بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،


تعتبر اللغة العربية من اكثر اللغات اتساعا وفصاحة وبلاغة. كما تعتبر من اكثر اللغات بياناً ووضوحا. كيفَ لا وهي التي نزل القرآن الكريم بها وزادها بلاغة وبيانا اكثر مما كانت عليه؟
وقديما قالوا "اختيار المرء قطعة من عقله"، وعلى هذا فن اختيار الالفاظ والكلمات يدل على فصاحة وبراعة منتقيها.


يقول البحتري في وصف الالفاظ البليغة:

في نظام من البلاغةِ ما شَ . . . ك أمْرُؤٌ أنَّهُ نِظَامُ فَرِيدِ
حُزْنَ مُسْتَعْمَلَ الكلامِ اختياراً . . . وتَجَنّبْنَ ظُلْمَةَ التَّعْقِيدِ
وَرَكِبْنَ اللفظَ القريب فأدرك . . . نَ به غايةَ المُرادِ البَعِيدِ


ونحن هنا نورد بعضاً من مقتطفات البلاغة علنّا نوفق فيها الى حُسن الاختيار نذكر منها ان شاء الله ما استعذبناه نثرا وشعراً
وليس بعد ذكر الله تعالى بافضل من اقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وما حوته من صنوف البلاغة والبيان.


قال صلى الله عليه وسلم" الحلاَلُ بيِّن ، والحرام بيّن ، وبينهما أمورٌ مشتبهات ، فمن تركها كان أوْفَى لدينه وعِرْضِه ، ومن واقعها كان كالراتع حول الحمَى ، أَلا وإنَ لكل ملك حِمًى ، ألا وإنّ حمى اللّه مَحارمه " .

ومما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله لعدي بن حاتم:
"دخل عديّ بن حاتم على عمَر ، فسلّم وعمرُ مشغول ، فقال : يا أميرَ المؤمنين ، أنا عديّ بن حاتم ؛ فقال : ما أعْرَفَني بك آمنتَ إذ كفروا ، ووفيتَ إذ غَدَرُوا ، وعرفتَ إذ أنكروا ، وأقبلتَ إذ أدْبَرُوا وقال رجل لعمر : مَن السيد ؟ قال : الجواد حين يُسْأَل ، الحليم حين يُسْتجهَل ، الكريم المجالسةِ لمن جالَسه ، الحسَن الْخُلُقِ لِمَنْ جاوره" .

وقال رضي اللّه عنه : ما كانتِ الدنيا همَّ رجل قطُ إلاَّ لزم قلبَه أربعُ خِصَالٍ : فَقْرٌ لا يُدْرَك غناه ، وهَم لا ينقضي مَدَاه ، وشُغْلٌ لا ينفَدُ أُولاه ، وأمل لا يبلُغ مُنتهاهُ .

ومما يروى عن عثمان بن عفان رضي الله قوله
"سيجعلُ الله بعد عُسْرٍ يسراً ، وبعد عِي بياناً ، وأنتم إلى إمام فعَال ، أحوجُ منكم إلى إمام قَوَّال "، قاله في أول خلافته وقد صعد المنبر وأُرْتِج عليه .


ومما يذكره التاريخ المبارزة الشهيرة بين الامام علي رضي لله عنه وعمر بن ود:

ولما صار مع المسلمين في الْخَندَق دعا إلى البراز ، وقال : مجزوء الكامل :
ولقد بَحِحْتُ من الندا . . . ء بجمعهم هَلْ مِنْ مُبارِزْ
ووقفْتُ إذ نكلَ الشجا . . . ع بموقْفِ البَطَلِ المُنَاجِزْ
إني كذلك لم أزلْ . . . متسرَعاً نحو الهَزاهز
إنَّ السماحة والشجا . . . عةَ في الفتى خيرُ الغرائزْ
فبرز علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، فقال : يا عمرو ، إنك عاهدت اللّه لقريش ألاَ يدعوك أحدٌ إلى خلتين إلاّ أخذت إحداهما ، فقال : أجل قال : فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام . قال : لا حاجَةَ لي بذلك ، قال : فإني أدعوك إلى المبارزة ، فقال : يا ابن أخي ، ما أُحِبُّ أن أقْتُلَك قال علي : لكني واللَهِ أُحِبُّ أن أقتلك ، فحمِيَ عمرو ، فاقتحم عن فرسه وعَرْقَبه ثم أقبل إلى علي : الكامل :
فتجاوَلاَ كغمامتين تكنفتْ . . . مَتْنَيهما رِيحاً صَباً وشَمالِ
في موقف كادت نفوسُ كُماتِه . . . تُبْتَزُ قَبْلَ تَوَرُدِ الآجالِ
وعلت بينهما غبرة سترتْهُما فلم يرع المسلمين إلاَّ التكبيرة فعلموا أنَّ عليًّاً قتله .
ولما قُتل عمرو جاءت أخته فقالت : مَن قتَله ؟ فقيل : علي بن أبي طالب ، فقالت : كٌفء كريم ثم انصرفت وهي تقول : البسيط :
لو كان قاتلُ عمرو غيرَ قاتلهِ . . . لكنت أبكي عليه آخرَ الأبدِ
لكنَ قاتلَه من لا يُعابُ بهِ . . . وكان يُدْعَى قديماً بَيْضَةَ الْبَلَدِ
من هاشمٍ في ذراها وَهْيَ صَاعِدَة . . . إلى السماء تُمِيتُ الناسَ بالحسَدِ
قومٌ أبى اللّه إلاَّ أن يكونَ لهم . . . مكارمُ الدِّينِ والدُنيا بلا أمَدِ
يا أم كلثوم بَكَيهِ ولا تَدَعِي . . . بكاءَ مُعْوِلَةٍ حَرَى على وَلَدِ


ومما قيل ايضا:
"ذكر بعضُ الرُواة أنه لما اسْتُخْلِفَ عمرُ بن عبد العزيز ، رضي اللّه عنه ، قَدِمَ عليه وُفُودُ أهلِ كلِّ بلد ؛ فتقدَّم إليه وَفْدُ أهلِ الحجاز ، فأشْرَأب منهم غلامٌ للكلام ، فقال عمر : يا غلام ، ليتكلمْ مَنْ هو أَسَن منك فقال الغلام : يا أمير المؤمنين ، إنّما المرءُ بأَصغريه ، قلبهِ ولسانِهِ ، فإذا مَنَح اللَّهُ عبدَه لساناً لافظاً ، وقلباً حافظاً ، فقد أجاد له الاختيار ؛ ولو أن الأمور بالسن لكان هاهنا مَنْ هو أحق بمجلسك منك .
فقال عمر : صدقت ، تكلّم ؛ فهذا السحْرُ الحلال فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن وفد التهنئة لا وَفْدُ الْمَرْزِئة ، ولم تُقْدِمْنا إليك رغبةٌ ولا رهبة ؛ لأنا قد أمِنا في أيامك ما خِفْنا ، وأدركْنا ما طلبنا فسأل عمر عَنْ سِنّ الغلام ، فقيل : عشر سنين "


وفيما يروى ايضا من حسن الالفاظ وبراعة البيان ما قاله الطائي(ابو تمام) شعراً:

إنَّ القوافِيَ والمساعيَ لم تَزَلْ . . . مثلَ النظام إذا أصابَ فَرِيدا
هِيَ جوهر نثر فإنْ ألفْتَهُ . . . في الشعر كان قلائداً وعقودا
من أجل ذلكَ كانت العرب الأُلى . . . يدعونَ هذا سُؤدداً مجْدُودا
وتنِدُ عندهُمُ العُلاَ إلاَّ إذا . . . جُعِلَت لها مِرَرُ القصيدِ قيودا


ونقف هنا علنا نستأنف هذا الحديث في قادم الأيام ان شاء الله ان كانت لنا بقية من عمر

والله الهادي الى سواء السبيل