رأيت إبليس قد احتال بفنون الحيل‏.‏
على الخلق وأمال أكثرهم عن العلم الذي هو مصباح
السالك فتركهم يتخبطون في ظلمات الجهل وشغلهم بأمور الحس ولا يلتفتون إلى مشورة
فإذا ضاق بأحدهم عيشه أو نكب اعترض فكفر‏.‏
فمنهم من ينسب ذلك إلى الدهر والدنيا لا يفعلان وإنما هو عيب للمقدر‏.‏
ومنهم من يخرجه الأمر إلى جحد الحكمة فيقول‏:‏ أي فائدة في نقض المبنى‏.‏
وزعم بعضهم أنه لا يتصور عود المنقوض وأنكروا البعث‏.‏
ويقولون ما جاء من ثم أحد‏.‏
ونسوا أن الوجود ما انتهى بعد ولو خلفنا لصار الإيمان بالغيب عياناً ولا يصلح أن يدل على
الأحياء بالأحياء‏.‏
ثم نظر إبليس فرأى في المسلمين قوماً فيهم فطنة فأراهم أن الوقوف على ظواهر الشريعة حالة
يشاركهم فيها العوام‏.‏
فحسن لهم علوم الكلام وصاروا يحتجون بقول بقراط وجالينوس
وفيثاغورس‏.‏
وهؤلاء ليسوا بمتشرعين ولا تبعوا نبينا صلى الله عليه وسلم وإنما قالوا بمقتضى ما سولت لهم
أنفسهم‏.‏
وقد كان السلف إذا نشأ لأحدهم ولد شغلوه بحفظ القرآن وسماع الحديث فيثبت الإيمان في
قلبه‏.‏
فقد توانى الناس عن هذا فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الأوائل وينبذ أحاديث الرسول
وأصحاب الحديث عندهم يسمون حشوية‏.‏
ويعتقد هؤلاء أن العلم الدقيق علم الطفرة والهيولي والجزء الذي لا يتجزأ‏.‏
ثم يتصاعدون إلى الكلام في صفات الخالق فيدفعون ما صح عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بواقعاتهم‏.‏
فيقول المعتزلة إن الله لا يرى لأن المرئي يكون في جهة ويخالفون قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم‏:‏ ‏"‏ إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته ‏"‏‏.‏
فأوجب هذا الحديث إيثار
رؤيته وإن عجزنا عن فهم كيفيتها‏.‏
وقد عزل هؤلاء الأغبياء عن التشاغل بالقرآن وقالوا مخلوق فزالت حرمته من القلوب‏.‏
وعن السنة وقالوا أخبار آحاد‏.‏
وإنما مذاهبهم السرقة من بقراط وجالينوس‏.‏
وقد استفاد من تبع الفلاسفة أنه يرفه نفسه عن تعب الصلاة والصوم وقد كان كبار العلماء
يذمون علم الكلام حتى قال الشافعي‏:‏ حكمي فيهم أن يركبوا على البغال ويشهروا ويقال‏:‏ هذا
جزاء من ترك الكتاب والسنة واشتغل بالكلام‏.‏
وقد آل بهم الأمر إلى أن اعتقدوا أن من لم يعرف تحرير دليل التوحيد فليس بمسلم‏.‏
فالله الله من مخالطة المبتدعة‏.‏
وعليكم بالكتاب والسنة ترشدوا‏.‏
رأيت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان وكان القدماء يحذرون من ذلك قال الفضيل‏:‏
أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة‏.‏
ودخلوا على رجل من السلف فقالوا‏:‏ لعلنا شغلناك فقال‏:‏ أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة
لأجلكم‏.‏
وجاء رجل من المتعبدين إلى سري السقطي فرأى عنده جماعة فقال‏:‏ صرت مناخ البطالين
ثم مضى ولم يجلس‏.‏
ومتى لان المزور طمع فيه الزائر فأطال الجلوس فلم يسلم من أذى‏.‏
وقد كان جماعة قعوداً عند معروف فأطالوا فقال‏:‏ إن ملك الشمس لا يفتر في سوقها أفما
تريدون القيام‏.‏
وممن كان يحفظ اللحظات عامر بن عبد قيس قال له رجل‏:‏ قف أكلمك قال‏:‏ فأمسك
الشمس‏.‏
وقيل لكرز بن وبرة‏:‏ لو خرجت إلى الصحراء فقال‏:‏ يبطل الزوجار‏.‏
وكان داود الطائي يستف الفتيت ويقول‏:‏ بين سف الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية‏.‏
وكان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله تعالى فقال إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج
وأوصى بعض السلف أصحابه فقال‏:‏ إذا خرجتم من عندي فتفرقوا لعل أحدكم يقرأ القرآن في
طريقه‏.‏
ومتى اجتمعتم تحدثتم‏.‏
واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة فإن في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال‏:‏ من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة‏.‏
فكم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل وهذه الأيام مثل المزرعة فكأنه قيل
للإنسان‏.‏
كلما بذرت حبة أخرجنا لك ألف كر فهل يجوز للعاقل أن يتوقف في البذر
ويتوانى‏.‏
والذي يعين على اغتنام الزمان الانفراد والعزلة مهما أمكن والاختصار على السلام أو حاجة
مهمة لمن يلقى‏.‏
وقلة الأكل فإن كثرته سبب النوم الطويل وضياع الليل‏.‏
ومن نظر في سير السلف وآمن بالجزاء بان له ما ذكرته‏.‏