الحمد لله . والصلاة والسلام على رسول الله .
كان أصل الشبهة الاعتراض على عبارات فى كلام الله ورسوله . واتجهت إجابة الأخ/عبد الله المصرى - بارك الله فيه - إلى بيان درجة الأحاديث المذكورة وأنها بين الضعيف والمنكر .
والإجابة - على ما فيها من خير - غير وافية ؛ لأن النصارى اعتمدوا فى إثبات شبهتهم على آيات قرآنية ، فلا يضيرهم ضعف الأحاديث التى ذكروها فى تفسيرها ، لأن معنى الآيات ثابت ولو كان الحديث منكرًا . مثلاً آية { وكواعب أترابًا } معناها ثابت ولو كان الحديث المذكور ضعيفًا ، فتحتاج الآية إلى إجابة . وإذا تشبث المسلم بتضعيف الأحاديث المذكورة فللنصارى أن يسألوه عن تفسير هذه الآيات من كتابه ، ولن يستطيع المسلم الإتيان بمعنى مخالف للأحاديث المذكورة مع ضعفها ، فبقيت الآيات تحتاج إلى إجابة . هذا ، والإجابة بمجرد تضعيف الروايات توهم بأن المسلم لا يعتقد بمعانى الآيات فلا يعتقد بأن نساء الجنة كواعب أترابا ، ولا يعتقد بأن عجائز الدنيا سيعدن أبكارًا فى الجنة ، وهذا خلاف ما يعتقده المسلم فعلاً . فيحسب النصرانى أن فى إجابة المسلم تعسفًا وتهربًا .
والإجابة الصحيحة على شبهة النصارى أسهل من ذلك بكثير .
أنكرت النصارى لذة الجسد فى الآخرة . فلما كان هذا أصلاً من أصولهم اعتبروا كل نص فى القرآن والسنة يخبر عن لذة النكاح فى الجنة معيبًا . فقالوا للمسلمين : عيب أن يتكلم رسولكم عن أمور النكاح فى الجنة . ومن الخطأ أن يحاول المسلم رد شبهتهم بنفى صدور ذلك عن الكتاب والسنة ؛ لأن ذلك تسليم - ضمنى - للنصارى بأصلهم الذى أصلوه من أن كل كلام عن النكاح فى الجنة فهو معيب . وكم أضل النصارى والملاحدة من المسلمين بهذا الضغط الذى يمارسونه على المسلم حتى ينسوه أصل المسألة برمتها .
وكما أسلفنا ، فالإجابة الصحيحة على شبهة النصارى أيسر من ذلك بكثير . إذ إننا لا نسلم أصلهم الذى أصلوه ، ولا معتقدهم الذى اعتقدوه . فلا نسلم لهم بأن كل كلام عن النكاح فى الجنة معيب . بل نعتقد ونصرح بأن لذة النكاح هى أحد لذات المؤمنين والمؤمنات فى الجنة ، نص على ذلك الكتاب والسنة صراحة .
وعليه ، فلا عيب فيما ذكره النصارى أصلاً حتى نحتاج إلى الاعتذار عنه . لا عيب فى ذكر نكاح أهل الجنة ، ولا فى وصف نساء الجنة بأنهن كواعب وعربًا أترابًا . ولا عيب فى الإخبار بأن الله ينشئ العجائز المؤمنات خلقًا آخر شابات أبكارًا . وإنما اعتبر النصارى ذلك عيبًا لأصلهم الفاسد الذى أصلوه .
والنصرانى الذى يعترض على المسلم فى نكاح أهل الجنة نقول له : أرأيت هذا الرجل الذى اضطجع مع أمك وأحبلها بك وصار لك أبًا ، كيف ترضى لأمك بهذا الكلام بل بهذا الفعل ؟. فإن اعتذر بأنها علاقة زوجية ، قلنا : وأهل الجنة ما تزاوجوا إلا بشرع الله وإذنه ورضاه سبحانه ، فكما رضى سبحانه وتعالى لعباده التزاوج فى الدنيا بشرعه ، كافأهم فى الجنة بذلك أيضًا ، ولا فرق .
فالمسلم يجب ألا تزل قدمه فيما نصبه له النصرانى من فخ ، فيذهب يتحدث معه فى : هل صدر هذا اللفظ عن النبى عليه الصلاة والسلام أم لا . بل على المسلم أن يلتفت إلى أصل المسألة ، فيطالب النصرانى بإثبات العيب فى ذكر نكاح أهل الجنة عقلاً أو شرعًا . فإذا عجز النصرانى عن ذلك - وسيعجز - لم يكن لاعتراضه أهمية سواء صحت الأحاديث المذكورة بخصوصها أم لا .
ولا بأس بعد بيان ذلك وافيًا أن يعقب المسلم على الروايات بما لها وما عليها .
فأما وصف نساء أهل الجنة بأنهن { كواعب } ، فهكذا كانت العرب تصف المرأة الشابة الحسناء من أهليهم وذويهم ، ولم يؤثر عن واحد منهم عيب هذا اللفظ ، بل ولم يؤثر عن واحد من الشعوبية - الكارهين للعرب ولغتهم - أنه اعترض على هذا اللفظ أو وصفه بالبعد عن الأدب .
وكذلك وصفهن بقوله تعالى { عُربًا } أى المتحببات إلى أزواجهن . فأى عيب فى ذلك ؟!.
وكذلك وصفهن بقوله تعالى { أترابًا } فى سن واحدة . ليس فى ذلك ما يعيب . وإنما ذلك وما سبق من أوصاف هو تحريض من الله تعالى لعباده على نيل جنته ودار كرامته .
ويبين المسلم للنصرانى هنا فضل القرآن على التوراة والإنجيل . إذ التوراة لا حديث فيها عن اليوم الآخر إلا مجملاً فى مواضع قليلة بكلمات مبهمة ، حتى صارت الدنيا هى هم اليهود لا يطمحون لشىء بعدها . والمسيح فى الإنجيل تحدث فى مواضع قليلة نسبيًا عن نعيم المؤمن الأخروى بلا تفصيل ، حتى صار النصارى لا يعلمون عن النعيم الأخروى إلا حالاً مجملة عن العيش بالروح فى السموات . وهذا وإن كان حسنًا لكنه لا يعدو شيئًا إذا قورن بحسن ما جاء فى القرآن من الترغيب فى جنة الرحمن . ومعلوم أن كثرة الأخبار الحسنة عن الجنة تشوق المؤمن إليها ، وتؤكد فى قلبه حب الله للمؤمنين الطائعين ، فيكون ذلك دافعه للعمل والاجتهاد ، وليس ذلك لأهل التوراة والإنجيل . ( حديثى كله هنا عما بأيدى أهل الكتاب ، وإلا فلا نتصور أبدًا أن الله فى التوراة المنزلة اقتصرت وعوده على الدنيا التى لا تساوى عنده جناح بعوضة ) .
وأما قوله تعالى { إنا إنشأناهن إنشاءً } ، فقد ثبت فى الحديث الحسن أنه صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة عجوز تقول له : يا رسول الله ، ادع الله لي أن يدخلني الجنة . فقال لها : ( يا أم فلان ، إن الجنة لا يدخلها عجوز ) . وانزعجت المرأة وبكت ظنا منها أنها لن تدخل الجنة . فلما رأى ذلك منها بين لها غرضه أن العجوز لن تدخل الجنة عجوزا بل ينشئها الله خلقا آخر فتدخلها شابة بكرا ، وتلا عليها قول الله تعالى : { إنا أنشاهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا } .
وأى عيب فى إخبار الله تعالى بإرجاع العجوز بكرًا عند دخول الجنة ؟. سبحان الله العظيم .
وأما تعقيب النصرانى على نكاح أهل الجنة بقوله : هل تقبل هذا الكلام عن أمك ؟. فيقال له : أنت تستنكر مجرد الكلام فكيف بأمك وقد تعدت الكلام إلى الفعل ، فأمك نكحها أبوك على الراجح . فكيف تقبل الفعل وتستنكر مجرد الإخبار والحكاية ؟!.
وأما القول المنسوب لعائشة رضى الله عنها ( واوجعاه ) فلا يثبت بل هو منكر كما تفضل الأخ/عبد الله المصرى وبين .
وأما حديث أبى هريرة أنه قال : أنطأ في الجنة ؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " نعم والذي نفسي بيده دحما دحما فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا " ، فقد صححه الألبانى فى السلسلة الصحيحة . والإخبار عن لذة نكاح أهل الجنة ليس فيه ما يعيب كما قدمنا .
وأصل المسألة : هل يصح ذكر شىء من أمور النكاح ؟.
اعلم - هداك الله - أن ذكر بعض أمور النكاح ورد فى كتبهم وورد فى الكتاب والسنة . وليست العبرة بمجرد الورود والذكر ، وإنما العبرة بسياق الكلام وأسلوبه . فإن أهل الطب ما زالوا يذكرون فى كتبهم أسماء الأعضاء التناسلية صراحة ، ولم يصفهم عاقل بقلة الحياء أو الأدب ، بل صنيعهم هذا مستحسن عند جميع الملل والطوائف . فدل هذا على أن العبرة ليست بمجرد ذكر الألفاظ ، وإنما العبرة بالسياق والأسلوب .
والمرء - مسلمًا كان أم غير مسلم - يسمع قوله تعالى { ويحفظوا فروجهم } ، وكذلك وصف محاسن نساء أهل الجنة فى الكتاب والسنة ولا يدور بباله إرادة الزنا أو التهيج الجنسى .
لكن كتاب النصارى يذكر الألفاظ الجنسية فى سياق شبقى يهيج السامع . والنصارى يعتذرون عن تلك السياقات الشبقية المهيجة بأن المراد منها ليس التهييج والشبق ، وإنما المراد توبيخ العصاة وزجرهم - كما فى أهولا وأهوليبا - أو تبيين علاقة الله بالكنيسة - كما فى نشيد الأنشاد .
واعتذار النصارى - على قبحه - لا يخرج السياقات عن شبقها وهيجانها . فحتى لو سلمنا لهم بعذرهم ، وأقررنا بأن الهدف من السياقات لم يكن أبدًا الشبق والتهييج ، فلا يغير ذلك واقع الأمر ؛ إذ ما زالت السياقات مهيجة بتفاصيلها الشبقية . ومثال هذا أن يضرب زيد عمرًا فيقتله ، فيعتذر النصارى عن زيد بأنه ما أراد قتل عمرو وإنما أراد جرحه فقط . فحتى لو سلمنا للنصارى اعتذارهم عن زيد ، يبقى واقع الأمر أن زيدًا قتل عمرًا فعلاً ويلزمه دية مثلاً . فهكذا اعتذار النصارى عن سياقات كتابهم الشبقية لا تغير من واقع الأمر شىء . فحتى لو سلمنا لهم بأن الرب أراد التوبيخ أو مغازلة الكنيسة ، فسيبقى واقع الأمر وهو أن توبيخ الرب ومغازلته أنتجت سياقات شبقية مهيجة لا يحسن بالمتزوج قراءتها ، فضلاً عن الرهبان والراهبات المكبوتين والمكتبوتات .
هذا كله على فرض التسليم للنصارى بأعذارهم . على أننا لا نسلم لهم بأعذارهم القبيحة ؛ إذ على هذا القياس يستطيع كل كاتب فاسد سرد الروايات الإباحية بحجة أنه ما أراد الإباحية وإنما أراد الوعظ بتبيين عاقبة الزناة الداعرين !. واعتذار النصارى عن صنيع ربهم فى كتابهم هو نفس هذا الاعتذار .
أب أراد أن يعظ ولده العاصى ليذاكر وينجح ، هل يدور ببال ذلك الأب أن يعظ ولده فيشبه له تقصيره بأنه كالعاهر التى فتحت فخذيها لكل عابر ؟!. وهل يدور ببال ذلك الأب - زيادة فى الوعظ - أن يتمادى فى تفاصيل ذلك التشبيه فيصف أفخاذ تلك العاهر وكيفية زناها ، ثم إذا أخذته الحمية - الأب لا الابن - فى الوعظ ذهب مغتاظًا يندد بمنى الزناة ؟!.
إن هذا سفه لا صنعه أب عاقل من أى ملة أو دين . لكن هذا السفه قد صنعه رب النصارى فى كتابهم ، وعلى درجة عالية من الابتذال والوقاحة .
والحاصل أن الألفاظ المتعلقة بالنكاح الواردة فى الكتاب والسنة لا عيب فيها ، لأن سياقات الكلام الواردة فيها أبعد ما تكون عن الابتذال ، بل هى فى قمة البيان الأدبى والعلمى . وأما سياقات كتب النصارى فعلى درجة من الابتذال يترفع عنها البشر العاقل ولو كان كافرًا
المفضلات