رحل في صمت ودون عزاء د. عبد الودود شلبي
د. محمد عمارة : بتاريخ 10 - 11 – 2008


في المأثور الإسلامي إن ذهاب العلم ليس بنزعة من الصدور وإنما بذهاب العلماء
ولقد فقدت مصر وحدها سنة 1996 ثلاثة من كبار العلماء الشيخ محمد الغزالي (1335 ـ 1416هـ / 1927ـ 1996م) والشيخ خالد محمد خالد(1339ـ 1416 هـ/ 1920ـ 1996م) والشيخ جاد الحق على جاد الحق (1335 ـ 1416 هـ/ 1917ـ 1996م) وبعد عامين ودعنا الإمام محمد متولي الشعراوى (1329ـ 1419 هـ / 1911ـ 1998م) وفى النصف الأول من هذا العام (2008 ) فقدت مصر من أعلام العلماء الدكتور عبد الصبور مرزوق (1343ـ 1429 هـ / 1925 ـ 2008 م) والدكتور عبد الودود شلبي الذي آثر الرحيل في صمت وحتى دون عزاء!.
*كان المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الودود شلبي ( 1343 ـ 1429هـ /1925ـ 2008م) واحدًا من أعلام العلماء..
ـ درس وتخرج من كلية أصول الدين بالأزهر الشريف عندما كان الأزهر كعبة ومحرابًا لفقه الشريعة الإسلامية وعلومها وللتبحر في لغة القران الكريم وآدابها وقبل أن يهبط مستوى هذا المعهد العتيد والعتيق فيخرج أجيال من "الأميين" أكثر مما فيها من العلماء.

ـ وعمل الدكتور عبد الودود مع ثلاثة من شيوخ الأزهر الشريف الذين ازدانت بهم قائمة الأئمة العظام الذين قادوا سفينة الأزهر الجامع والجامعة والمعاهد في القرن العشرين.. الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت (1310ـ 1383هـ /1893ـ 1978م) والإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود (1328ـ 1398هـ /1910ـ 1978م) والإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق( 1335 ـ 1416 هـ /1913 ـ 1996م ).. فكان ساعدًا من سواعدهم في التجديد والإصلاح والتطوير..

ـ ولقد كان الدكتور عبد الودود شلبي واحدا من عدد محدود من العلماء الأزهر الشريف الذين أتقنوا اللغة الإنجليزية وعاش في البلاد التي تكلم بها واطلع على ما في ثقافاتها عن الإسلام .. وخبر ما في هذه البلاد وتلك الثقافات من إمكانيات ـ استفاد منها ـ وما فيها من تحديات وافتراءات ـ حددت ملامح المشروع الفكري الذي نذر له حياته الفكرية على امتداد أكثر من نصف قرن من الزمان..

ـ كذلك تميز الدكتور عبد الودود ـ وامتازـ بجمعه مع العلم الاسلامى والفكر الإسلامي المجدد والمستنير، الغيرة الشديدة على الإسلام والمسلمين.. فحمل هموم الأمة الإسلامية على أمتداد العالم الإسلامي، وفيما وراء عالم الإسلامي.. وضم إلى ذلك ـ أيضا ـ الغيرة الشديدة على الأزهر الشريف الذي كان ـ ويجب أن يبقى ـ كعبة العلم الإسلامي وقبلته التي يتوجه إليها كل المسلمين.. وفى معاركه حول هذه القضايا صادق وخاصم دون أن يخشى في الله لومة لائم.

ـ ولهذا "الوعى" بالحاضر وتحدياته.. والتاريخ ودروسه وعبره وعظاته.. وباستشراف المستقبل، كان الدكتور عبد الودود ـ وهو الابن البار لمدرسة الإحياء والتجديد التي تبلورت حول الأستاذ الإمام محمد عبده( 1266ـ 1323هـ /1849ـ 1905م) ـ واحدا من الذين أدركوا خطر التنصير والمنصرين على الإسلام وأمته.. فكانت مواجهة التنصير الغربي ومخططاته ـ مع الدفاع عن الأزهر الشريف ـ معالم بارزة في مشروعه الفكري، الذي رابط على ثغوره وقدم فيه العديد من الكتب والرسائل والدراسات والمحاضرات والمذكرات.. حتى لقد امتزج الفكر المدافع عن الإسلام والمسلمين وعن الأزهر الشريف بحياته امتزاجًا شديدًا وقويًا وفريدًا.

كذلك .. تميز الدكتور عبدالودود شلبي رحمه الله بجمعه بين العلم الإسلامي والإبداع الفكري فيه .. وبين العمل في الدعوة الإسلامية، والسعي لاستكمال إسلامية المجتمعات الإسلامية، على امتداد عالم الإسلام .. ومن هنا كان تصديه بالفكر والعمل لسرطان العلمانية الغربية، التي تسللت إلى بلادنا عبر الاستعمار والتغريب والمغتربين لتحول إسلامنا عن منهاجه الشامل لتجعله نسخة من النصرانية التي تقبع في المحاريب والطقوس، تاركة دنيا المسلمين وأوطانهم وثرواتهم للنهب الاستعماري المدعوم بالفلسفات الوضعية واللادينية التي تعزل السماء عن الأرض وتحول الناس عن عبادة الواحد الأحد إلى عبادة البنوك والشهوات والملذات.
ولقد دفع الدكتور عبدالودود الثمن الذي يدفعه العلماء المجاهدون الأحرار من أمنهم وحريتهم ورزقهم بسبب هذا الموقف الذي لم يقف بالعلم والفكر عند حدود "النظر والنظريات" وإنما حمله إلى ميادين الممارسة والتطبيق .. فكان رحمه الله واحدا من الذين صدق في حقهم: "أن الإنسان موقف" فلقد اختار طريق الحق .. وصبر وصابر على تبعات ما في طريق الحق من أشواك وآلام.
ولقد عرفتُ الدكتور عبدالودود شلبي معرفة مباشرة والتقيت به وتعاونت معه وخبرت مقاصده وكانت بيننا مودة قلبية نادرة ومحبة عميقة وشراكة علمية وفكرية .. منذ كان أمينا عما للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف في ثمانينيات القرن العشرين إبان مشيخة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق فدعاني يومئذ إلى نشر الطبعة الأولى من كتاب "الغزو الفكري: وهم أم حقيقة؟" عن طريق اللجنة العليا للدعوة الإسلامية فكان ذلك شيئا جديدا أن تنشر اللجنة نماذج من الفكر غير التقليدي الذي يصدر عادة عن الأزهر الشريف.
كذلك حرص الدكتور عبدالودود على إقامة علاقة فكرية بين الأزهر الشريف ممثلا في اللجنة العليا للدعوة الإسلامية وبين "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" بواشنطن والذي تخصص في إسلامية المعرفة وإصلاح مناهج الفكر الإسلامي وكانت باكورة هذا التعاون وهذه العلاقة التي كتبها باسم الأزهر الشريف الدكتور عبدالودود.
كما حرصه على إشراكي في المحاضرات التي تقدم للأئمة والعلماء والدعاة الذين يستضيفهم الأزهر الشريف من مختلف بلاد العالم الإسلامي والذين تعقد لهم الدورات التدريبية المخصصة بمدينة البعوث الإسلامية بالقاهرة.
وعندما تولى الدكتور عبدالودود مسئولة إصدار المجلد الضخم الذي ضم الأبحاث والدراسات في احتفال الأزهر الشريف بعيده الألفي 1982م-1402هـ بعد تأخر هذا الاحتفال بسبب عدوان 1967 حرص رحمه الله على إشراكي في هذه الأبحاث والدراسات فنشرت في هذا المجلد دراسة غير تقليدية عن "الأزهر والتغريب".
وكذلك صنع عندما تولى أمانة مؤتمر السيرة والسنة النبوية الشريفة الذي نظمه الأزهر عام 1985م-1405هـ ومسئولية إصدار المجلد الذي ضم أبحاث هذا المؤتمر .. فدعاني لأنشر فيه دراسة غير تقليدية عن "محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم .. الرسول والسياسي" .. والتي تحدد علاقة الدين بالدولة في فلسفة الإسلام .. وهكذا كانت علاقتنا علاقة "جهاد فكري" في سبيل الله والإسلام والمسلمين، ازدانت بمودة قلبية صافية وخالصة كانت من نعم الله علينا، لأنها كانت في سبيل أعظم النعم .. نعمة الإسلام.