102)‏ ذلكم الله ربكم لآ إله إلا هو خالق كل شيئ فاعبدوه وهو علي كل شيئ وكيل‏*‏
‏*‏ الأنعام‏:102*‏
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في مطلع الثلث الأخير من سورة الأنعام‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏165‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود ذكر الأنعام فيها في أكثر من موقع‏,‏ ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من العقائد والتشريعات الإسلامية‏.‏
وفي استعراض وحدة الدين السماوي جاءت الإشارة إلي عدد من الأنبياء والمرسلين السابقين علي بعثة الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏),‏ كما جاءت الإشارة إلي عدد من الأمم البائدة التي عصت أمر ربها‏,‏ ورفضت هدايته علي الرغم من إهلاك أمثالها من الأمم السابقة عليهم‏,‏ وعدم اعتبارهم بما حل بتلك الأمم من عذاب‏.‏
كذلك استشهدت السورة الكريمة بعدد من الآيات الكونية للتدليل علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الكون‏,‏ وعلي قدرة الخالق علي البعث‏,‏ وعلي وحدانيته‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد‏,‏
ويبقي ما جاء من حق في هذه الإشارات الكونية خطابا لأهل عصرنا ـ الذين فتنوا بالعلم ومعطياته وتطبيقاته فتنة كبيرة ـ يقيم الحجة عليهم بأن القرآن الكريم لايمكن ان يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق‏,‏ ويشهد للنبي الخاتم الذي تلقاه‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالنبوة وبالرسالة‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة الأنعام
جاء في سورة الأنعام عدد من ركائز العقيدة الإسلامية يمكن إيجازها في النقاط التالية‏:‏
‏(1)‏ الايمان بالإله الواحد الأحد‏,‏ الفرد الصمد‏,...‏ الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد‏,‏ خالق السماوات والأرض وخالق كل شئ‏,‏ جاعل الظلمات والنور‏,‏ مالك الملك‏,‏ ومحصي أعمال الخلق‏,‏ محدد الآجال والأرزاق‏,‏ وجامع الناس ليوم لاريب فيه‏,‏ كاشف الضر‏,‏ ومنزل الخير‏,‏ القاهر فوق عباده‏,‏ الذي يطعم ولا يطعم‏,‏ لا يشبهه احد من خلقه‏,‏ ولا يشاركه أحد في ملكه‏,‏ ولا ينازعه أحد في سلطانه‏,‏ السميع العليم‏,‏ والغفور الرحيم‏,‏ البر الودود‏,‏ والباعث الشهيد‏,‏ الحكيم الخبير‏,‏ والغني القادر‏,‏ العليم بالسر والعلن‏,‏ وعالم الغيب والشهادة‏,‏ فالق الإصباح‏,‏ وفالق كل من الحب والنوي‏,‏ مخرج الحي من الميت‏,‏ ومخرج الميت من الحي‏,‏ بديع السماوات والارض‏,‏ وفاطرهما‏,‏ وقيومهما‏,‏ رب كل شئ ومليكه‏,‏ وخالق كل شئ ومبدعه‏,‏ يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار‏,‏ خير الفاصلين‏,‏ والذي لايرد بأسه عن القوم المجرمين‏,‏ خالق الإنسان من طين‏,‏ ومنزل الكتاب‏,‏ ومرسل الانبياء والمرسلين‏.‏
‏(2)‏ الإيمان بملائكة الله‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏.‏ وباليوم الآخر‏,‏ وبالقدر خيره وشره‏,‏ وتتويج ذلك الايمان بالتسليم بالرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وقد تكاملت فيها كل رسالات السماء السابقة فتعهد الله‏(‏ تعالي‏)‏ بحفظها فحفظت ـ بنفس لغة الوحي الذي أنزلت به‏(‏ اللغة العربية‏),‏ وحفظت حفظا كاملا‏:‏ سورة سورة وآية آية‏,‏ وكلمة كلمة‏,‏ وحرفا حرفا‏,‏ بينما ما بقي من ذكريات بعض الرسالات السابقة موجود في لغات غير لغات الوحي مع ضياع الاصول‏,‏ وقد تعرضت هذه الكتب المنحولة ولاتزال تتعرض للعديد من المداخلات البشرية والمراجعات والحذف والاضافات إلي يومنا هذا‏.‏
‏(3)‏ الإيمان بعوالم الغيب التي أخبرنا بها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ دون الخوض فيها بغير علم من الله‏(‏ تعالي‏)‏ أو من خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏
‏(4)‏ الإيمان بحتمية البعث وضرورته‏,‏ وبحتمية الحساب والجزاء في الآخرة‏,‏ وبأن الحياة فيها خلود بلا موت إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏,‏ ومن هنا كان وصف سور ة الانعام للحياة الدنيا بأنها لعب ولهو‏,‏ ووصف الأخرة بأنها خير للذين يتقون‏.‏
‏(5)‏ اليقين بأن من عمل سوءا بجهالة ممن يؤمنون بالله وبآياته‏,‏ ثم تاب من بعده وأصلح فإن الله غفور رحيم‏.‏
‏(6)‏ التصديق بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يجازي الحسنة بعشر أمثالها الي سبعمائة ضعف ويجازي السيئة بمثلها‏.‏
‏(7)‏ الإيمان بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد ختم وحيه بالقرآن الكريم‏,‏ وبسنة نبيه ورسوله الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وأكمل لنا ديننا‏,‏ وأتم علينا نعمه‏,‏ ورضي لنا الإسلام دينا‏,‏ وحفظه في الرسالة الخاتمة التي تعهد بحفظها فحفظت علي مدي أربعة عشرقرنا وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الارض ومن عليها‏.‏

من التشريعات الإلهية في سورة الأنعام
‏(1)‏ تحريم كل من الشرك بالله‏,‏ وقتل الأولاد من إملاق‏(‏ أي من فقر‏),‏ وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق‏,‏ وأكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتي يبلغ أشده‏,‏ وأكل مالم يذكر اسم الله عليه‏,‏ وما أهل لغير الله به‏,‏ وأكل أي من الميتة أو الدم المسفوح أو لحم الخنزير‏(‏ إلا من اضطر غير باغ ولا عاد‏),‏ وتحريم الاقتراب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏.‏
‏(2)‏ تحريم افتراء الكذب علي الله‏,‏ والادعاء الباطل بتلقي شئ من الوحي‏,‏ أو بالتظاهر بالقدرة علي الاتيان بشئ من مثل القرآن الكريم‏.‏
‏(3)‏ الأمر بالتزام صراط الله المستقيم‏,‏ وإقام الصلاة‏,‏ وإيتاء الزكاة‏,‏ وبتقوي الله‏(‏ تعالي‏)‏ ومراقبته في جميع الأحوال‏,‏ وبالإحسان إلي الوالدين‏,‏ وبوفاء كل من الكيل والميزان بالقسط‏,‏ وبالعدل في القول والاخلاص في العمل‏,‏ وبالوفاء بعهود الله‏(‏ تعالي‏)‏ كلها‏.‏

من القصص القرآني في سورة الأنعام
‏(1)‏ جاء في سورة الانعام ذكر عدد من أنبياء الله ورسله الذين بعثوا قبل بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وهم‏:‏ نوح‏,‏ إبراهيم‏,‏ لوط‏,‏ إسماعيل‏,‏ إسحاق‏,‏ يعقوب‏,‏ داود‏,‏ سليمان‏,‏ أيوب‏,‏ يوسف‏,‏ موسي‏,‏ هارون‏,‏ زكريا‏,‏ يحيي‏,‏ عيسي‏,‏ إلياس‏,‏ اليسع‏,‏ ويونس‏(‏ علي نبينا وعليهم من الله السلام‏).‏
‏(2)‏ ذكرت السورة الكريمة عناد عدد من الأمم الباغية‏,‏ التي رفضت رسالات ربها وآياته‏,‏ وأعرضت عن أنبيائه ورسله وقاومت دعوتهم‏,‏ علي الرغم من إهلاك أمثالهم من الأمم السابقة عليهم‏.‏
‏(3)‏ أكدت هذه السورة المباركة تحريف اليهود للتوراة‏,‏ وانحرافهم عن منهج الله‏,‏ كما أكدت تكامل جميع رسالات السماء في القرآن الكريم الذي أنزله الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعلمه علي خاتم انبيائه ورسله‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم اجمعين‏)‏ لينذر به أهل مكة المكرمة ومن حولهم أهل الأرض جميعا لثبوت توسط هذه المدينة المباركة لليابسة‏.‏

من الآيات الكونية في سورة الأنعام
أولا‏:‏ أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شئ بالحق‏,‏ وأنه علي كل شئ وكيل‏,‏ ومن بديع صنعه خلق كل من‏:‏ السماوات والارض‏,‏ والظلمات والنور‏,‏ والنجوم وتوابعها‏,‏ وخلق الإنسان من طين‏,‏ وخلق السلالة البشرية كلها من نفس واحدة‏,‏ وخلق كائنات تسكن بالليل وأخري تسكن بالنهار‏,‏ وخلق غير ذلك من أمم تشبه كل منها في أصلها الواحد وترابطها أمة بني الإنسان‏.‏
ثانيا‏:‏ التأكيد علي كل من الحقائق التالية‏:‏
‏(1)‏ أن بالكون غيوبا مطلقة لايعلمها إلا الله‏(‏ تعالي شأنه‏).‏
‏(2)‏ أن النوم هو صورة مصغرة عن الوفاة‏,‏ وأن اليقظة من النوم تمثل البعث بعد الموت‏.‏
‏(3)‏ أن ظلمات كل من البر والبحر هي تعبير عن حقيقة أن ظلمة الكون هي الأصل‏,‏ وأن النور هو نعمة يمن بها الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ علي خلقه‏.‏
‏(4)‏ أن مكة المكرمة هي وسط اليابسة‏.‏
‏(5)‏ تشبيه خروج الصبح من ظلمة الليل بخروج كل من الجذير والسويقة من قلب البذرة النابتة‏,‏ وان فلق كل من الحب والنوي لحظة الانبات‏,‏ وفلق الصبح من ظلمة الليل في كل يوم هو صورة من صور طلاقة القدرة الالهية المبدعة في هذا الكون‏.‏
‏(6)‏ استخدام ظاهرة تبادل كل من الليل والنهار للاشارة إلي حقيقة دوران الأرض حول محورها أمام الشمس‏.‏
‏(7)‏ تخصيص كل من الليل للسكن‏,‏ والنهار للجري وراء المعايش وعمارة الأرض‏.‏
‏(8)‏ أن كلا من الشمس والقمر يجري بنظام محكم دقيق يمكن الانسان من حساب الزمن‏,‏ والتأريخ للأحداث‏,‏ وللقيام بمختلف العبادات‏,‏ والوفاء بمختلف الحقوق والعهود‏.‏
‏(9)‏ أن الحب المتراكب في النبات يخرج من الخضر‏(‏ اليخضور أو الكلوروفيل‏).‏
‏(10)‏ أن القنوان الدانية‏(‏ وهي العراجين المتدلية من النخل‏,‏ ومفردها القنو وهو العذق أو عنقود التمر‏)‏ تخرج من طلوع النخل علي هيئة الكيزان كأول مايبدو من ثمر النخل‏.‏
‏(11)‏ أنه بإنزال الماء من السماء الي الارض أخرج ربنا تبارك وتعالي ـ بعظيم قدرته ـ جنات معروشات وغير معروشات من الأعناب والنخل والزيتون والرمان‏,‏ متشابها وغير متشابه‏,‏ ومن الزرع المختلف أكله‏,‏ وأن ثمره إذا أثمر وينعه لمن أروع الآيات لقوم يؤمنون‏.‏
‏(12)‏ أن التصعد في السماء‏(‏ بغير وقايات حقيقية ضد مخاطر ذلك‏)‏ يجعل صدر الصاعد ضيقا حرجا‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا ـ التي تدخل من العلوم الكونية في الصميم تحتاج إلي معالجة خاصة‏,‏ ولذلك أقصر حديثي هنا علي نقطة واحدة فحواها أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شيء وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ علي كل شيء وكيل كما جاء في الآية رقم‏(102)‏ من سورة الأنعام‏,‏ ولكن قبل ذلك لابد من الرجوع إلي أقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة‏.‏

من أقول المفسرين في تفسير قوله تعالي‏:‏
ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو علي كل شيء وكيل
‏(‏الأنعام‏:102)‏
‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:‏ يقول تعالي‏(‏ ذلكم الله ربكم‏)‏ أي الذي خلق كل شيء ولا ولد له ولا صاحبة‏(‏ لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه‏)‏ أي فاعبدوه وحده لاشريك له‏,‏ وأقروا له بالوحدانية‏,‏ وأنه لا إله إلا هو‏,‏ وأنه لا ولد له ولا والد ولا صاحبة له‏,‏ ولا نظير ولا عديل‏(‏ وهو علي كل شيء وكيل‏)‏ أي حفيظ ورقيب يدبر كل ماسواه ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار‏.‏
‏*‏ وجاء في تفسير الجلالين‏(‏ رحم الله كاتبيه‏)‏ ما نصه‏:(‏ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه‏)‏ وحدوه‏(‏ وهو علي كل شيء وكيل‏)‏ حفيظ‏.‏
وأما صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ فقد أفاض في شرح هذه الآية الكريمة ونقتطف من شرحه مايلي‏:‏ إن تفرد الله سبحانه بالخلق‏,‏ يفرده سبحانه بالملك‏,‏ والمتفرد بالخلق والملك يتفرد كذلك بالرزق‏.‏ فهو خالق خلقه ومالكهم‏,‏ وهو كذلك يرزقهم من ملكه الذي ليس لأحد شرك فيه‏.‏ فكل مايقتاته الخلق وكل مايستمتعون به فإنما هو من هذا الملك الخالص لله‏..‏ فإذا تقررت هذه الحقائق‏..‏ الخلق والملك والرزق‏..‏ تقرر معها ـ ضرورة وحتما ـ أن تكون الربوبية له سبحانه‏.‏ فتكون له وحده خصائص الربوبية ـ وهي القوامة والتوجيه والسلطان الذي يخضع له ويطاع‏,‏ والنظام الذي يتجمع عليه العباد ـ وتكون له وحده العبادة بكل مدلولاتها ومنها الطاعة والخضوع والاستسلام‏.‏
ويضيف‏:..‏ ومع أن حقيقة الخلق والتقدير فيه ـ كحقيقة انبثاق الحياة ايضا ـ لم تكن تساق في القرآن لإثبات وجود الله ـ إذ كان الجدال في وجوده تعالي سخفا لايستحق من جدية القرآن العناية به ـ إنما كانت تساق لرد الناس إلي الرشاد‏,‏ كي ينفذوا في حياتهم ما تقتضيه تلك الحقيقة من ضرورة إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية في حياتهم كلها‏,‏ وعبادته وحده بلاشريك‏.‏
مع هذا فإن حقيقة الخلق والتقدير فيه ـ كحقيقة انبثاق الحياة ايضا ـ تقذف في وجوه الذين يجادلون في الله ـ سبحانه ـ بالحجة الدامغة التي لايملكون بإزائها إلا المراء‏,‏ وإلا التبجح الذي يصل إلي حد الاستهتار في كثير من الأحيان‏!‏
‏*‏ وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ رحم الله كاتبه‏)‏ أن من معاني‏(‏ وكيل‏)‏ رقيب ومتول‏.‏
‏*‏ وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ مانصه‏:‏ ذلك المتصف بصفات الكمال‏,‏ هو الله ربكم‏,‏ لا إله غيره‏,‏ خالق كل شيء مما كان وما سيكون‏,‏ فهو وحده المستحق للعبادة‏,‏ فاعبدوه‏,‏ وهو وحده المتولي كل أمر وكل شيء‏,‏ فإليه وحده المرجع والمآب‏.‏
‏*‏ وجاء في صفوة التفاسير‏(‏ جزي الله كاتبه خيرا‏)‏ ما نصه‏:(‏ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو‏)‏ أي ذلكم الله خالقكم ومالككم ومدبر أموركم لا معبود بحق سواه‏(‏ خالق كل شيء فاعبدوه‏)‏ أي هو الخالق لجميع الموجودات ومن كان هكذا فهو المستحق للعبادة وحده‏(‏ وهو علي كل شيء وكيل‏)‏ أي وهو الحافظ والمدبر لكل شيء ففوضوا أموركم إليه وتوسلوا إليه بعبادته‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
أولا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):‏ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو‏...:‏
شاءت إرادة الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ أن يخلق كل شيء في هذا الوجود في زوجية واضحة حتي يبقي هو‏(‏ جل جلاله‏)‏ متفردا بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏.‏
‏*‏ وأوضح ماتكون الزوجية في الكائنات الحية التي تتكاثر بالتزاوج الجنسي‏,‏ وفي الكائنات الراقية يكون كل من الذكور والإناث منفصلين عن بعضهما البعض‏,‏ ولكن في بعض الكائنات البسيطة قد يوجد كل من الخلايا الذكرية والأنثوية في الفرد الواحد الذي يقايض خلاياه الذكرية مع فرد آخر‏,‏ وفي التكاثر الجنسي قد يتم الإخصاب في داخل الجسم أو خارجه‏,‏ وفي الكائنات الأبسط قد تتكاثر بالانشطار‏,‏ أو بالتبرعم‏,‏ أو بالتجزؤ‏,‏ أو بالتجدد‏(‏ التراكم‏),‏ أو بالتوالد العذري‏(‏ بدون إخصاب‏),‏ ويعرف كل ذلك بالتكاثر اللاجنسي‏,‏ وقد يتبادل الكائن الواحد كلا النوعين من التكاثر في دورة حياته‏,‏ وكلها صور من الزوجية الواضحة‏.‏
وتتضح الزوجية في النباتات المزهرة بشكل جلي‏,‏ وهي نباتات يزيد عددها علي الربع مليون نوع‏,‏ وأزهارها التي تنتج عن تفتح براعمها تحمل اعضاء التكاثر من الخلايا الذكرية والأنثوية التي قد توجد في الزهرة الواحدة‏,‏ أو في زهرتين مختلفتين في النبات الواحد‏,‏ كما قد يكون من النبات الواحد الذكر والأنثي‏,‏ وتؤدي عملية الإخصاب في النباتات المزهرة إلي انتاج البذور‏(‏ الحب أو النوي‏)‏ وتحتوي كل بذرة علي الجنين الحي في حالة سكون‏,‏ بالإضافة إلي مخزون من الطعام قدره الخالق المبدع للجنين حين يستيقظ لحظة الإنبات حتي تخرج السويقة إلي الهواء‏,‏ ثم تحمل الأوراق وهي مصانع انتاج الغذاء للنبات‏,‏ وتحفظ البذور عادة في الثمرة‏,‏ وقد تكون هي الثمرة‏,‏ أما النباتات غير المزهرة فتتكاثر بالطريقتين الجنسية واللا جنسية في تبادل للأجيال‏,‏ وفي الطريقة الأولي ينتج النبات كلا من الخلايا الذكرية والأنثوية‏,‏ وتنفصل الخلايا الذكرية لكي تصل إلي خلية أنثوية من نبات آخر وتقوم بتلقيحها وإخصابها بالاتحاد معها‏,‏ وفي الطريقة الثانية ينتج النبات خلايا تناسلية تعرف باسم الأبواغ‏,‏ تتناثر عن النبات الحامل لها عند نضجه لتنمو في الأوساط المناسبة لها علي هيئة نباتات جديدة‏.‏
ومن معرفتنا بالزوجية في كل من اللبنات والجسيمات الأولية للمادة نستطيع أن نستنتج بأن صورة من صور الزوجية تتم في كل صور التكاثر اللاجنسي

‏*‏ كذلك تتضح الزوجية في الخلايا التناسلية الذكرية والأنثوية‏,‏ وعند اتحادهما يكونان نطفة مختلطة‏(‏ نطفة امشاج‏),‏ تبدأ في الانقسام المطرد بإذن الله لتكوين الجنين الكامل‏.‏
والزوجية تتضح كذلك في النطفة التي قد تحمل صبغيين متشابهين أو مختلفين‏,‏ فنطفة الرجل علي سبيل المثال تحمل صبغيين أحدهما مؤنث‏(X)‏ والآخر مذكر‏(Y),‏ بينما تحمل نطفة أنثاه صبغيين أنثويين‏(XX)‏ وحتي الصبغيات‏(‏ حاملات الوراثة‏)‏ توجد في زوجية واضحة علي هيئة سلم حبلي مفتول يعرف باسم اللولب المزدوج ويتكون من خيطين متصلين ببعضهما البعض بواسطة جزء عرضي دقيق يعرف باسم اللحمة المركزية يربط هذين الخيطين البالغين الدقة في الحجم والرقة في السمك‏,‏ والتي يحدد بعددها نوع الحياة‏,‏ وتتكدس حاملات الوراثة عادة في داخل الخلية‏.‏ وعدد الصبغيات في خلايا الإنسان محدد بستة وأربعين صبغيا في ثلاثة وعشرين زوجا‏.‏
وتتكون الصبغيات أساسا من الحمض النووي‏,‏ وجزئ الحمض النووي يوجد أيضا في زوجية علي هيئة حلزون مزدوج الجدار يتكون من جزيئات السكر والفوسفات‏(‏ في زوجية واضحة‏),‏ ويترتب بين هذين الجدارين‏,‏ وعلي مسافات محددة منهما أزواج من القواعد النيتروجينية‏(‏ في زوجية واضحة كذلك‏).‏

وفي الإنسان تتكون الشفرة الوراثية في الخلية الواحدة‏(‏ والتي لايتعدي قطرها في المتوسط‏03,‏ من الملليمتر‏)‏ من‏18,6‏ بليون جزيء من القواعد النيتروجينية والسكر والفوسفات موزعة بالتساوي بين هذه المركبات الثلاثة‏(6,2‏ بليون جزيء لكل في زوجية ناطقة وشاهده لله الخالق بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏).‏
وتتوزع وحدات الوراثة‏(‏ المعروفة باسم الجينات‏)‏ علي طول كل واحد من الصبغيات علي هيئة قطع منفصلة من الحمض النووي في زوجية واضحة‏,‏ ثم يأتي أحد هذه المورثات للجنين من الأب والآخر يأتيه من الأم حتي تتحقق الزوجية في الخلق علي جميع المستويات‏.‏
والقواعد النيتروجينية التي تكتب بها الشفرة الوراثية هي أربع قواعد فقط تنطق بالزوجية‏,‏ حيث يرتبط كل اثنين منهما معا‏.‏

وبالإضافة إلي الحمض النووي يوجد في الصبغيات أزواج من الجزيئات البروتينية التي تتكون من أزواج من الأحماض الأمينية ويعرف من الأحماض الأمينية المكونة لأجساد الكائنات الحية عشرون حمضا في زوجية ناطقة بكلمة التوحيد لله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ والأحماض الأمينية يوجد كل منها في نظيرين تترتب الذرات في أحدهما ترتيبا يساريا وتترتب في الآخر ترتيبا يمينيا‏.‏
وتظل الزوجية تتكشف علي مستويات أقل فتتضح في زوجية شقي المادة الموجب‏(Cation)‏ والسالب‏(Anion)‏ وفي اللبنات الأولية للمادة وأضدادها وقد ثبت أن للمادة قرابة الثلاثين نوعا من أنواع اللبنات الأولية‏.,‏ ولكل نوع منها نقيضه‏,‏ وأن المادة ككل‏(Matter)‏ لها نقيض المادة‏(Antimatter)‏ وإذا التقت النقائض فإن بعضها يغني بعضا‏,‏ حيث يتخليان عن طبيعتهما المادية ويتحولان إلي طاقة‏,‏ والطاقة نفسها منها الموجب والسالب‏(‏ كما هو الحال في الكهرباء‏),‏ والعادي والمقلوب‏(‏ كما هو الحال في المغناطيسية‏),‏ والموجي والجسيمي‏(‏ كما هو الحال في الضوء‏).‏
وبتحول المادة إلي طاقة تفني المادة فتؤكد حقيقة الايجاد من العدم‏,‏ والإفناء إلي العدم‏,‏ وفي ذلك ما يماثل الحياة والموت‏,‏ ويؤكد حقيقتي الخلق والبعث‏,‏ ولايقوي عليهما إلا الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏
وهذه الزوجية لها من الشواهد‏.‏ ما يؤكد وحدانية الخالق سبحانه وتعالي‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة ولا ولد‏),‏ فقد ثبت أن المادة والطاقة وجهان لعملة واحدة‏,‏ ولجوهر واحد يشير إلي وحدانية الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏ وبذلك تؤكد العلوم المكتسبة وحدانية الله‏(‏ تعالي‏)‏ التي نزلت بها كل رسالات السماء وتكاملت في القرآن الكريم وفي سنة خاتم النبيين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏
ثانيا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):...‏ خالق كل شيء فاعبدوه‏...‏

تؤكد الدراسات الفلكية أن الجزء المدرك لنا من الكون شاسع الاتساع‏,‏ دقيق البناء‏,‏ محكم الحركة‏,‏ ومنضبط في كل جزئية من جزئياته مما يؤكد أن الكون لايمكن أن يكون قد وجد بمحض الصدفة‏,‏ ولا أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه‏,‏ بل لابد وأن يكون له موجد عظيم‏,‏ أوجده بعلمه وحكمته وقدرته‏,‏ وأن هذا الموجد العظيم لابد وأن يكون مغايرا لخلقه‏,‏ وأن يكون له من صفات الكمال والجمال والجلال ما يميزه عن جميع خلقه‏,‏ فهو‏(‏ تعالي‏)‏ لايحده أي من المكان أو الزمان لأنه‏(‏ سبحانه‏)‏ هو الذي أوجدهما من العدم‏,‏ ولايشكله أي من المادة أو الطاقة لأنه‏(‏ جل جلاله‏)‏ هو خالقهما من العدم‏,‏ ولا نعرف عنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ إلا ما وصف به ذاته العلية فقال‏(‏ عز من قائل‏:‏ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏(‏ الشوري‏:11)‏
وكانت قضية الخلق عبر التاريخ وإلي اليوم هي حجة المتشككين والضالين من الخلق‏,‏ ولو نظر أي من هؤلاء التائهين في نفسه أو في شرابه وطعامه‏,‏ أو في كيفية إنجابه ومراحل خلقه‏(‏ مراحله الجنينية‏),‏ أو في الكون من حوله لأدرك أن ذلك كله ينطق بأعلي صوته‏:‏ الله خالق كل شيء‏,‏ وهو ما أكدته هذه الآية الكريمة في الوقت الذي ارتفعت اصوات بأن لا عقل‏,‏ ولا روح‏,‏ ولادين‏,‏ ولا إله‏,‏ وأن الأحياء لايهلكها إلا الموت‏.‏

وكان الشيطان قد وسوس إلي الإنسان بإنكار الخلق‏,‏ والادعاء الباطل بأزلية العالم‏,‏ وبنسبة كل شيء إلي الطبيعة دون أن يحدد كنه هذه الطبيعة‏.‏
وجاءت الدراسات المتتابعة لتؤكد أننا نحيا في كون يقدر عمره بأكثر من عشرة مليارات من السنين‏,‏ وعلي أرض يقدر عمر تيبس أقدم الصخور فيها بأربعة آلاف وستمائة مليون سنة‏,‏ والمنطق السوي يؤكد أن كل ما له بداية فلابد حتما وأن تكون له نهاية‏,‏ مما يؤكد حقيقة الخلق‏.‏
كذلك لاحظ العلماء أن شمسنا تفقد من كتلتها في كل ثانية علي هيئة طاقة ما يقدر بنحو الخمسة آلاف مليون طن‏(4.6‏ بليون طن‏),‏ وأنه باستمرار هذه العملية وحدها لابد وأن ينتهي وجود الشمس‏,‏ وانتهت الحياة علي الأرض‏,‏ وبالإضافة إلي ذلك فإننا نري في استمرار انتقال الحرارة من الأجرام السماوية فائقة الحرارة كالنجوم إلي الأجرام الأبرد منها أو الباردة جدا‏,‏ أنه لابد وأن يأتي وقت علي كل أجرام السماء تتساوي فيها درجة حرارتها وتنتهي الحياة‏,‏ مما يؤكد حتمية الآخرة‏,‏ وإن كنا نؤمن ـ نحن المسلمين ـ بأن الآخرة لا تأتي الا بقرار من الله تعالي لا يتوقف علي سنن الدنيا وقوانينها‏,‏ ولذلك قال فيها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏.(‏ الأعراف‏:187)‏
وعلي الرغم من الوضوح الكامل في البيان الإلهي المعجز الذي أنزله رب العالمين بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله فقال عز من قائل‏:‏
ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه‏...(‏ الأنعام‏:102).‏

فإن الشيطان قد دخل للإنسان من زاوية قدم العالم ليزعزع في قلبه فطرة الإيمان بالله الخالق‏,‏ فثبت أن أقدم أثر للحياة علي الأرض يعود إلي ثلاثة آلاف وثمانمائة من ملايين السنين‏,‏ وأن الحياة في بداياتها الأولي كانت قليلة العدد بسيطة التركيب‏,‏ ثم بالتدريج ازدادت في العدد وفي تعقيد البناء‏,‏ ودفع ذلك بأعداد من الماديين الدهريين‏,‏ والملاحدة الكافرين إلي الادعاء الباطل بعشوائية الخلق الأول‏,‏ وبعشوائية تدرج عمارة الأرض بمختلف صور الحياة‏,‏ وبربط خلق الإنسان عشوائيا بسلاسل الحياة السابقة علي وجوده‏.‏
وعلي الرغم من تسليمنا بقدم وجود الحياة علي الأرض‏,‏ وبتدرج عمارتها بأنماط متدرجة من الخلق إلا أن لكل من هذا القدم وذاك التدرج حكمة بالغة‏,‏ فلو أن الله قد خلق الخلق كله في لحظة واحدة ـ وهو تعالي رب ذلك والقادر عليه ـ لما استطاع الإنسان التعرف علي العديد من أنواع الثروات الأرضية‏,‏ والتي وسيلة التعرف عليها هو بقايا الحياة المتدرجة في الخلق في صخور الأرض‏(‏ أو ما يعرف باسم المستحاثات أو الأحافير‏),‏ ثم إن كل مرحلة من هذا الخلق قد لعبت دورا مهما في تهيئة الأرض لاستقبال المرحلة التالية‏,‏ وربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ يريدنا أن نعرف ذلك فنعلم أن لهذا الكون إلها‏,‏ قادرا‏,‏ حكيما‏,‏ عليما‏.‏

وللرد علي الادعاء الباطل بعشوائية الخلق الأول فإن أحدث الدراسات في علوم الحياة تؤكد أن الخلية الحية في تعقيد بنائها‏,‏ وفي ما تقوم به من وظائف ـ تفوق كل ما صنع الإنسان من أجهزة ومصانع‏,‏ وأن تركيب الشفرة الوراثية فيها تعجز البشرية مجتمعة عن الإتيان بشيء من مثلها‏,‏ وتكفي في ذلك الإشارة إلي ما جاء في الفقرات السابقة من إيجاز عنها‏,‏ وأن جميع أنشطة الخلية الحية وانقساماتها للتكاثر لا تتم في غيبة قدر من الصفات الوراثية فيها‏,‏ والتي تعرف باسم عقل الخلية الحاكم‏.‏
ثم إن التدرج في عمارة الأرض بالخلق يتجه عموما نحو الاكتمال‏,‏ وهذا لا يمكن أن يتم إلا بتدبير محكم دقيق من خالق عليم خبير‏,‏ خاصة أن الغالب من عمليات ظهور الخلق واندثاره يتم بفجائية ملحوظة تؤكد حقيقة الخلق‏.‏
وإذا أضفنا إلي الإعجاز في بناء كل من الجزيء البروتيني ولبناته من الأحماض الأمينية إلي التعقيد المعجز في بناء الخلية الحية‏,‏ وإلي تعاظم ذلك في بناء شفرتها الوراثية‏,‏ وإلي الأدوار المعجزة التي تقوم بها تلك الشفرة إتضح للخلق من الأدلة المنطقية ما يخرس كل الأبواق المدعية‏.‏
فجميع خلايا الأحياء تتكون إما من الكربوهيدرات أو من البروتينات‏,‏ أو منهما معا‏.‏ والكربوهيدرات هي مركبات عضوية بسيطة تتكون جزيئاتها باتحاد ذرات الكربون مع كل من ذرات الهيدروجين والأكسجين‏.‏ أما البروتينات فهي مركبات عضوية معقدة التركيب‏,‏ تتكون جزيئاتها العملاقة باتحاد ذرات الكربون بذرات كل من الهيدروجين‏,‏ والأكسجين والنيتروجين بالإضافة إلي ذرات كل من الكبريت والفسفور‏(‏ أحيانا‏),‏ لتكون سلاسل عملاقة من الأحماض الأمينية التي نعرف منها عشرين نوعا في جزيئات البروتين العملاقة‏,‏ تنتظم في ترتيب محدد‏,‏ وأعداد محددة‏,‏ وفي تتابعات محددة‏,‏ ووسائط ترابط محددة‏,‏ بل إن من المدهش حقا أن نجد أن جميع جزيئات الأحماض الأمينية المكونة للبروتينات تترتب فيها الذرات ترتيبا يساريا‏,‏ وتترتب هي في الجزيء البروتيني ترتيبا يساريا كذلك‏.‏

ويحتوي جزيء الحمض الأميني علي مجموعة أمين‏(NH2)‏ بالإضافة إلي مجموعة الحمض‏,‏ وقد توجد مجموعة الأمين في عدة مواضع‏,‏ ولكنها في أجساد الكائنات الحية توجد في موضع محدد‏,‏ إذا تغير إنهار هذا البناء‏.‏
ومن المدهش أيضا ملاحظة أنه بمجرد وفاة الكائن الحي فإن جزيئات الأحماض الأمينية المكونة للبروتينات في جسده تبدأ في إعادة ترتيب ذراتها إلي الترتيب اليميني بمعدلات ثابتة يمكن أن تعين علي تحديد لحظة الوفاة بدقة فائقة‏.‏
وهذه الملاحظات غيض من فيض بدأ ينساب به علم الحياة الجزيئي‏,‏ والذي ينفي بكل تأكيد الادعاء الباطل بعشوائية الوجود الأول للحياة‏,‏ وعشوائية تدرجها‏,‏ ويؤكد حقيقة الخلق وإعجازه‏,‏ وواجب الخضوع للخالق بالطاعة والعبادة‏.‏

ثالثا‏:...‏ وهو علي كل شيء وكيل‏:‏
تؤكد المشاهدات المتأنية في الجزء المدرك من الكون دقة خلقه‏,‏ وإحكام حركاته‏,‏ وانتظام سنن الله فيه حتي يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏,‏ كما تؤكد أنه مليء بالمخاطر‏,‏ والتي تحمينا منها رعاية الله وعنايته ورحمته‏,‏ والتي لولاها لانتهي هذا الكون الي العدم في طرفة عين أو أقل من ذلك فالتقاء أضداد كل من المادة والطاقة ينهي وجود الكون إلي العدم‏,‏ وأقل اختلال في القوي الممسكة بأطراف هذا الكون ومكوناته ولبناته من مثل قوي الجاذبية‏,‏ والكهرومغناطيسية‏,‏ والنووية الشديدة والضعيفة والقوة الطاردة‏(‏ النابذة‏)‏ المركزية لابد وأن يؤدي إلي انفراط عقد الكون‏,‏ وأهون اضطراب في نطق الحماية التي جعلها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ حفظا لأهل الأرض لأفنتهم الأشعات الكونية والشمسية المختلفة‏,‏ ولدمرتهم النيازك المتساقطة عليهم‏.‏
من هنا كان من أحب الأدعية إلي قلب المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قوله الشريف‏:‏ اللهم لا تكلنا لأنفسنا ولا لأحد من خلقك طرفة عين ولا أقل من ذلك‏.‏

ومن هنا أيضا كان وصف ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ لذاته العلية بقوله‏(‏ عز من قائل‏)‏ في الآية التي نحن بصددها‏:‏
ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو علي كل شيء وكيل‏(‏ الأنعام‏:102).‏

ويأتي العلم الكسبي في قمة من قممه مؤكدا أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ واحد لا إله إلا هو‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ خالق كل شيء‏,‏ وأنه‏(‏ جل جلاله‏)‏ علي كل شيء وكيل‏,‏ ومن هنا كانت عبادته واجبة‏(‏ بغير شريك ولا شبيه ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة ولا ولد‏),‏ وكان تنزيهه‏(‏ سبحانه‏)‏ عن كل وصف لا يليق بجلاله أمرا واجبا‏,‏ وكان الخضوع له بالطاعة هو طوق النجاة في الدنيا والآخرة‏.‏
فالحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي الدوام‏,‏ وصلي الله وسلم وبارك علي جميع أنبيائه ورسله وعلي من تبعهم بإحسان إلي يوم الدين‏,‏ ونخص منهم بأفضل الصلاة وأزكي التسليم خاتمهم أجمعين سيدنا محمد النبي الأمين الذي بلغ الرسالة الخاتمة‏,‏ وأدي الأمانة حقها‏,‏ وجاهد في سبيل الله حتي أتاه اليقين‏,‏ فنسأل الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن يجزيه خير ما جازي نبيا عن أمته‏,‏ ورسولا علي حسن أداء رسالته‏,‏ وأن يؤتيه الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة والله‏(‏ تعالي‏)‏ رب ذلك والقادر عليه‏,‏ اللهم آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏