نعود مرة أخرى لموضوع التنصير الذي يستهدف بلدنا ومواطنينا، مع هذا العدد الذي أرادت جريدة »العلم« مشكورة أن تضمنه ملحقا خاصا حول التنصير وفي البداية أود الإشارة إلى ما قرأناه في صحيفة وطنية، وشاهدناه فيها بأعيننا من صور للكنيشات التبشيرية والاستمارة التي يقوم المنصرون بتوزيعها بأحد أهم مدن المغرب، من حيث مكانتها التاريخية والعلمية مدينة يفتخر كل المسلمين بما أنجزته لصالح الإسلام والمسلمين باعتبارها أهم عاصمة في مراحل صعبة من مواجهة الصليبية الحاقدة في تاريخ المغرب.
والواجب يفرض هنا تذكير من يعنيهم الأمر بما سبقت إثارته في الشهور الماضية اثر الندوة المعلومة في نفس المدينة، والتي كال فيها أحد المبشرين للإسلام ما طاب له من الأراجيف والأكاذيب، وكدنا نصدق آنذاك ما قاله المسؤولون، وان كان ما قالوه متناقضا مع البيان الصادر عن المجلس العلمي للمدينة وواقع الأحداث كما رواها الناس.
والذي نشر في الأيام الأخيرة بالصور والشهادات التي قدمت يضع المسؤولين أمام مسؤولياتهم في مخاطبة الرأي العام في هذا الموضوع الحساس والذي يهم وجود المغرب كبلد مسلم، لقد سبق وضع أمر التنصير ببلادنا على مستوى البرلمان بغرفتيه، وكذا في اللجان ولكن كان الجواب دائما هو أن هذا أمر غير موجود وان هناك مبالغات وإعطاء الموضوع أكثر من حجمه.
وها نحن نتأكد أن في مدينة مراكش كنائس سرية ومنظمة، وهناك مجلس للمدينة يتركب من مسؤولي هذه الكنائس، وإن الاجتماعات تتم بكيفية دورية الأمر الذي يفرض التساؤل أين هي المصداقية فيما يقوله المسؤولون في هذا الصدد.؟
ولعل الذي نشر ليس إلا صورة لما يجري في مدن أخرى ونرجو أن يكون المسؤولون على دراية بالأمر، وان يكونوا قد اتخذوا من الحيطة والحذر ومن العمل الجدي ومن الإجراءات ما يكفل للمواطن وللبلد الأمر الروحي، الذي يجب أن يكون في مقدمة الأولويات من اهتمامات المسؤولين.
الأمن الروحي والتنصير
إن الاهتمام بالأمن الروحي للمواطنين لا يفرضه فقط ما يشغل به فئة من الناس أنفسهم في مقاومة بعض عناصر الغلو من أبناء جلدتنا، فهؤلاء يمكن معالجة أمرهم بالحوار والإقناع، وإنارة السبيل أمامهم ليتجهوا الاتجاه الذي يقيهم من الانحراف، أو الإضرار بأنفسهم وبأمتهم وبدينهم لاسيما والكثير منهم أخذ الأمر من باب التقرب إلى الله، ومن باب الاعتقاد أن ذلك هو السبيل لحماية ما يعتقده وما يؤمن به، والأمة لم تكن في أي وقت ما خلوا من مثل هؤلاء الناس، ولكنهم كانوا دائما مع الوقت يعودون إلى رشدهم، غير أن الخطر الماثل هو أن المسؤولين يفهمون الأمر الروحي فهما خاطئا حيث يربطونه فقط بالدخول إلى المسجد والخروج منه بسلام، ولكن كيف دخلت وماذا فعلت؟ وما يتطلب كل ذلك من تعهد بالتوجيه فهو أمر ثانوي، والأخطر من كل ذلك أن ينظر بعض المسؤولين في بلادنا إلى عمل المنصرين بأنه يدخل في إطار الحرية الدينية أو حرية المعتقد، في حين أن الأمر يتعلق بإصرار مسؤولي الكنائس الأوروبية والأمريكية على اختلاف تلويناتها ومذاهبها على أن تجعل من العالم الإسلامي كله مجالا لدعوتها التنصيرية مع رصد ميزانيات ضخمة وعقد مؤتمرات دورية لمراجعة خطط التنصير، ووضع أخرى لتنصير المسلمين والخروج بهم عن دينهم. فمنذ الحروب الصليبية وقبلها، وهؤلاء الناس يتحرشون بالمسلمين ويسعون بما في أيديهم من وسائل للتغلب على الإسلام ليتحقق ما كانوا يأملونه من انتصار الصليب على الهلال.
التنصير بين الاستعمار القديم والجديد
وقد عانت المجتمعات الإسلامية من ذلك أثناء الاستعمار، وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعمل جاهدة لفرض نفوذها وسيطرتها علي السياسة العالمية، وجعل نفوذها يحل محل نفوذ الدول الاستعمارية السابقة فإن كنائسها أصبحت تحاول أن تتصدر أمر التنصير، فهي تسير على نهج الاستعمار القديم، وليس تدخلها لدى الدول الإسلامية لمراجعة البرامج والمناهج إلا خطوة متقدمة في الاتجاه الذي خرج به مؤتمر التنصير الذي عقد في بداية القرن الماضي والذي نشر خلاصة أعماله تحت عنوان )الغارة على العالم الإسلامي( والذي جاء في مقدمة هذه الخلاصة بقلم رئيس تحرير »مجلة الإرسالية العلمية المغربية« ما يلي:
»قلنا في سنة (1910م) عندما كنا نخوض على صفحات هذه المجلة في موضوع السياسة الاسلامية: ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنيا قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية، ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل ، والتثبت من فائدته. ويجدر بنا لتحقيق هذا بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم بها الرهبان المبشرون وغيرهم، لأن لهذه المشروعات أغراضا خاصة، ثم ليس للقائمين بها حول ولا قوة في هيئتنا الاجتماعية، التي من رأيها الاتكال على الحكومة، وعدم الإقبال على مساعدة المشروعات الخاصة التي يقوم بها الأفراد، فتبقى مجهوداتهم ضئيلة بالنسبة إلى الغرض العام الذي نتوخاه، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنسية، نظرا لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة.
ويضيف السيد شاتلي قائلا:
وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنسية.
هذا ما ارتأيناه يومئذ، وسيظهر ما يؤيده في الفصول التالية المتعلقة بإرساليات التبشير البروتستاني الانجلوسكسونية والجرمانية الدائبة على العمل في العالم الإسلامي، حتى أصبحت أهميتها تفوق بكثير ما اعتاد الفرنسيون أن يتصوروه، لأن النشاط وقوة الجأش التي يظهرها القائمون بأعمال هذه الإرساليات تختلف عن التي تمتاز بها أمتنا.
وكنا منذ أمد بعيد نود أن نخوض في ذكر تفاصيل أعمال هذه الإرساليات التي اشتهرت بخطتها، ووفرة الوسائل التي أعدتها وتوسلت بها لمقاومة دين الإسلام«
التعاون بين مؤتمرات التنصير والاستعمار
فلا عجب إذن أن يكون التعاون قائما بين التنصير والاستعمار، إذ كانت مؤتمرات الاثنين تنسق فيما بينها وبتعاون بعضها مع البعض. وهذا موضوع معروف من خلال تتبع عمل الارساليات التنصيرية وأعمال الاستعمار، ونتحدث هنا فقط عن مؤتمرات التنصير.
إن عادة عقد المؤتمرات التنصيرية لاتزال هي التي يسير عليها المنصرون وأهم آخر هذه المؤتمرات هو الذي عقد في ولاية )كولارادو( بأمريكا سنة 1977 وصدرت أعماله في مجلد من ثمانمائة صفحة وفيه فصول كثيرة تتعلق بالمغرب العربي وطريقة تنصير أهله، ورصد لذلك ميزانية ضخمة ووسائل عملية في نظرهم، وفي مقدمة مايستعمل الآن الإذاعات والقنوات التلفزية الفضائية، وهي في اغلبها تتجه إلى العالم الإسلامي اكثر مما تتجه إلى غيره. وفي سياق هذه العملية تم في التسعينيات من القرن الماضي وضع خطة مشتركة بين الكنائس والإرساليات التنصيرية لتنصير المسلمين بالملايين وذلك تنفيذا لما جاء في المجمع المسكوني المنعقد مابين سنة 1962 - 1965 حيث اتخذ هذا المجمع قرارا ب:
اقتلاع الإسلام في عقد التسعينيات واعتباره ديانة غير سماوية
وتناولت مختلف الأبحاث والدرسات المهتمة بالتنصير أعمال هذا المؤتمر وبصفة خاصة أن كل مقرراته اتخذت طريقها نحو الإنجاز، فمسألة تبرئة اليهود من دم المسيح تم وضع خطة لها ليستسيغها من لم يكن مهيئا لذلك لينتهي الأمر بالاعتذار لليهود. وكذا مايتعلق باقتلاع اليسار والأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، ولكن النقطة الأهم في هذا الموضوع هو مايتعلق باقتلاع الإسلام، هذا البند الأساس بالنسبة لهم هو ما يسعون جاهدين لتحققه، ولمزيد توضيح الموضوع وخلفياته نستعين بما كتبته إحدى الكاتبات الباحثات في هذا المجال »الدكتورة زينب عبد العزيز« في كتابها )حرب صليبية بكل المقاييس( تقول الكاتبة:
والوثيقة الخاصة بالإسلام والمسلمين، تمت صياغتها مع إرداج الإسلام ضمن الديانات الاسيوية الكبرى التي وجدت بعيدا عن المسيحية واليهودية  لاستبعاد الإسلام عن رسالة التوحيد. وهذا التوجه غير الأمين حتى في صياغة النص المليء بالمغالطات يكشف عن تلك النوايا التي لم تعد خفية على أحد. فالفاتيكان أو الكنيسة في مجمل تفريعاتها لاتعترف بالإسلام كديانة سماوية توحيدية منزلة. وقد لخص الأب ميشيل لولنج هذه الحقيقة قائلا:
»إن الكنيسة تعتبر المسيح خاتم الرسالة، لذلك فهي لاتعترف بنبي الإسلام الذي أدانه المسيحيون بصورة سلبية تهجمية وعدوانية«. وكان الأب كاسبار قد أوضح الموقف نفسه أيام انعقاد المؤتمر قائلا: »إن هناك من بين رجال الدين الحاضرين من يعتبرون أن الإسلام خطأ مطلق لابد من رفضه لأنه يمثل خطرا بالنسبة للكنيسة ولابد من محاربته«.
وفيما يتعلق بالبيان النهائي، يقول الأب كاسبار، وكان أحد المسؤولين عن تدوين محاضر جلساته »لقد أعيدت صياغة النص حتى لايتخذ تمهيدا لحل المسائل الصعبة التي ظل النقاش حولها قائما، مثال: النسب التاريخي للعرب، ابتداء من اسماعيل، وخاصة صلة الإسلام بالرسالة الإنجيلية)..( وحتى لايفهم أن الله قد تحدث أيضا إلى محمد)...( فالنص النهائي لايكشف عن أن إبراهيم جد نسبي للعرب المسلمين ولكن كنمط للإيمان الإسلامي بخضوعه لإرادة الله«.
لذلك راح البابا يتخذ خطوات أكثر فعالية لاستبعاد ذلك »الخطأ المطلق« بأن يلوح للكنائس المنشقة بشبح الإسلام والأصولية، مطالبا بوضوح قائلا:»لابد من تحالف القوى المسيحية لتكون أقوى درع ضد الإسلام« )»الجغرافيا السياسية للفاتيكان« ص 268 (
التنوع الجغرافي للإسلام واستغلال الحوار للخداع
ويوضح الباب في نفس هذا المرجع أنه »لابد من الأخذ في الاعتبار بالتنوع الجغرافي أو الديني للإسلام، فلايجب طرح نفس المشكلات بنفس الطريقة مع السنيين أو الشيعة أو الدروز أو الاسماعيليين. لابد من إتقان تنوع الحوار«. والإتقان هنا يعني التحايل والخدع..
من هنا ندرك أن الحوار مع المسلمين هو لعبة خداعية تستخدم إلى أن يتم الارتداد. وذلك هومانطالعه في خطابه الرسولي المعنون »رسالة الفادي«. »إن الكنيسة تستعمل الحوار لكي تحسن حمل الناس على الارتداد والتوبة عن طريق تجديد ضميرهم وحياتهم تجديدا عميقا في ضوء سر الفداء والخلاص«. وقد علق الصحفي س.ديلاكروا في مقال بعنوان: »الكنيسة الكاثوليكية في مواجهة العالم غيرالمسيحي« قائلا: »إن الكنيسة باتت مصرة على تحديد رسالتها المعنية وهي: غرس الإنجيل في كافة الثقافات« وقد علق الأب ريمون روسينيول على ذلك الخطاب قائلا: »إنه يمكن اعتباره بمثابة نداء من البابا لتجنيد الكنيسة بأسرارها لمهمة التبشير.. إننا مازلنا نفكر في البلدان التي تمنع دخول المبشرين، إلا أن ذلك لايقف حائلا أمام الدبلوماسيين ورجال الأعمال والتقنيين المسيحيين«.
أما البابا فلا يرى أية صعوبة في ذلك بما أنه »يهتم بما يطلق عليه الأشكال الجديدة للتعاون، والتي يذكر منها أربعة بصفة خاصة هي: السياحة، ومختلف الأشكال المهنية، والمهاجرين، والحياة الدولية بما فيها السياسة والاقتصاد ووسائل الإعلام« )»رسالة الكنيسة« العدد 91 مارس 1991(.
وفي شهر نوفمبر 1994 أعلن الباب خطابه الرسولي المعنون »عشية الألفية الثالثة« وقد قالت عنه جريدة »لوفيجارو« الفرنسية »إنه بمثابة بيان للسياسة التي يجب أن تتبعها الكنيسة« )15 ـ11 ـ 1994(. وكان البابا قد تناول فكرة أو موضوع الألفية في أكثر من خطاب أو مناسبة، فهو موضوع »مرتبط بضرورة عملية جديدة لتنصير العالم« على حد قول جوزيف فاندريس، مراسل الفيجارو في الفاتيكان، لأن »المسيح هو الله حقا، وهو إنسان حقا، وهو سيد الكون وسيد التاريخ أيضا، وهو البداية والنهاية« )بند 5 من الخطاب(.
فالمسألة إذن واضحة لاغبار عليها.. تحالف بين الكنيسة وإرساليتها والاستعمار القديم الجديد من أجل تنصير المسلمين، أو على الأقل جعلهم تحت السيطرة والتحكم في مقدراتهم وثرواتهم وشغل بعضهم ببعض، وفي الأخير اختتم هذا العرض الذي حاولت أن أجعله موثقا بخاتمة أوردها الزعيم علال الفاسي رحمه الله في آخر كتابه عن التسيير المسيحي وأود أن أشير أن العنوان من عندي وليس من عند الزعيم علال الفاسي رحمه الله. دوكول يتخوف من صراع الحضارات قبل هانتينجتون:
يقول الزعيم علال الفاسي:
.. لقد قرأت في كتاب »مالم يقل عن دوغول« خبرا طريفا نروي ملخصه هنا ذلك أن مؤلف هذا الكتاب يقول أن دوغول بعد الهزيمة الفرنسية حاول الانتحار وأرسل يطلب الراهب الذي يعترف عادة لديه، فقال لهم معللا ماعزم عليه: »إن أوروبا الغربية الآن تنهار إزاء النازية، ومعنى ذلك انهيار الحضارة النصرانية، بصفة نهائية، أن أمريكا أختنا في الدين والحضارة وسوف تعمل ماتستطيعه لإنقاذ الموقف شيئا ما، ولكن حضارتنا مع ذلك ستنتهي، وهناك في الصين شعب قوي نسميه تارة الخطر الأصفر، ولكنني لا أعتقد أنه يكون البديل الصحيح، فالحضارة الصينية لاتبلغ درجة حضارتنا المسيحية، ولكن الذي أخاف منه هو هذا الخط الذي يمتد من طنجة الى كراتشي، إن الإسلام ذو حضارة وثقافة، وهو جدير بأن يكون الوارث لنا، فإذا تحالف مع الصين، فإنه لن يوجد أحد يوقف المسلمين عند بواتيه«.
هذا مارواه مؤلف الكتاب نقلا عن الراهب الذي اعترف إليه دوغول. لقد خشي بطل التحرير الفرنسي من التضامن بين المسلمين وتحالفهم مع الصين، وهذا بالفعل ماحمل روسيا أن تحالف الهند في تقسيم دولة الباكستان بعدما كانت اقترحت بعد الحرب تقسيم فلسطين بين العرب وبين إسرائيل.
نعم هكذا يفكر هؤلاء الناس، فالتاريخ والجغرافية ماثلان أمامهم، فمعركة بواتيه التي مضى عليها قرابة ألف ومائتي سنة لاتزال شاخصة أمام رجل تعاني بلاده ويلات الاحتلال ووصل الى درجة التفكير بالانتحار، فلا نستغرب إذن أن تكون الكنيسة والجيش الأمريكي بصدد احتلال العراق قد هيأت من جانبها جيشا من المنصرين ودعاة الصليب للعمل على تحويل عاصمة العباسيين الى عاصمة للنواقيس والصلبان بدل القبب والمآذن.
ان الخطر أكيد والمواجهة تتطلب المزيد من الايمان والعزم وتقوية المناعة بنشر الثقافة الاسلامية الصحيحة لدى الناشئة والوقوف بحزم مع من يكيد لديننا وبلدنا.
-جريدة العلم المغربية، الأحد 12 فبرابر 2006-
-ذ. محمد السوسي-