بسم الله الرحمن الرحيم
بابا روما ، وصهينة النصرانية
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الزيارة التي يقوم الآن بها بابا روما إلى القدس وفلسطين ليقدم فيها اعتذاره التاريخي عن أعمال النازية مع اليهود. تأتي هذه الزيارة تتويجاً لخمس وثلاثين عاماً أمضاها هذا البابا في خدمة الصهيونية، واستطاع فيها أن يصهين النصرانية، وأن يزرع فيها عقائد جديدة تختلف جذرياً عن النصرانية الأولى، وخاصة في موقفها من اليهود.
فقد بدأ هذا البابا أول مشروعه الصهيوني منذ تولي البابوية في تبرئة اليهود المعاصرين من دم المسيح، وجاء قراره هذا ليخالف العقيدة الأساسية التي تقوم عليها النصرانية، بل هي أم عقائدهم.
وهي أن اليهود هم الذين سعوا لقتل المسيح عليه السلام، واتهموه صغيراً بأنه مولود من الزنا، واتهموه كبيراً بأنه مبتدع مهرطق، كافر، وأنه يستحل القتل، وبهذا حكموا عليه به، وسلموه إلى الحاكم الروماني ليقتله ويصلبه، وأنه لما حاول ببلاطس الروماني أن يتهرب من قتله هددوه بالقيصر وأنه لما قال لهم: (أنا برئ من دم هذا البار فانظروا أنتم في الأمر!!) أجابوه جميعاً قائلين: (ليكن دمه علينا وعلى أولادنا) (انجيل متى27).
وهذا نص الانجيل بلفظه العربي:
"يسوع أمام ببلاطس: ووقف يسوع أمام الحاكم، فسأله الحاكم: (أأنت ملك اليهود؟) أجابه أنت قلت!) وكان رؤساء الكهنة والشيوخ يوجهون ضده الاتهامات وهو صامت لا يرد فقال له ببلاطس: (أما تسمع ما يشهدون به عليك؟) لكن يسوع لم يجب الحاكم ولو بكلمة، حتى تعجب الحاكم كثيراً.
وكان من عادة الحاكم في كل عيد أن يطلق لجمهور الشعب أي سجين يريدونه. وكان عندهم وقتئذ سجين مشهور اسمه باراباس، ففيما هم مجتمعون، سألهم ببلاطس: (من تريدون أن أطلق لكم باراباس أم يسوع الذي يدعى المسيح ؟) إذ كان يعلم أنهم سلموه عن حسد، وفيما هو جالس على منصة القضاء أرسلت إليه زوجته تقول (إياك وذلك البار! فقد تضايقت اليوم كثيراً في حلم بسببه) ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع أن يطالبوا بإطلاق باراباس وقتل يسوع، فسألهم ببلاطس: (أي الاثنين تريدون أن أطلق لكم) أجابوا: (باراباس) فعاد يسأل: (فماذا فعل يسوع الذي يدعى المسيح) أجابوا جميعاً: (ليصلب!) فسأل الحاكم: (وأي شر فعل؟) فازدادوا صراخاً (ليصلب) فلما رأى ببلاطس أنه لا فائدة، وأن فتنة تكاد أن تنشب بالأحرى، أخذ ماء وغسل يديه أمام الجمع وقال: (أنا برئ من دم هذا البار فانظروا أنتم في الأمر) فأجاب الشعب (ليكن دمه علينا وعلى أولادنا) فأطلق لهم باراباس وأما يسوع فجلده، ثم سلمه إلى الصلب". (انجيل متى 27).
ومنذ اليوم الذي كتب فيه الانجيل ولم تتغير هذه القضية عند النصارى وهي أن اليهود كفار قد سعوا في قتل المسيح بل قتلوه وصلبوه حسب اعتقاد النصارى وادعاء اليهود أنفسهم منذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا. قال تعالى عنهم في القرآن الكريم: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم أنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله} فهذه دعواهم وتبجحهم وافتخارهم بهذا الأمر.
ولم يطرأ قط على عقائد اليهود في المسيح منذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا أي تغيير بل مازال المسيح عندهم ابن زنا، مهرطق كاذب مدع للنبوة وليس بنبي..
فأتى البابا وهو رأس الكنيسة الغربية كنيسة روما التي تمثل نحو نصف نصارى العالم ليعلن أن يهود اليوم غير يهود الأمس وأنهم برءاء من دم المسيح، هذا تبديل كامل للدين، وهرطقة عظيمة تنسف العقيدة النصرانية من أساسها.. ثم إن هذه التبرئة لا تقوم على أي أساس أخلاقي إذ رفع التهمة عن المجرم دون سبب ليس له من تفسير إلا مناصرة الإجرام، فاليهود الذين سعوا في قتل المسيح مجرمون، وأبناؤهم الذين جاءوا على إثرهم واعتقدوا عقائدهم وسبوا المسيح بما سبه آباؤهم، ومازالوا يفتخرون بقتله وصلبه -حسب زعمهم- هم مجرمون مثل آبائهم.
ومع هذا فقد جاء هذا البابا وافتتح مشروعه الصهيوني بهذا التبديل في عقائد النصرانية خدمة لليهود فإن تبرئة اليهود المعاصرين من جريمة آبائهم السابقين لا تنبني على أي أساس أخلاقي أو ديني، وإنما كانت من أجل التمهيد لإزالة ما في نفوس النصارى بل ما في عقائدهم نحو اليهود، لتبدأ حقبة جديدة تصبح النصرانية فيها ديناً في خدمة اليهودية.. وهذه هي المهمة التي قام بها هذا البابا منذ توليته.
وقد استغل اليهود هذه الحقبة أيما استغلال فكانت الدعوة اليهودية في أوساط الشعوب النصرانية أنهم أمة مظلومة مهضومة تحتاج إلى وطن تسكنه، وأن هذا الوطن هو الأرض التي بشرت بها التوراة التي يؤمن بها اليهود والنصارى، وأنهم يجب أن يتعاونوا في قتل أعداء النصارى واليهود الذين اغتصبوا هذا الوطن هذه المدة الطويلة من الزمان.
ثم كانت الفرية العظمى التي نشرها اليهود وأقرها البابا وتبنتها الكنيسة الغربية، وهي أن عودة المسيح إلى الأرض مرهونة بأن تكون القدس بيد اليهود، وأن بناء الهيكل الذي بشر به المسيح بعد عودته لن يكون إلا إذا أصبحت القدس بأيدي اليهود.
وهذه الفرية تكذب ما جاء به الانجيل، وما لعن به المسيح عيسى بن مريم اليهود إلى يوم القيامة.. فقد قال لهم: (الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! فإنكم تبنون قبور الأنبياء وتزينون مدافن الأبرار، وتقولون: لو عشنا في زمن آبائنا لما شاركناهم في سفك دم الأنبياء فبهذا تشهدون على أنفسكم بأنكم أبناء قاتلي الأنبياء! فأكملوا ما بدأه آباؤكم ليطفح الكيل!
أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تفلتون من عقاب جهنم لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء ومعلمين، فبعضهم تقتلون وتصلبون، وبعضهم تجلدون في مجامعكم، وتطاردونهم من مدينة إلى أخرى، وبهذا يقع عليكم كل دم زكي سفك على الأرض: من دم هابيل البار إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح الحق أقول لكم: إن عقاب ذلك كله سينزل بهذا الجيل.
يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تريدوا! ها إن بيتكم يترك لكم خراباً! فإني أقول لكم إنكم لن تروني من الآن، حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب.
علامات نهاية الزمان:
ثم خرج يسوع من الهيكل، ولما غادره تقدم إليه تلاميذه، ولفتوا نظره إلى مباني الهيكل فقال لهم: أما ترون هذه المباني كلها؟ الحق أقول لكم: لن يترك هنا حجر فوق حجر إلا ويهدم). (انجيل متى 24).
إن أعظم جريمة يتوج بها كاهن روما الأعظم (بولس الثاني) ويختم بها حياته في خدمة الصهيونية هو هذا البيان الذي صدر باسم الفاتيكان في 16/3/1998، والذي تم إعداده في عشر سنوات والذي يجعل ما تعرض له اليهود خلال الحرب العالمية الثانية هو أعظم أحداث القرن الماضي، وأن على كل نصارى العالم الاعتذار لليهود والتكفير عن ذنبهم تجاههم.
ويدعو البابا الذي صدر البيان باسم الكنيسة الكاثوليكية قائلاً: (في التطلع إلى مستقبل العلاقات بين المسيحيين واليهود ندعو في بادئ الأمر إخواننا وأخواتنا الكاثوليك إلى تجديد اطلاعهم وإدراكهم للجذور العبرية لإيمانهم، ونسألهم أن يتذكروا دوماً أن يسوع كان من سلالة داود وأن مريم العذراء والرسل ينتمون إلى الشعب اليهودي وأن الكنيسة تستمد عونها من جذور شجرة الزيتون الطيبة التي طعمت بجذوع الزيتون البري لغير اليهود.
وأن اليهود هو أخوتنا العزيزون كثيراً بل في الواقع هم بمعنى ما "اخوتنا الأكبر سناً".
في نهاية هذه الألفية ترغب الكنيسة الكاثوليكية في التعبير عن أسفها إزاء الأخطاء والهفوات التي قام بها أبناء وبنات الكنيسة في جميع العصور، إنه فعل توبة (Teshuva) ما دمنا كأبناء كنيسة مرتبطين بالخطايا كما نحن مرتبطون بأفضال كل أبنائنا، إن الكنيسة تنظر باحترام عميق ورحمة صادقة إلى تجربة الإبادة -المحرقة- التي عانى منها الشعب اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية، وليست المسألة مجرد كلمات بل إنها بالفعل تعبير عن التزام وثيق، أننا قد نخاطر بتسبب موت ضحايا أبشع عمليات القتل وأفظعها، مرة أخرى لم نملك الرغبة الأكيدة والمتقدة بالعدالة، وإن لم نلزم أنفسنا لأن نضمن عدم غلبة الشر على الخير أبداً كما حدث بالنسبة إلى ملايين الأطفال من الشعب اليهودي.. فالإنسانية لن تسمح بحدوث كل هذا مرة جديدة.
إننا نصلي لأن يؤدي أسفنا للمأساة التي عانى منها الشعب اليهودي في هذا القرن إلى قيام علاقة جديدة مع الشعب اليهودي، ونتمنى أن يتحول إدراك خطايا الماضي إلى إرادة راسخة أكيدة لبناء مستقبل جديد لا يكون فيه بعد الآن عداء لليهودية بين المسيحيين، أو عداء للمسيحية بين اليهود.. وإنما احترام متبادل مشترك بما يناسب أولئك الذين يعبدون خالقاً واحداً ورباً واحداً ولديهم أب واحد في الإيمان هو إبراهيم.
أخيراً ندعو كل الرجال والنساء ذوي الإرادة الطيبة التأمل عميقاً في معنى المحرقة، وأن الضحايا من قبورهم والناجين من خلال الشهادة الحية لما عانوه أصبحوا اليوم صوتاً عالياً يجذب انتباه البشرية جمعاء، ونتذكر هذه التجربة الرهيبة بأن نصبح مدركين تماماً للعبرة التي تتضمنها: أن البذور الفاسدة للعداء لليهودية والعداء للسامية يجب ألا نسمح لها بعد الآن أن تتجذر في قلب أي بشري). ( الكاردينال ادوارد ادريس كاسيدي، والأب بيار دوبريه، والأب ريمي هوكمان 16/3/1988).
وهذا الاعتذار الذي يفعله البابا ليس دينياً ولا أخلاقياً، فإن اليهود ليسوا وحدهم من عانى من بطش النازية، وإنما عادى هتلر والنازيون جميع الأعراق وخاضوا حرباً مع الجميع وعداء هتلر لليهود كان عداءاً سياسياً، ولم يكن دينياً، فإن هتلر لم يعاد اليهود بسبب نصرانيته لأنه كان لا دينياً علمانياً ونظريته في تفوق الجنس الآري على كافة الأجناس ليست مستقاة من الدين، ثم إنه عادى اليهود لدورهم الكبير في هزيمة ألمانيا في الحرب الأولي وعملهم على تفتيتها وتدميرها، وليس لأنهم يهود، فما دخل البابا أن يعتذر عن خطأ إن كان هذا خطأ لم ترتكب باسم المسيح ولا باسم النصرانية!! ولقد كان الاعتذار عن الحروب الصليبية، والإجرام النصراني، وحروب الإبادة للمسلمين، ومحاكم التفتيش التي صنعت باسم المسيح أولى بالاعتذار من ذنب لم ترتكبه النصرانية.
ثم إن قوله (إن يسوع كان من سلالة داود وإن مريم العذراء والرسل ينتمون إلى الشعب اليهودي) كلمة حق أريد بها باطل، فيسوع هو من سلالة داود نعم، ولكن اليهود جعلوه ابن زنا، واتهموا أمه العذراء البتول!! وما زالوا على هذا المعتقد الخبيث. فهل يظلون مع ذلك إخوة للنصارى في الدين؟!! ما هذا الكذب والإفك وتبديل الدين الذي يمارسه هذا الكاهن الأعظم!! خدمة لليهود وصهينة للنصرانية!! وعداءاً للإسلام.
ونقول للبابا: فسر لنا كيف يعبد النصارى واليهود إلهاً واحداً، والحال أن المسيح ابن مريم الذي جعلتموه ابن الله مع ما اسميتموه بالأب وروح القدس إلهاً واحداً، هذا المسيح هو عند اليهود في كل عصورهم وإلى اليوم ابن زنا، ومقالتهم هذه في مريم وابنها عليهما السلام هي هي لم تتغير. أما أن النصارى جميعاً واليهود أبوهم إبراهيم فكذب، فلا إبراهيم عليه السلام أباً لكل النصارى في النسب ولا هو لليهود أب في الملة والدين، بل قد قال المسيح لليهود الذين قالوا أبونا هو إبراهيم: (لو كنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم ولكنكم تسعون إلى قتلي وأنا إنسان كلمتكم بالحق الذي سمعته من الله وهذا لم يفعله إبراهيم). (انجيل يوحنا 8).
لقد ارتكب البابا جناية عظمى على النصرانية، وجعل الكنيسة الكاثوليكية في خدمة الصهيونية الذين كانوا وما زالوا أشد الناس عداوة للكنيسة.
واعتذار البابا لليهود عن الذنب الذي لم ترتكبه الكنيسة اعتذار في غير موقعه. واستنكافه أن يعتذر للمسلمين عن الجرائم الكبرى التي ارتكبتها الكنيسة مع المسلمين في حروبها الصليبية على مدى ثلاثمائة سنة.
وفي إبادتهم جميع المسلمين في الأندلس في ظل ما عرف بمحاكم التفتيش. استنكاف البابا أن يعترف بذلك جرم آخر في حق الكنيسة.
لقد أسقط البابا (بولس الثاني) الكنيسة الغربية إلى الأبد.