منها علي حفر صغيرة‏,‏ يحف بها من أسفل أقراص سمعية مرنة يتصل كل منها بعصب حسي دقيق وبمراكز لكل من اللمس والشم‏,‏ ويبلغ عدد المراكز الحسية علي قرن الاستشعار الواحد ما يصل الي نحو الألفين وأربعمائة مركز‏,‏ كل هذه التجهيزات أعانت الاناث من شغالات النحل علي جمع أكبر قدر ممكن من رحيق الأزهار وطلوعها‏.‏

ثانيا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):‏
‏..‏ فاسلكي سبل ربك ذللا‏....*‏
إن في ورود هذه الجملة القرآنية الكريمة‏,‏ بين الأمر الي إناث النحل من الشغالات بالأكل من كل الثمرات‏,‏ وبين قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

‏...‏ يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون‏*.‏
جعلت من معاني فاسلكي سبل ربك ذللا‏!‏ يتجاوز مجرد تمكن شغالات النحل من العودة الي خلاياها‏(‏ دون أن تضل الطريق ـ مهما تباعدت المسافات ـ بعد أن تكون قد أكلت من كل الثمرات‏,‏ وحملت من رحيق الأزهار وحبوب اللقاح الخاصة بها‏,‏ الي معني آخر‏,‏ يشمل الطرق التي ألهمها الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ أن تصنع عبرها ذلك الشراب الشافي مما جمعته بواسطة العديد من الخلايا الحيوية والغدد الخاصة‏,‏ التي تقوم علي تجهيز هذا الشراب الشافي‏,‏ عبر الطرق التي تصل بين معدة النحلة والغدد المختلفة‏,‏ التي تقوم بتحويل الغذاء الي هذا الشراب الذي جعل الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيه شفاء للناس‏(‏ ومعدة النحلة تختلف في تركيبها عن معي سائر الحشرات‏),‏ والوسائل الفطرية التي ألهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بها النحلة‏,‏ والتي بواسطتها تستطيع تحويل ما جمعته من غذاء الي عسل‏,‏ وشمع‏,‏ وسم‏,‏ وغذاء الملكات‏,‏ والانزيمات التي تحول السكريات المعقدة في رحيق الأزهار‏,‏ الي سكريات بسيطة‏.‏

ومن السبل التي يسرها الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ للشغالات من إناث النحل‏,‏ كي يمكنها من انتاج هذا الشراب العجيب‏,‏ الذي جعل فيه شفاء للناس‏:‏ فم قارض‏,‏ ماص‏,‏ لاعق‏,‏ وشفاه ملعقية‏,‏ وخرطوم ماص‏,‏ وجهاز هضمي مميز يختلف عنه في بقية الحشرات يبدأ بعد الفم بالبلعوم‏,‏ ثم المريء الذي يمتد حتي البطن الذي ينتفخ في جزء منه‏,‏ مكونا معدة العسل التي أعطاها الله‏(‏ تعالي‏)‏ القدرة علي إفراغ محتوياتها الي أقراص شمع الخلية عن طريق الخرطوم لتخزين العسل فيها‏,‏ ثم المعدة الوسطي‏,‏ التي تقوم بعملية هضم الغذاء‏,‏ ثم المعي السفلي التي تنتهي بجهاز الاخراج‏,‏ ويتكون العسل بإفراز عدد من الانزيمات الخاصة من الغدد اللعابية علي الرحيق لتحول ما به من السكريات الثنائية‏,‏ مثل سكر القصب الي سكريات أحادية من مثل كل من سكر العنب وسكر الفواكه‏,‏ التي تختلط بعدد آخر من الإنزيمات والهرمونات‏,‏ التي تحول الرحيق المهضوم الي عسل النحل‏,‏ وبالإضافة الي ذلك‏,‏ تقوم الغدد البلعومية بإفراز غذاء ملكات النحل‏,‏ وتقوم الغدد الشمعية بإفراز شمع العسل‏,‏ ويتحور المبيض في شغالات النحل الي جهاز لاسع يفرز سم النحل‏,‏ الذي تدافع به النحلة عن ذاتها وعن خليتها‏,‏ والذي جعل الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيه كذلك شفاء لعدد من الأمراض‏,‏ هذا بالإضافة الي عدد من الغدد الأخري التي هيأ الله‏(‏ تعالي‏)‏ كلا منها لافراز مادة خاصة مما تحتاجه شغالات النحل‏,‏ في القيام بنشاطاتها المختلفة‏,‏ وتأدية وظائفها المتعددة‏.‏

وبذلك يكون من معاني الأمر الإلهي إلي شغالات النحل‏:‏
فاسلكي سبل ربك ذللا‏...‏ أي فاصنعي من رحيق الأزهار وطلوعها‏(‏ حبوب اللقاح‏)‏ عسلا‏,‏ وغذاء ملكيا‏,‏ وشمعا‏,‏ وخمائر‏(‏ انزيمات‏)‏ وسموما بالسبل التي يسرها الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لك‏,‏ أي القنوات المختلفة في جهازك الهضمي المعقد‏,‏ الذي خصك الخالق القادر به‏,‏ والذي يمر به غذاؤك الذي جمعتيه من كل الثمرات فتتغذين علي جزء منه‏,‏ وتخرجينه علي هيئة فضلات‏,‏ وتحولين أغلبه الي هذا الشراب المختلف الألوان الذي أعطاك الله‏(‏ تعالي‏)‏ الإلهام والقدرة علي إعادة اخراجه من بطنك الي فمك فتصبينه في خليتك شرابا جعل الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيه شفاء للناس‏,‏ ولذلك جاءت لفظة سبل جمعا منكرا‏,‏ ونسبت الي رب النحل تعظيما لشأنها‏,‏ ولشأن الدور الذي وهبها الله‏(‏ تعالي‏)‏ القدرة علي القيام به لإخراج هذا الشراب‏,‏ وإشارة الي ما في ذلك من إبداع الله في الخلق‏,‏ وروعة تقديره الذي خص به إناث النحل من الشغالات دون غيرها من الحشرات‏.‏
وهذه الحقائق العلمية لم تكن معروفة في زمن الوحي‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعده‏,‏ وجمعها في هذا النص القرآني المعجز بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا‏...(‏ النحل‏:69).‏

لمما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق‏,‏ ويشهد بالنبوة وبالرسالة للنبي الخاتم الذي تلقاه‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏