في عام 1906 وصلت الأنباء إلى معظم حواضر العالم الإسلامي بأن الشعب الياباني بعد انتصاره على روسيا سيعقد مؤتمرًا كبيرا للمقارنة بين الأديان المختلفة من أجل اختيار أفضلها وأصلحها، حتى يصبح الدين الرسمي للإمبراطورية. اهتمت عدد من الصحف في أنحاء العالم الإسلامي بهذا الخبر الطريف، وكان ممن سمع به وجذب اهتمامه صحفي مصري أزهري هو السيد "علي أحمد الجرجاوي"؛ فكتب في صحيفة "الإرشاد" يدعو شيخ الأزهر وعلماء الإسلام لتشكيل وفد للمشاركة في هذا المؤتمر الذي يمكنهم من خلاله إقناع الشعب الياباني وإمبراطوره بالإسلام؛ وهو ما من شأنه إذا حدث قيام حلف إسلامي قوي يجمع اليابان وربما الصين أيضا مع السلطنة العثمانية؛ فيعود للإسلام مجده القديم.

بُح صوت الجرجاوي في دعوته للاهتمام بهذا المؤتمر، ولما لم يجد استجابة أعلن عزمه على السفر بنفسه لأداء هذا المهمة، وبالفعل كتب ذلك في آخر عدد من صحيفته بتاريخ 26 يونيو 1906؛ حيث قام بإغلاقها بعد ذلك، وبدأ في إعداد نفسه للسفر، فعاد إلى بلدته "أم القرعان" في مركز "جرجا" بصعيد مصر، وباع خمسة أفدنة من أرضه لينفق منها على رحلته، واستقل الباخرة من ميناء الإسكندرية قاصدًا اليابان، وغاب أكثر من شهرين، ثم عاد بأخبار وقصص أغرب من الخيال نشرها في كتاب مثير بعنوان "الرحلة اليابانية"، الذي يمكن اعتباره من دون مبالغة من أطرف كتب الرحلات في القرن العشرين.

وكتاب "الرحلة اليابانية" الذي نشره "الجرجاوي" عقب عودته من اليابان، وصدرت طبعته الأولى سنة 1907 على نفقته الخاصة، هو أول كتاب في العالم العربي يكتبه صاحبه عن اليابان التي تصاعد اهتمام العالم الإسلامي بها عقب انتصارها في حربها مع روسيا، ولكن من خلال زيارة واقعية لها، فقد سبق ونشر الزعيم الوطني المصري مصطفى كامل كتابا بعنوان "الشمس المشرقة" سنة 1905 يشيد فيه بانتصار اليابان كأمل لكل الشعوب المستضعفة للتخلص من نير الاستعمار، لكنه لم يكن قد زارها من قبل.

وإذا كانت المصادر التاريخية لا تذكر قبل "الجرجاوي" رحالة مصريا آخر زار اليابان، بما يؤكد صحة ادعائه في مقدمة كتابه عن الرحلة بأنها رحلة أول مصري وطئت قدمه اليابان منذ قديم الزمان، فإن بداية العلاقات بين العالم العربي واليابان ما زالت غير معروفة على وجه التحديد إلى الآن، وإن كانت المصادر التاريخية تؤكد أن رحلة "الجرجاوي" من أوائل الرحلات التي دشنت تلك العلاقات.

والشيخ علي الجرجاوي من خريجي الأزهر الشريف، لكنه عمل بالصحافة طوال عمره؛ إذ أصدر في الإسكندرية صحيفته "الإرشاد" سنة 1899، ثم نقل إصدارها للقاهرة حتى أغلقها عندما بدأ رحلته لليابان، وعقب عودته عاد للعمل بالصحافة، فأصدر جريدة "الأزهر المعمور" في 20 إبريل سنة 1907، واستمر في العمل بالصحافة حتى وفاته سنة 1961.

ورغم أنه -كما يبدو من كتابه- كان من أنصار السلطان عبد الحميد الثاني، ومن الداعين لفكرة "الجامعة الإسلامية"، فإنه يمكن اعتباره من الأزهريين الإصلاحيين الذين حملوا همَّ النهضة، وإصلاح التعليم، وإشاعة أجواء الحرية، وخاصة حرية الصحافة، يظهر ذلك بوضوح من تفاصيل رحلته؛ فلم يدخل بلدًا إلا وقد تحدث عن أوضاع التعليم فيه، وأجرى مسحا عن الصحافة الصادرة به، وما تمتع به من حرية، أو يواجهها من قهر ومصادرة، وكان يبدو ناقما على جمود علماء الأزهر، وتقاعسهم عن أداء وظيفتهم الاجتماعية.

والجرجاوي "صعيدي" يمتلك روح المغامرة ولديه حس الرحالة، إن اقتنع بالفكرة حتى سخّر جريدته للدعوة إليها، ولما لم يجد من يستمع إليه قرر أن يخوض التجربة بنفسه وعلى نفقته، فلم يتردد في بيع جزء من أرضه للإنفاق على الرحلة، ويبدو من تعليقاته وإلحاحه الدائم على الإشارة إلى أنه تكفل بكل مصروفات رحلته.

وفي كتابه يتوقف أمام كل بلد ينزل بها؛ فيذكر طرفًا من تاريخها وأخبار أهلها وأحوال المسلمين بها، كما يذكر بعضًا من طرائفها أو عاداتها، ويجذبه دائمًا ملابس أهل البلاد، وأحوال الصحف فيها، والمؤسسات التعليمية، وهو مغرم بذكر تاريخ كل مدينة، وخاصة ما يتعلق بدخول الإسلام وتعداد المسلمين بها.

ويذكر "الجرجاوي" أنه ما إن وصل إلى "يوكوهاما" حتى وجد بانتظاره عالميْن مسلميْن هما: الحاج "مخلص محمود الروسي"، و"السيد سليمان الصيني"، اللذين اصطحباه في رحلته في اليابان، والتي استمرت -كما يذكر- اثنين وثلاثين يومًا كاملا، ويشير إلى أنه مكث في "يوكوهاما" يومين للاستراحة من عناء الرحلة، قضاهما في فندق بجوار الإدارة البحرية، ثم انطلق منها بعد ذلك إلى العاصمة اليابانية (طوكيو) للدعوة إلى الدين الإسلامي، والمشاركة في مؤتمر الأديان الذي حضر إليه خصيصًا.

والمثير أن الجرجاوي يقدم في كتابه وصفًا دقيقًا وتفصيليًا لطوكيو بما يوحي -لمن لم يزرها- بأنه نزل بها وعاش بها فترة لا بأس بها من الزمن، فهو يصف مبانيها وشوارعها وإنارتها والعائلات الكبيرة بها ومكتبتها الوحيدة التي لا تتجاوز محتوياتها مائتي ألف مجلد فقط، كما يقدم نبذة تاريخية عنها، ويغوص الجرجاوي في تاريخ اليابان؛ فيعرج على الأساطير التي يتداولونها حول أصول شعبهم والتي تجعلهم يعتقدون أنهم ليسوا من الجنس البشري، كما يستعرض علاقة الشعب الياباني بإمبراطوره الذي يطلق عليه لقب "الميكادو".. ويصوره في طابع أقرب إلى الأسطورة.

وما إن استقر "الجرجاوي" وصاحباه حتى بحثوا عن دار تؤويهم؛ فتكون مكانًا للسكن ومركزًا للدعوة إلى الإسلام، فاستأجروا -كما يذكر في رحلته- منزلا من تاجر ياباني، وبمجرد أن أسس "الجرجاوي" وزميلاه الجمعية بدأ الدعوة إلى الإسلام من مقر الجمعية؛ حيث كتبوا خطبة فيها تعريف وافٍ بالإسلام باللغة الإنجليزية، ودعوا الناس إلى مقر الجمعية، حيث كان "جازييف" -أول ياباني أسلم على يده- يتولى أمر ترجمة الخطبة إلى اليابانية.

وكان رد الفعل -كما يذكر الجرجاوي- ممتازًا؛ فقد أقبل المئات على الإسلام، وكان عدد المترددين على الجمعية يتضاعف يومًا بعد يوم، وخلال ثمانية عشر لقاءً نظمها الجرجاوي للدعوة إلى الإسلام في مقر جمعيته أسلم على يديه (والعهدة عليه) اثنا عشر ألفا من اليابانيين في مدة 32 يومًا هي عمر وجوده في اليابان، ويذكر منهم أسماء ثلاثة -غير جازييف"- هم: "أترالكييو"، و"إنساكيويو"، و"كوفاري"، ويقول: إن ذكر جميعهم يحتاج لمجلد ضخم.

ويذكر "الجرجاوي" أن سبب المؤتمر -كما تأكد منه بنفسه- هو أن اليابانيين بعد أن انتصروا على روسيا في الحرب رأوا أن معتقداتهم الأصلية لا تتفق مع عقلهم الباهر ورقيهم المادي والأدبي، فاقترح عليهم الكونت "كاتسورة" رئيس الوزراء إرسال خطابات رسمية إلى الدولة المتدينة ليرسلوا إليهم العلماء والفلاسفة والمشرعين وكل أصحاب الديانات؛ ليجتمعوا في مؤتمر ديني يتحدث فيه أهل كل دين عن قواعد دينهم وفلسفته، ثم يختار اليابانيون بعد ذلك ما يناسبهم من هذه الأديان، فوافقهم "ألميكادو" على ذلك، فأرسلوا إلى الدولة العلية العثمانية وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا وأمريكا، فأرسلت إليهم هذه الدول بمندوبين عنها؛ حيث أرسلت الدول العثمانية وفدًا إسلاميًا، في حين أرسلت بقية الدول وفودًا مسيحية من كل المذاهب المسيحية.

ويشير إلى أن أولى جلسات المؤتمر بدأت في الأول من مارس 1906 بحضور كل قيادات الإمبراطورية اليابانية، وينقل إعجاب اليابانيين بالإسلام، لكنه يؤكد أن الجلسة الثانية والختامية للمؤتمر لم تستقر على نتيجة؛ إذ أعلن رئيس الوزراء ختام المؤتمر دون الاستقرار على دين بعينه؛ إذ إن كل مجموعة من اليابانيين استحسنت دينًا دون الاتفاق على واحد منها. ورغم ذلك فهو يؤكد أن غالبية من حضروا المؤتمر من اليابانيين وجدوا في أنفسهم ميلا للإسلام الذي أحسن علماؤه ومندوبو الدولة "العلية" عرضه وبيان ما فيه من قواعد ومبادئ يتفق معها العقل والمنطق.

وفي وصفه للرحلة اليابانية يسهب في الحديث عن الشعب الياباني وشجاعته في الحرب الروسية وعلو همته، ويشيد بوطنيته وتضحياته من أجل حرية وطنه، كما يمتدح المرأة اليابانية والبوليس الياباني والصحافة والتعليم والخطباء والقصاصين وكل شيء في اليابان حتى أعيادهم وعوائدهم في الجنازات والمناسبات المختلفة.

وبعد، هل سافر الجرجاوي حقًا إلى اليابان كما يذكر في كتابه، أم أنها كانت رحلة نسجها خيال أديب وصحفي مغامر عُرف بافتتانه بكتب الرحالة والمستكشفين؟!

من يقرأ تفاصيل الرحلة لا بد أن يثور في ذهنه هذا التساؤل، فضلا عن أن فكرة المؤتمر الذي سافر لحضوره نفسها أشبه بالخيال!

الرحلة مليئة بالمبالغات الواضحة التي تقترب من الأساطير الشائعة في القصص الشعبي، ربما كان أكثرها وضوحًا ما يذكره من أنه قد أسلم على يديه اثنا عشر ألفًا من اليابانيين في اثنين وثلاثين يومًا فقط قضاها في بلادهم، في حين أن بعض التقديرات الحالية لمسلمي اليابان لا تزيد عن نفس الرقم بعد ما يقرب من قرن، ولا يقل عنها مبالغة وربما أسطورية فكرة أن الإمبراطور اقتنع بالإسلام ولم يمنعه من إعلان إسلامه سوى خوفه من تأثير ذلك على شعبه، وهي قصة أشبه بحواديت ألف ليلة وليلة، كما أن من يقرأ تفاصيل المؤتمر يتيقن له أنه لم يحضر، وإنما ينقل عن أوراقه وأعماله على أحسن الأحوال.

د. صالح السامرائي رئيس المركز الإسلامي بطوكيو وقد عاش في اليابان أكثر من ربع قرن، يؤكد في كتابه عن تاريخ الدعوة الإسلامية في اليابان أن وصف "الجرجاوي" لليابان وذكره لأسماء الناس والمدن بها كالذي لم تطأ قدماه أرضها!!

ولكن كل المصادر التاريخية تؤكد أن "الجرجاوي" أقلع فعلا من مصر في رحلة إلى اليابان؛ وهو ما يعني أنه سافر فعلا، ولكن ربما إلى بلد آخر غير اليابان!.. ويعزز هذا الرأي ما نسب للشيخ "مولوي بركة الله" الداعية الهندي في مجلة "الأخوة الإسلامية" 1910؛ حيث ذكر أن عربيًا وصل "هونج كونج"، ومنها ذهب إلى "تايوان"، فظن أنه في اليابان، ورأى أعدادًا كثيرة من المسلمين الصينييين فظن أنهم يابانيون تحولوا للإسلام، لكنه لم يذكر "الجرجاوي" بالاسم، وقريب من هذا المعنى يذكره "عبد الرشيد إبراهيم" في كتابه "عالم إسلام" دون أن يذكر "الجرجاوي" صراحة؛ وهو ما يرجح احتمال أن "الجرجاوي" لم يذهب لليابان أصلا.

لكن قراءة دقيقة في المصادر التاريخية تكشف عن أن ما ذكره "الجرجاوي" والملابسات المحيطة برحلته ربما يعتريها بعض الشكوك، لكنه لا يخلو من الحقيقة؛ فخبر المؤتمر الذي ذكر الجرجاوي أنه سافر إلى اليابان لحضوره ذكرته صحيفة Chugai koho اليابانية في عدد 12 مايو 1906، وصحيفة Japan times في عدد 8 مايو من نفس العام، كما أشارت إليه أيضًا جريدة "إقدام" الصادرة في إستانبول بتاريخ 17 مايو 1906 عن مراسل جريدة Rappel الفرنسية بطوكيو، لكنه -كما تشير هذه الصحف- كان مؤتمرًا للحوار والتعاون بين الأديان، لا كما ذكر "الجرجاوي" من أنه أقيم بطلب من الإمبراطور لبحث أنسب الأديان وأفضلها للشعب الياباني!!

أما بالنسبة لوصول "الجرجاوي" إلى اليابان، فإن الباحث الياباني "عبد الرحمن سوزوكي" أكد أنه زار 1982 فندق "جراند هوتيل" الذي قال "الجرجاوي": إنه نزل به في رحلته إلى يوكوهاها أمام إدارة الميناء، فوجد اسم "الجرجاوي" فعلا في سجلات الفندق القديمة، ورأى ختمه، وإن كان بعض الباحثين زار الفندق بعد ذلك (1993)، فلم يتأكد من صحة هذا القول؛ نظرًا لأن ملكية الفندق تغيرت، وضاعت معها السجلات القديمة.

ويذكر السيد "عبد الرشيد إبراهيم" في كتابه (عالم إسلام) أنه قابل الكونت (okuma) وزير خارجية اليابان الأسبق ومؤسس جامعة "واسيدا"، فذكر أنه جاءه مصري يريد أن يجعل الإمبراطور مسلمًا، ولا يدري هل وُفِّق في مقابلة الإمبراطور أم لا؟

ويبدو أن "الجرجاوي" هو هذا المصري على أغلب الظن؛ لأنه لم يُعرف مصري آخر سافر لليابان في هذه الفترة، كما ليس هناك -بتعبير صالح السامرائي- عربي له طموح في إقناع إمبراطور اليابان بالإسلام سوى "الصعيدي" السيد "علي أحمد الجرجاوي".


منقول عن اسلام اون لاين