بسم الله الرحمن الرحيم
أختي.. هل فكرتِ مرة في زيارة القبور؟! هل تخيلتِ مرة أنك تحت التراب؟!! أين يمكن أن يحدث ذلك ؟ بالطبع في تلك الحفرة الرهيبة التي تسمي القبر

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'كنت نهيتكم عن زيارة القبور.. ألا فزوروها، فإنها ترق القلب وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هُجرًا'.

ولأهمية زيارة القبور وعظيم أثرها في رقة القلب وخشوعه لربه ،كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم صحابته الكرام زيارة المقابر, بل ويعظ ويذكّر ويستغل المواقف لتكون منها العبرة والتذكرة..

عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أبصر بجماعة فقال: 'علام اجتمع هؤلاء؟!' قيل: على قبر يحفرونه, قال: ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبدا بين يدي أصحابه مسرعًا، حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى من دموعه.. ثم أقبل علينا فقال: 'أي إخواني, لمثل هذا اليوم فأعدوا'.



وعلى درب النبي صلى الله عليه وسلم سار صحابته الكرام في تذكر القبر وزيارة القبور.. فها هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يتأسى بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ويعظ الناس في خطبته قائلاً: 'الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم، الذين كانوا لا يعطون الغلبة في مواطن الحرب، أين الذين بنوا المدائن وحصونها بالحيطان؟! قد تضعضع بهم الدهر، وصاروا في ظلمة القبور'.

وأما عمر بن الخطاب ، فيقول عنه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فلما وقفنا على مقبرة البقيع، اختلس يده من يدي, وكنت قابضًا على يده, ثم وضع نفسه على قبر فبكى بكاء طويلاً, فقلت: ما بك يا أمير المؤمنين؟!

قال: يا ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليتني كنت شجرة تعضد, أنسيت يا ابن عوف هذه الحفرة، قال: فأبكاني والله, فالله المستعان على تلك اللحود الضيقات، الله المستعان على تلك اللحظات الحرجات.

وعن ميمون بن مهران قال: 'خرجت مع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى المقابر، فلما نظر إلى القبور بكى، ثم قال: يا أبا أيوب, هذه قبور آبائي بني أمية, كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشتهم، أما تراهم صرعى، قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصابت الهوام في أبدانهم مقيلاً، ثم بكى حتى غُشي عليه, ثم أفاق فقال: فانطلق بنا, فوالله ما أعلم أحدًا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله عز وجل'.



حفرة الغاوين:

فعن يزيد بن سخبرة 'يقول القبر للرجل الكافر أو الفاجر: أما ذكرت ظلمتي، أما ذكرت وحشتي، أما ذكرت ضيقي، أما ذكرت غمي'.

فيا لتعاسته ويا لشقاوته هذا العاصي.. هل سيتحمل هذا النداء القاسي في هذه الظروف الصعبة وهذا الحال المؤلم؟!! هل سيتحمل نداءات العتاب في الوقت الذي ما عاد ينفع فيه العتاب؟! وفي الساعة التي ليس بعدها رجعة إلى دار الغرور؟! كم هو في ألم؟! كم هو في وجع؟! كم هو في حيرة وقلق وشرود وهو لا يدري ما يفعل به؟!! بل حتى يعاتبه جيرانه من سكنى القبور :

عن محمد بن صبيح قال: بلغنا أن الرجل إذا وضع في قبره فَعُذِّب أو أصابه بعض ما يكره ناداه جيرانه من الموتى: أيها المتخلف في الدنيا بعد إخوانه.. أما كان لك فينا معتبر؟! أما كان لك في تقدمنا إياك فكرة؟! أما رأيت انقطاع أعمالنا هنا وأنت في المهلة؟! فهلا استدركت ما فات؟! وتناديه بقاع الأرض: أيها المغتر بظهر الأرض.. هلا اعتبرت بمن غيب من أهلك في بطن الأرض ممن غرته الدنيا قبلك!! ثم سبق به أجله إلى القبور!! وأنت تراه محمولاً تناديه أحبته إلى المنزل الذي لا بد له منه!!!



ضمة القبر:

فإذا كان سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن ضمّه القبر ضمّة ثم خفف عنه, فكيف إذن بالمفرط الذي أغضب الله تعالى؟!!

يضمّه القبر ضمّة ويضغطه ضغطه حتى تختلف عليه أضلاعه كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه: 'ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه'..



الامتحان الأخير:

وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يصف لنا حال المفرط في داخل القبر، فيقول '. ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟! فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟! فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد! فيقول: هاه هاه، لا أدري, سمعت الناس يقولون ذاك، فيقولان: لا دريت ولا تلوت, فينادي منادٍ أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه [وفى رواية: ويمثل له] رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت فبشرك الله بالشر من أنت؟! فوجهك الوجه يجيء بالشر! فيقول: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمت إلا كنت بطيئًا عن طاعة الله، سريعًا إلى معصية الله، فجزاك الله شرًا، ثم يقيّض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة, لو ضُرب بها جبل كان ترابًا, فيضربه ضربة حتى يصير بها ترابًا، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار، ويُمهد من فُرش النار، فيقول: رب لا تقم الساعة.



العذاب النفسي أشد وأنكى:

فسبحان الله, هو يرى الجنة أمام عينه.. يرى مقعده في الجنة.. يرى الخير الذي أعد له إذ كان أطاع الله تعالى.. فحقًا.. إن الله لا يخلف الميعاد.. وحقًا والله إن الجنة حق والنار حق, ولكن المعذب في قبره لا يدرك هذا كله إلا بعد فوات الأوان..



قبر الغاوي من الداخل:

كثيرًا ما يغرق الإنسان في حياة المادة والشهوات, فإذا ما ذكر بأحاديث القبر ونعيمه وعذابه لا يتذكر ولا يتدبر, بل وقد يشتط ويطغى, مثل من أنكر عذاب القبر من الغفلة والغاوين.

ولكن إذا ما تطابق الغيب مع الشهادة, ورأت العين ورفعت حجب الغيب، وانكشف غطاء الشك.. لا يسع الإنسان بعدها إلا أن يرفع إصبع السبابة إلى السماء, ويعلو صوته في الأجواء, ويقول: 'لا إله إلا الله'.

يقول رجل كان يعمل نباشًا للقبور, فلما تاب إلى الله سأله أحد العلماء: ما السر في توبتك؟! فقال له الرجل: لقد كنت أنبش قبور المسلمين بعد دفنهم لأسرق الأكفان والأسنان الذهبية وغير ذلك, فنبشت ألف قبر, فما وجدت واحدًا منهم موجهًا إلى القبلة, مع أن أقاربه دفنوه منذ ساعات وتركوه موجَّهًا إلى القبلة!!! فقلت في نفسي: ما الذي حوَّلهم عن القبلة؟! فعلمت أن ما فعلوه في الدنيا ظهر في قبورهم, فعزمت على أن أتوب قبل أن يأتيني ملك الموت وأنا على تلك الحالة.



نعم أخيتي.. ما فعلوه هنا ظهر هناك!!!

قد يقول ضعيف الإيمان: هذه خرافات, وما الذي يؤكد لي أن هذا الكلام صحيح؟!

فهذا نقول له: أيها الأخ الحبيب, هذا مما رواه علماء فضلاء, ولكن إن أبيت إلا الإعراض فنذكر لك ما رواه من هو من خير القرون, خادم النبي صلى الله عليه وسلم وغلامه النجيب 'أنس بن مالك' رضي الله عنه وأرضاه..

قال: كان منا رجلٌ من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فانطلق هاربًا حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه، قالوا: ما هذا؟! قد كان يكتب لمحمد صلى الله عليه وسلم. فأعجبوا به, فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه, فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه, فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذًا.



روضة المحبين!!

هل يعذب المحب حبيبه؟!!

هل يزعجه؟! هل يخيفه؟! هل يفزعه؟! هل يؤلمه؟!

هذا غير متعارف عليه في عالم البشر, فكيف إذن مع رب البشر سبحانه وتعالى!!

الذي قص في كتابه الكريم أن رحمته وسعت كل شيء, وأنه سيكتبها للمتقين.. قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 156]

وقال أيضاً عن أوليائه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.

فها هم.. أخيتي.. أحباب الله تعالى كانت موتتهم هنية, وتوفتهم ملائكة طيبون بيض الوجوه, وصعدت أرواحهم الطيبة إلى مغفرة من الله ورضوان, تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، صلى عليهم كل ملك بين السماء والأرض, وكل ملك في السماء.. وحان الوقت الآن أن تعود الروح إلى الجسد، وآن الأوان أن يصدق وعد الله: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}.



عندما يكلم القبر المؤمن:

هل يتكلم القبر؟! هل يتكلم التراب والحجر؟!

هل يتكلم وينطق ويفهم منه الكلام؟! نعم أيتها الأخت الحبيبة, إن الذي أذن للطفل الرضيع أن يتكلم في مهده قادر على أن ينطق الحجر والشجر.. هكذا جاء في الأثر..

ولكن ماذا يقول للعَبد المؤمن...

هذا ما نعرفه أخيتي من كلام أسيد بن عبد الرحمن رحمه الله قال: بلغني أن المؤمن إذا مات وحمل قال: أسرعوا بي, فإذا وضع في لحده كلمته الأرض فقالت له: إن كنت لأحبك وأنت على ظهري, فأنت الآن أحب إليّ.

فهذه بداية عهد المؤمن بالقبر, سعة وخضرة وطمأنينة.. ثم ماذا بعد أيها الأخت الحبيبة؟!



ضمة الأم الحنون:

عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: 'إن للقبر ضغطة؛ لو كان أحد ناجيًا منها لنجا سعد بن معاذ', وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: دفن صبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'لو أفلت أحد من ضمة القبر لأفلت هذا الصبي'.

فحتى سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن ضمه القبر.

وبحسب الذنوب تكون الضمة؛ فكلما قلت الذنوب هانت ضمة القبر, وكانت مثل الأم الحنون, وكلما كثرت الذنوب قويت الضمة, وكانت كالوحش الكاسر..



سؤال أعددت له الإجابة:

كثيرًا ما يمتحن الإنسان في حياته الدنيا.. ولكن أسعد لحظات حياته هي اللحظة التي يجد فيها عاقبة صبره وتعبه ويقف مسرورًا أمام ورقة الامتحان, وقد أعد لكل سؤال إجابة..

فهذا ما يحدث للمؤمن عندما يواجه سؤال الملكين.. يجد نفسه أمام أسئلة بسيطة قد أعد لها الإجابة, قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم : 27]



صديق العمر صديق القبر:

هناك صديق سيأتيكِ في القبر أيتها الحبيبة كان صديق العمر بالنسبة لك في الحياة, ولكن رغم طول فتره الصداقة لن تعرفيه بعد الممات, فإن هول الموت والسكرات والقبر أنساكِ كل شيء, فنسيتِ حتى أقرب أصدقائك.

ففي حديث البراء الطويل: ويأتيه [وفى رواية: يمثل له] رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير من أنت؟! فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح, فوالله ما علمتك إلا كنت سريعًا في طاعة الله، بطيئًا في معصية الله، فجزاك الله خيرًا، ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجّل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن.



نموذج واقعي لنعيم القبر:

هذه القصة على لسان من نحسبه من الصادقين ولا نزكي على الله أحدًا, العم الشيخ: محمد العثمان رحمه الله من علماء الكويت الأجلاء, وقد كان كفيفًا, وكان معروفًا بصلاحه وقراءته على المرضى لعلاجهم, وقد شفى به الله الكثيرين.

عندما أحس الشيخ بدنو الأجل بعد صلاة المغرب جمع المغرب والعشاء, وطلب من ولده أن يأخذه إلى المستشفى, وفي الطريق أخبر ولده بأنه أحس بدنو أجله, وأنه يرى الملائكة وهم ينظرون إليه ويبتسمون, ولما وصلوا إلى المستشفى أدخلوه غرفة العناية الفائقة, وكانت الغرفة ضيقة, وهو ينازع ويذكر الله كلما أفاق ويقول لولده: أرى جمعًا كثيرًا في الغرفة, وأرى نورًا, وما كان في الغرفة سوى ولده, ثم قال لولده: سلم على والدتك وإخوانك والأقرباء, ثم تشهّد ومات يرحمه الله.

عندما غسلوه وكفنوه وأنزلوه إلى قبره نزل معه ولده وأحد الحاضرين ليلحدوه, فلما فرغوا من دفنه وكان العزاء سأل أحد الحاضرين عن ولد الشيخ الذي نزل القبر, فأرشدوه إليه؛ فقال: أنا الذي نزلت معك لنلحد أباك, فهل رأيت ما رأيت عندما أدخلنا جنازة الشيخ في لحده؟! قال: نعم, فيقول ولد الشيخ على لسانه: عندما أدخلنا الشيخ محمد العثمان في لحده اتسع اللحد مد البصر, فسبحان الله العظيم.



وأخيرا أيتها الزهرة : تذكري ذلك الموقف الرهيب ، وأعدي له ، تذكري يوما يعلوك فيه التراب ، وتنقطع عنك فيه الأسباب ، وتفارقين فيه الأهل والأحباب ، وساعتها لن ينفعك إلا ما قدمت ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر : 18]

المصدر: موقع مفكرة الإسلام