استوقفتني عبارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لدى زيارتها إسرائيل ووضعها إكليلاً من الزهور على نصب ياد فاشيم التذكاري لضحايا المحرقة التي ارتكبتها ألمانيا ضد اليهود بأنها باسم الحكومة الألمانية والشعب الألماني تعرب عن «خجلها الشديد»، وذلك بعد أن أكـدت أن «وجود دولة إسرائيل كان وسيظل إحدى الركائز التي لا تـمس للسياسة الألمانية ويمكنكم أن تكونوا واثقين من ذلك، وأقول ذلك باسم الحكومة الألمانية وباسم الشعب الألماني، معربة عن «خجلها البالغ». وكانت تلك الصورة لها وهي تضع إكليل الزهور على النصب هي الأكثر رواجاً بما لا يُقاس بأي صورة لها ظهرت خلال زيارتها لإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وكأن الرسالة الوحيدة التي نجمت عنها هذه الزيارة، أن ألمانيا في شخص مستشارتها تعتذر من جديد عن المحرقة التي ارتكبتها ضد اليهود في ثلاثينيات القرن الماضي، وهي مستعدة أن تفعل كل شيء لتكفر عن هذه الخطيئة التاريخية بحقـهم حتى وإن أدى ذلك إلى ارتكاب جريمة جديدة هي إلغاء حقوق الشعب الفلسطيني، ودعم جرائم الإبادة التي يرتكبها الإسرائيليون يومياً ضد الشعب الفلسطيني، وجميعنا يعلم أن هذا الشعور بالذنب تجاه اليهود والرغبة في التكفير عنه يشكلان جوهر السياسة الغربية المعادية للعرب، والسبب الأساس لسكوت أوروبا عن المجازر الدموية التي ترتكبها إسرائيل يومياً ضد العرب، وقتلها اليومي لأطفالهم والتنكيل بهم ومصادرة أراضيهم ومياههم وتشويه تاريخهم وتدمير مستقبلهم وتدميرها لفلسطين وطناً ودولة مستقلـة للفلسطينيين.
وبما أن المحرقة شأن أوروبي ولا علاقة للإسلام والمسلمين أو العرب بها من قريب أو بعيد، فإن هذا الموضوع من المفترض أن لا يعنينا إلا بما يختص بإدانته، ودفع آثاره السلبية عنا إذ لا يجوز أن تكفـر أوروبا عن ذنوبها ضد اليهود من خلال السماح لإسرائيل بخرق كل القوانين والشرائع السماوية والدولية ضد العرب، فالأوربيون هم الذين اضطهدوا اليهود دون وجه حق طوال قرون وبلغ الاضطهاد ذروته في ثلاثينات القرن العشرين.

والنقطة الأخرى التي تعنينا في الموضوع هي أن حرباً صليبية حقيقية بدأت في الغرب ضد الإسلام والمسلمين، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 والتي تتحول يوماً بعد يوم إلى محرقة جديدة ترتكبها قوى أوروبا النازية الجديدة في القرن الواحد والعشرين، ولكن هذه المرة هذه النازية الجديدة ليست ضد اليهود بل هي موجهة ضد المسلمين حيثُ أن الحروب التي شُـنت على المسلمين وما زالت آلة القتل الغربية متآلفة في ارتكاب جرائم الحرب في أفغانستان والعراق وفلسطين وباكستان وللمسلمين المواطنين في دول غربية حيثُ تنتشر السجون السرية التي تشهد اعتقال وتعذيب وقتل المسلمين على «الشبهة» مما يُبرهن دون أدنى شك أن عبارة «الحملة الصليبية» التي استخدمها الرئيس بوش في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر لم تكن «زلـة لسان» بل كانت عنواناً لسياسات تم الشروع في تنفيذها من قِبَل تحالف قوى النازية الجديدة التي تتبناها العديد من القوى السياسية في الدول الغربية. ولا بد اليوم من قرع أجراس الإنذار قبل أن تمضي بوادر هذه المحرقة ضد المسلمين والتي بدأت دون شك بإجراءات واستهدافات تشبه إلى حد كبيرٍ السياسات والمظاهر والإجراءات التي ارتكبتها النازية الأوروبية في ثلاثينات القرن الماضي ضد اليهود ولا ينفع أن تقدم الدول الغربية الاعتذار لاحقاً للمسلمين كما تفعل اليوم لليهود بعد قتل وإذلال وتهجير الملايين منهم خلال السنوات القادمة كما تدل بوادر التضامن الإعلامي والسياسي الأوروبي الواسع في استخدام «حرية التعبير» للإساءة إلى الإسلام والمسلمين ومقدساتهم وقيمهم ونبيهم الكريم عليه الصلاة والسلام.

فبعد الحرب على دول إسلامية بذرائع مختلفة واستمرار الضغوط والتهديدات والعقوبات ضد الواحدة تلو الأخرى من بلاد المسلمين بذريعة أو بأخرى لسلبها حقوقها في الحرية والاستقلال والازدهار تـُشن حملات التشويه والتمييز العنصري الإعلامية والسياسية والقانونية ضد المواطنين من معتنقي الإسلام في الدول الغربية قاطبةً والذين يُزج ببعضهم في السجون السرية والعلنية دون محاكمة بحجة أنـه «مُشتبه فيهم» بينما تنطلق الدعوات من مسؤولين في أوروبا لترحيل بعضهم إلى بلدانهم الأصلية ونزع الجنسية عن بعضهم الآخر وهذه الإجراءات كما يُحذر حتى بعض قادة اليهود في فرنسا: «هي ذاتها التي اتـُخِذَت ضد اليهود عام 1930» «أو لم يلجأ موسوليني وهتلر إلى إسقاط الجنسية عن اليهود؟» يسأل المؤرخ الفرنسي جيرار نويريل ويحذر بأن «الإجراءات التي تتخذ ضد المسلمين في فرنسا اليوم تُذكـر بقوة بمعاملة فرنسا لليهود في ثلاثينيات القرن الماضي». وعندما يصبح العداء للمسلمين اليوم والتمييز ضدهم ورقة في الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة أو الوزارات أو البرلمانات في أوروبا، فإن هذا يرسل رسالة واضحة لا لبس فيها للمتطرفين والنازيين الجدد في الإعلام والسياسة ومواقع العمل والسكن بأن إذلال المسلمين والتمييز ضدهم هو أمر مقبول رسمياً ويحظى بدعم الفئات الحاكمة وقادة أوروبا. فقد بدأت منظمة يمينية «أم أنها نازية جديدة؟» تُسمى «كتلة الهوية» بتوزيع حساء للمشردين يحتوي على لحم الخنزير كي لا يتمكن المسلمون واليهود من تناوله وترافق ذلك مع نشرات تقول «إن لحم الخنزير كان دائماً مكوناً أساسياً في الثقافة والإرث الفرنسيين». كما تم اضطهاد الطالبات المسلمات في فرنسا بذريعة أن غطاء الرأس ليس من مكونات «العلمانية» الفرنسية. وبدأت المجموعات المتطرفة في بلجيكا بفعل الشيء ذاته بتوزيع حساء لحم الخنزير مع نشرات مماثلة.

أما الدنمارك فقد أصبحت البلد الذي يمثـل رأس حربة الكراهية الأوروبية التقليدية للآخر، خاصة ما يتعلق بالشرق، وهي اليوم تشن حملة العداء للإسلام بشكلٍ رسمي في سياساته وعلى أعلى المستويات. ففي التسعينات اعتبر حزب الشعب الدنماركي المسلمين في الدنمارك والذين يمثـلون 4% من السكان «مشكلة مقلقة» ولكن وبعد أحداث سبتمبر، انضمت إلى هذا الحزب أحزاب أخرى وأصبحت مسألة «وجود المسلمين» في الدنمارك قضية انتخابية وركـز الإعلام بشكلٍ كبير على مشاكل المهاجرين المسلمين ليلصق بالإسلام صفة «العنف» و«التطرف» و«المحرمات»، وتتم مناقشة مشاكل اجتماعية للهجرة من زاوية دينية بحتة، وانضمت الملكة إلى جوقة الكراهية بتعبيرها عن القلق من المشكلة التي يمثـلها بعض رعاياها «المسلمون». ونال حزب الشعب الدنماركي جماهيرية من خلال توجيه إهانات متواصلة للمسلمين، ووصفتهم إحدى أعضائه (الحزب) المرشحة لبلدية كوبنهاغن لويس فيريفريت بأنهم «مرض سرطاني في المجتمع الدنماركي». كما قال مارتن هنركسن الناطق باسم حزب الشعب الدنماركي «إن الإسلام منذ بدايته كان حركة إرهابية»، محذراً «من السماح للمسلمين بالترشح لعضوية البرلمان أو المجالس البلدية». ووصف هنركسن من يعتنق الإسلام من الدنماركيين بأنهم «مجرمون أخلاقيون». ويحفل موقع هنركسن بالعداء والإهانة للإسلام. ولدى مناقشة موقعه في جلسة برلمانية، قال إن«انتقاد الإسلام يمثـل السياسة الرسمية لحزبه». والسؤال الذي يوجه لقادة الدنمارك هو: هل كانت تصريحات هتلر وغوبلز وغيرهما من عتاة النازية ضد اليهود واليهودية تختلف حتى بالنص والحرف عن هذه التصريحات الدنماركية الرسمية ضد الإسلام والمسلمين؟ وانطلاقاً من هذا الجو والخلفية، أتت مسابقة جريدة «الياند بوستن» لتنشر رسوماً كاريكاتورية مسيئة إلى نبي الرحمة والسلام صلى الله عليه وسلم. لم يوجه المسلمون يوماً أي إساءة إلى الدنمارك أو النرويج أو فرنسا أو بريطانيا بل على العكس تماماً. كما أن كل هذا لا علاقة له «بحرية الإعلام» و«حرية التعبير»، كما يدعي رئيس وزراء الدنمارك أو وزير خارجية فرنسا، فليس هناك شيء في حرية التعبير يسمح بالإساءة إلى مقدسات الآخرين وقيمهم وتاريخهم، وإلا لماذا أصدرت هذه الدول قوانين تحرم مناقشة المحرقة!

إن الوقائع تشير إلى أن أوروبا تشن «هولوكوست» جديدا منظما ضد المسلمين في كل أنحاء العالم تماماً. وما يحدث للمسلمين في أوروبا اليوم حدث ما يماثله تماماً لليهود في ثلاثينات القرن الماضي. فالمسلمون في الولايات المتحدة وأوروبا يضطرون اليوم إلى تغيير أسمائهم إلى أسماء مسيحية وخلع بعض نسائهم الحجاب ومحو آثار الهوية التي تدل على أنهم مسلمون في وجه حملة عنصرية تستهدفهم جميعاً لكونهم مسلمين. المسألة هي أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم أرسله رب العالمين برسالة المحبة والسلام من قلب الصحراء العربية، ليؤمن به وبرسالته اليوم مليار ونصف المليار من البشر. والسؤال هو: من هم هؤلاء الذين يتجرأون اليوم على الإساءة لشخص ورسالة خاتم الأنبياء محمد (ص)؟ وماذا قدموا للبشرية سوى الحقد والكراهية والإساءة والفتنة بين الشعوب؟ لقد قدم نبينا للبشرية دين الحضارة الغني بقيم الحوار والتعارف والرحمة والتثاقف الذي انعكس على وجود معتنقي الأديان السماوية الأخرى طوال خمسة عشر قرناً من عمر الإسلام داخل المجتمعات الإسلامية دون مشاكل، فالإسلام حفظ لهم حرية العبادة والعقيدة ولم يشهد تاريخ الإسلام حرباً دينية على معتنقي دين أو على عرق أو لون من البشر ولذلك لا يشعرون «بالخجل البالغ»، كما تشعر ميركل، وليست لديهم عقدة الذنب للتكفيرعنها تجاه الشعوب الأخرى التي تبنت الإسلام بإرادتها الحرة. والسؤال الأهم هو هل سيرتكب الغرب مجدداً جرائم هولوكوست من إذلال وقتل وقمع ملايين المسلمين بين ظهرانيه وفي بلدانهم قبل أن يستيقظ بعد خمسين عاماً ليعتذر ويعبر عن«خجله» ؟! وهل قرر متطرفو أوروبا والنازيون الجدد فيها التعبير عن حقدهم الدفين ضد الآخر وارتكاب هولوكوست جديد بحق أتباع ديانة جديدة، معبرين عن حقدهم ضد الإسلام بدعم الجرائم التي ترتكبها إسرائيل من احتلال ومجازر وقتل يومي وعنصرية معادية للعرب؟

لقد ربط نازيو المانيا القدامى اليهودية بالعنف واتهموا اليهود بالإرهاب وشنوا حملات دعائية معادية ضد مقدساتهم وحرياتهم وممتلكاتهم وهو بالضبط ما يرتكبه بعض السياسيين من النازيين الجدد في أوروبا موجهين حقدهم واتهاماتهم بـ«العنف» و«الإرهاب» و«التطرف» للمسلمين ومقدساتهم.

إن أوروبا مطالبة اليوم بإصدار قوانين تمنع الإساءة للإسلام والمسلمين كما أصدرت متأخرة قانوناً يمنع التشكيك في الهولوكوست. كما أن العرب والمسلمين مطالبون بالاجتماع واتخاذ قرار جماعي واستصدار قرار دولي يمنع الإساءة إلى دينهم وإن ضعف الردود الإسلامية تري عدم الفهم لعمق ما يُحاكُ ضد شعوبهم وهويتهم. وما لم يرقى الرد الإسلامي إلى مستوى التحدي الخطير الذي يواجههم فإن الهولوكوست سيستمر ضدهم بالاعتداء على رموزهم ودينهم ومقدساتهم، مما يشكـل أكبر خطر مستقبلي عليهم، وعلى أمن العالم وسلامه
http://www.aawsat.com/leader.asp?sec...925&issue=9932
بقلم الكاتبه بثينه شعبان