(كنتم خير أمة أُخرجتْ للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالَّله ) (آل عمران: 110 )

من الحقائق الثابتة التي لا يختلف عليها اثنان من الناحية الشرعية، أن غاية الإنسان المسلم في هذه الحياة هي تحقيق معنى العبودية لله سبحانه وتعالى في ذاته ومجتمعه بالمعنى الشامل الذي يعني أول ما يعني القيام بأعباء الاستخلاف في الأرض بأبعاده المتعددة ونشاطاته المتنوعة، وتعمير الكون وفقاً لمنهج الله، الذي أوقفنا عليه الرسل، وكان مسلكهم وسيرتهم أنموذجاً عملياً للسائرين على الطريق، وتعاملهم مع السنن التي تحكم الحياة والأحياء هو المنهج المنوط بالمؤمن سلوكه في عمليات الهداية والتغيير للوصول بالبشرية التائهة إلى تحقيق معنى العبودية في حياتها التي خلق الإنسان من أجله.. أداءً لأمانة المسؤولية التي حملها الإنسان بعد أن أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها.

قال تعالى: (وما خلقت الجِنَّ والإِنْس إلاّ ليعبدون) ( الذاريات :56)، وقال: ( إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) (الأحزاب:72).

إذاً الإنسان هو أساس التغيير في التصور الإسلامي، والتزام طريق النبوة في الحركة هو منهجه، والوصول إلى تحقيق العبودية والفوز برضا الله تعالى هو هدفه.

وهذا لا بدا له من نية وهي اقتناع العقل وعزم القلب وانبعاث الهمة، والعمل الذي هو الاستجابة السلوكية والتعبير الإيجابي عن القناعة العقيدية والنفسية والفكرية ودليل صدقها . قال تعالى:

(إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) (فصلت: 30) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوي ) .

لذلك اختلفت النبوة عن الفلسفة وجاء عطاء الأنبياء مختلفاً تماماً عن نظرات الفلاسفة ومعارفهم الباردة العاجزة. وقافلة النبوة في الهداية والعطاء مستمرة تكتسب كل يوم مواقع جديدة. حيث لم يبق لنظرات الفلاسفة إلاّ بعض القيمة التاريخية التي لم تتجاوز الكتب والمكتبات ولم يكن لها نصيب يذكر من التغيير الاجتماعي. من هنا نقول:

وسائل لا غايات

إن الحكومات والجماعات والجمعيات والتنظيمات وصور التكتلات جميعاً التي يسعى إليها الناس إنما هي وسائل لتحقيق الأهداف وليست غايات بحد ذاتها، إنما تشرف هذه الوسائل بشرف غاياتها وتقصد للحصول على قدر أكبر من تحقيق تلك الغايات التي يقصر عنها الجهد الفردي فتكون الجماعة ويكون التجمع وتكون القيادة.

وبالتالي فلا يجوز بحال من الأحوال أن تنقلب هذه الوسائل إلى غايات بحد ذاتها وإنما يجب أن تبقى وسائل محكوماً عليها بمقدار ما تحقق من الغايات التي سبقت الإلماحة إليها وهي تحقيق العبودية لله تعالى والفوز برضاه.

فليست غاية الدعوة إلى الله والعمل الإسلامي بصوره المختلفة الأساسية، الوصول إلى الحكم والسلطة بأشخاصه وبمختلف الطرق الشرعية وغير الشرعية وينتهي الأمر، وإنما الحكم بحد ذاته لا يعدو في نظر المسلم أن يكون من وسائل تحقيق معنى العبودية ونشر الدعوة وحمايتها في مدىً أوسع ومساحة أشمل؛ ذلك أن المهم في نظر المسلم أن تتحقق المعاني التي يريدها الإسلام، وليس المهم أن يحكم أشخاص أو جماعات بأعيانهم .

ومن هنا يفترق منهج العمل الإسلامي عن المناهج الأرضية كافة التي تنحصر أهدافها وتتحقق عند الوصول إلى السلطة وتكون أقصى غاياتها الاحتفاظ بها وتقسيم الغنائم على الأنصار لضمان ولائهم ودعمهم وعبوديتهم. لأنهم أصحاب المصلحة الحقيقية في الحكم والثورة كما يسمونهم، ومطاردة الخصوم لأنهم مكمن الخطر الدائب على ما حصلوا عليه من مكاسب شخصية، أما العمل الإسلامي فيتابع سيره وتلقى على عاتقه مسؤوليات جديدة ويتسع معنى تحقيق العبودية ويعظم التكليف. قال تعالى: (الذين إنْ مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) (الحج: 41).

إنها الأمانة والمسؤولية التي تبدأ بعد الحكم وليس الاسترخاء والقعود عن أداء تلك الأمانة.

والمسلم كفرد والمسلمون كجماعة مطلوب إليهم دائماً أن يكونوا في مستوى إسلامهم بناءً؛ استجابة لخطاب التكليف، وفي مستوى عصرهم فهماً وحركة وإدراكاً لطبيعة المتغيرات التي لا تتوقف عند حد لتكون وسائلهم في العمل الإسلامي في مستوى العصر .

وإن الهاجس الدائم للمسلم الحق الذي يورث الفاعلية التي لا تنطفئ محاولة ارتياد آفاق أفضل، والحصول على نتائج أشمل، وامتلاك وسائل أكثر تطوراً وجدوى في مجال الدعوة إلى الله.

إن القعود عن التفكير بالتغيير والاستسلام لواقع الحال بسبب من الفهم القاصر للقضية الإسلامية والجمود على الوسائل المعروفة والوقوف عندها والاكتفاء بها وإعطائها صفة القداسة قضية أقل ما يقال عنها أنها تنافي الخلود لهذا الدين ومخاطبة الناس على قدر عقولهم ومطابقة الكلام لمقتضى الحال، إنه القبول بالواقع الإسلامي الذي لا نحسد عليه والذي بات لا يرضي إلا المنتفعين به بشكل أو بآخر، إن قبولنا بالصورة التي يقوم عليها الواقع الإسلامي الآن يعني التوقف حيث تتبدل مواقع الأفراد والجماعات في المجتمع الحاضر بين يوم وآخر، تبعاً لتبدل الوسائل وطرق المواجهة.

إن وسائل العمل الإسلامي وطرائقه وأساليبه وهياكله وعناوينه التي أصبحت عند بعضهم ديناً لا يمكن تجاوزه إنما هي أمور اجتهادية تخضع لقانون التغيير والاستبدال وليست لها صفة القداسة والثبات، ذلك أن الأهداف الإسلامية من الثوابت، والوسائل لتحقيق هذه الأهداف من المتغيرات؛ بشرط واحد أن تكون أوعية هذه الوسائل شرعية ومحكومة بضوابط الشريعة أيضاً فالغاية لا تبرر الوسيلة ، الأمر الذي بدأ يتسلل إلى بعض النفوس بسبب من الاجتهاد المريض والرؤية القاصرة.

ويمكن أن تكون لبعض الوسائل جدوى في عصر معين، وقد تكون إنما جاءت استجابة لمواجهة مشكلات معينة في مجتمع له ظروفه واهتماماته.

أما وقد تبدل الزمان وتغيرت المشكلات وصورة المجتمع؛ فإن الجمود على وسائل بعينها في العمل وعدم القدرة على تجاوزها إنما هو حرب في غير معركة، وانتصار بغير عدو، ويخشى أن يكون مضيعة للعمر والأجر معاً.

لا بد أن تكون عمليات المراجعة وإعادة النظر دائمة على ضوء المستجدات ولا بد من الاستمرار باتهام أنفسنا بالتقصير عن إدراك الصور المثلى، ويبقى شعارنا أن عدم تحقيق النتائج هو بسبب منا: ( قُل هُو من عند أنفسكم ) .

ومن يظن أنه علم فقد جهل، فالعمل الإسلامي مدعوٌ دائماً لتغيير مواقعه التي تصبح عاجزة عن مواكبة الحياة إلى مواقع جديدة أكثر فاعلية على ضوء الإمكانات المتوفرة والفرص المتاحة، وتجديد وسائله واستبدالها لتكون القدرة على العطاء في كل الظروف والأحوال.

فتح باب الحوار والمناصحة

وفي تقديرنا حتى نصل إلى الصورة الأفضل لوسائل العمل الإسلامي لا بد من فتح الباب على مصراعيه؛ بل وفتح النوافذ أيضاً في العمل الإسلامي لعمليات الحوار والنقد والمناصحة، وليس فقط فتح الباب أمام ذلك وإنما التدريب عليه في أجواء العمل الإسلامي لتصب كل الخبرات في مجرى الحياة الإسلامية، ويستفاد من كل الطاقات، وتسدد كل الثغرات ويستشعر الأفراد جميعهم مسؤولية الرقابة على العمل التي تحققها ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن العاملين للإسلام نواة المجتمع الإسلامي المنشود أحق بذلك من المجتمع بشكل عام بشرط أن تلتزم القاعدة التي تقول من كان آمراً بالمعروف فليكن أمره بمعروف .. ونستطيع القول:

إنه من فساد النظر: الاعتقاد بأن عملية النقد والمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحدث تشويشاً في الصف الإسلامي واضطرابات في العمل.. ذلك أن الصف أو الجماعة التي تخشى من الحوار وتخاف من المناصحة، ويلبس الشيطان على بعض أفرادها بأن الأمر بالمعروف ومحاربة المنكر يهدد كيانها، جماعة لا يوثق بها ولا تستحق البقاء، ولا تستأهل حمل رسالة الإسلام التي من أولى متطلباتها الأمر بالعروف والنهي عن المنكر، ففاقد الشيء لا يعطيه .

إن مطاردة عمليات المناصحة ومحاصرتها والقضاء عليها تنطوي على خطورة كبيرة تودي بأصل القضية في سبيل استقباء الصورة الشكلية للعمل والدعوة، حيث تنقلب الوسيلة ـ التعاون في إطار الجماعة للوصول إلى قدر أكبر من الخيرـ غاية بحد ذاتها.

إن التسلط الفردي والإرهاب الفكري الذي يقع فيه أحياناً بعض العاملين للإسلام ـ عندما يغيب عن ساحة العمل البعد الإيماني الغيبي وما يقتضيه من خفض الجناح ولين الجانب والخلق الكريم ـ يؤدي إلى لون من التشرذم وضرب من الطائفيات الجديدة، تتمزق معها رقعة التفكير وتنمو الجزئيات وتغيب الكليات ويضطرب سلم الأولويات ويضيع تصنيف المشكلات ويتوقف العمل المنتج وتنقلب الوسائل إلى غايات ـ كما أسلفنا ـ وتتمحور الصورة الإسلامية حول أشخاص لا ترى القضية الإسلامية إلا من خلالهم وينقلب جهد العمل إلى صناعة المبررات وتتغلب عملية صناعة التبرير على عقلية دراسة أسباب التقصير، ولا تعالج هذه القضية إلاّ من خلال ممارسة الحرية الفكرية والحوار الشامل والتزام أدب الخلاف الإسلامي، وجعل المشروعية للمبادئ والأفكار وليس للوسائل والأشخاص.

إن العقيدة مقرها القلب ولا سلطان لأحد عليه إلاّ سلطان الدليل، والقناعة بالشيء هي الدافع لممارسته، والله خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بأن الغاية من ابتعاثه إلحاق الرحمة بالعالمين .

قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين ) ( الأنبياء: 107)، وقال : (لست عليهم بمسيطر ) ( الغاشية: 22)، وقال مخاطباً نبيه أيضاً: ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) ( آل عمران 199). وهذه من الأبجديات الأولى في الدعوة إلى الله وإلحاق الرحمة بالعالمين .

التربية بالقدوة

إن الخلق الحسن والسلوك الخيّر هو الذي يٌغري الناس بالإسلام وليس السوط والأثرة وحظوظ النفس.. فهل نعيد قراءة سلوكنا في العمل الإسلامي وطرائقنا في الدعوة إلى الله فيكون شعارنا ( واخفض جناحك للمؤمنين ) فقد نقع على الطريق في علل الجوارح كما وقع أبونا آدم ونتوب ولا ضير فهذا من طبيعة البشر، لكن الخطورة كل الخطورة أن نقع في علل النفوس من الكبر والعجب بالنفس كما سقط إبليس عندما قال: ( أنا خيرُ منهُ ).

العمل الإسلامي تفاعل لا ينقطع وتدافع بين الحق والباطل لا يتوقف. قال تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنَّ الله من ينصُرُهُ إن الله لقوي عزيز ) (الحج: 40).

ومنهج الدين الحكيم أن يكون ذلك جدالاً لا قتالاً وتسلطاً، وحواراً لا حرباً واقتتالاً، قال تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن ) فإذا كان هذا أدب الجدال مع أهل الكتاب فكيف يجب أن يكون مع المسلمين المخالفين بوجهة النظر.

وطريقة هذا الدين الدفع بالتي هي أحسن والصبر الجميل والصفح والمسامحة حتى على الكيد والأذى. ومجتمعه وتجمعه هو مجتمع البلاغ المبين، ونجاة العاملين لا تتحقق بالانسحاب من المجتمع والاستعلاء عليه، والنكوص عن عملية البلاغ المبين والنزول إلى المخابئ وتغييب سياسة الدعوة وممارسة العاملين وسلوكهم عن الأنظار الأمر الذي يعطل عملية البلاغ المبين ويؤدي إلى النمو غير الطبيعي، ويوقف الحوار ويعطل عملية الرقابة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باسم أمن الدعوة.

إن قضية الدعوة السرية لحماية الدعوة من أعدائها والتي توضع لها عادة بعض المسوغات والفلسفات المرضية نظرياً ولا تلبث أن تزحف لتمارس على الدعوة نفسها وتحول دون أداء وظيفة التصويب الأساسية والرقابة العامة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وبذلك يتكرر خرق السفينة من المستهمين فيها لعدم رؤيتهم والأخذ على أيديهم، ثم تنتهي إلى الغرف.

إن الدعوة إلى السرية لم تقتصر على مواجهة أعداء الدعوة ولم تتوقف عند عتبة الدعوة الإسلامية وإنما تسللت تحت اسم المصلحة إلى أجوائها فأصبحت ممراً لتقديم الولاءات وإبعاد الكفاءات عن مواطن الحل والعقد .

وكان أول ضحايا الدعوة إلى السرية مقومات العمل الإسلامي وليس أعداؤه .

إن سياسة الخفاء كوسيلة من وسائل الدعوة ونشر هذا الدين إلى جانب أنها تتعارض مع عملية البلاغ الميبن مسؤولية المسلم التي بها نجاته كما أسلفنا ـ فهي تتعارض مع الهدي النبوي حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج لتجمعات الناس ويعرض دعوته على الوفود في موسم الحج وغيره ، ويحتمل في سبيل ذلك الأذى وهو الأحوج إلى الأمن، ذلك أن إيذاء المشركين والمبطلين لدعاة الإسلام من لوازم الحق، وهو الثمن الذي لا بد منه للعقيدة، وفرق كبير بين من يدفع ثمن ثباته على العقيدة وبين من يقبض ثمن العقيدة، ولا نزال نذكر من سيرته صلى الله عليه وسلم عندما جمع المشركين عند الصفا ليقول لهم: إني رسول الله إليكم بين يدي عذاب أليم .. فقال أبو لهب: تبـًا لك .. ألهذا جمعتنا ؟

وهديه في بيان أعظم الجهاد الذي هو إظهار الحق وقولته أمام الإمام الظالم هكذا جهاراً نهاراً لا خفاء فيه .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أعظم الجهاد قولة حق عند سلطان جائر ) .

إن مسؤولية المسلم تتحدد بإظهار الحق والثبات عليه ولو كان ثمن ذلك حياته وليس شيئاً آخر .

ويجب أن لا يغرب عن بالنا ما ألحقت الدعوات السرية والباطنية بالإسلام من كيد، وما لحق فكرها من انحراف وعقيدتها من زيغ، لأنها مشت في الأنفاق المظلمة ولم يكن هناك سبيل للتصويب والحوار ورصد نتائجه باسم الحفاظ على الكيان والسرية والأمن .؟

الاحتساب وعدم الاحتراف بالإسلام

ولعل من أهم الشروط لنجاح عملية البلاغ المبين والوصول بالدعوة إلى نفوس الناس امتلاك الدعاة خصائص وصفات متفوقة حتى يستطيعوا أداء المهمة المنوطة بهم، وقد يكون من أهمها الاحتساب والزهد بما في أيدي الناس والابتعاد عن مزاحمتهم على ما هم فيه وعدم الاحتراف بالإسلام. قال تعالى محذراً أتباع الرسالة الخاتمة: (يأيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل.. ) ( التوبة : 34) لقد كان فساد ـ القلب ـ الأحبار والرهبان سبباً في فساد الجسد وسقوط الأمم السابقة وجعلها وسائل إيضاح للأمة الإسلامية التي تحمل الرسالة الخاتمة فلا تنتقل إليها العلل التي أصابت الأديان السابقة على يد أتباعها ودعاتها.

وما من الأنبياء نبي إلا كانت له حرفة وكان شعار الأنبياء جميعاً: (وما أسألكم عليه من أجرٍ إنْ أَجري إلاّ على رب العالمين ) (الشعراء:109).

ذلك أن الاحتراف بالإسلام وتوظيف الإسلام لمآرب شخصية يشوه وجه العاملين لهذا الدين، ويقيم جداراً نفسيـًا يحول دون وصول دعوة الله واستنقاذ البشر مما هم فيه لدرجة قد تساهم مساهمة سلبية في إيذاء الدعوة وتحنيط الدعاة.

لذلك كان لا بد من التدليل عملياً على أن مجتمع الدعوة الإسلامية مجتمع الدعوة الإسلامية مجتمع عطاء وليس مجتمع أخذ .. مجتمع واجبات قبل أن يكون مجتمع حقوق.. مجتمع هداية وليس مجتمع جباية.. مجتمع الإيثار وليس مجتمع الأثرة، وأن هذه القضية لا تتحقق بشعار يرفع أو بزمن بسيط بل لا بد من ممارسة من العاملين ليصبح ذلك خلقاً، ومن اختبارات من الناس ليقفوا على الحقيقة ويتجاوزوا صور التضليل والتشويه التي تمارس على العاملين للإسلام حتى يكون ذلك منهج دعوة وليس وسيلة دعاية .

وبمجرد أن يخرج العمل الإسلامي عن هدف الاحتساب فإن أعداءه أقدر على دفع الثمن واحتواء العمل الإسلامي، ولا يعدم عمل من الأعمال منتفعين به ومستغلين له.

جماعة المسلمين

من الخطأ العقيدي والتاريخي والحضاري الاعتقاد بأن الإسلام حكراً على جماعة بعينها إلى درجة تعلن معها أنها جماعة المسلمين أو أنها تمتلك الحق المحض وغيرها يعيش على الباطل المحض. ومن هنا يبدأ الانحراف وتتسع زاويته ويبدأ التعسف في إصدار الأحكام على الناس إلى درجة قد تصل إلى تكفير من لا ينسلك في طريقها ولا يرى رأيها، كما أن الإسلام ليس حكراً على طائفة أو حزب أو جنس بشري وإنما هو دين الله الخاتم ورسالته الخالدة للبشرية جميعاً وأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو وحده محل القدوة والأسوة ومصدر التلقي.

قال تعالى:

(لقد كان لكم في رسول الله أسوةً حسنة. ) وأن أي إنسان أو جماعة أو طائفة أو جنس بشري لا يمتلك ذلك، مهما علا شأنه، فإنه يبقى متبعاً وليس بمبتدع، ويبقى الإسلام هو الحاكم على سلوكه ولا يجوز بحال من الأحوال أن يكون سلوكه هو المنهج والمقياس، وأن نصيب المسلمين أفراداً وجماعات من نصرة الإسلام متفاوت بمقدار ما يقدم كل منهم للدعوة وبمقدار ما يقترب بسلوكه من المثل الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم .

والإسلام دين جماهير الأمة وأمل الجماهير وهدفها والله تعالى يقول: (إنما المؤمنون أخوة ) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ) من هنا يمكن القول:

إن الجماعات والجمعيات التي تدعو للإسلام ليست مراكز احتكارات له بعيدة عن جماهير الأمة ومنفصلة عن جسمها وهدفها، وإنما هي مجموعات ترجو أن تكون أكثر كسباً للقضية الإسلامية وأشد اهتماماً بها، يجب أن تكو ن مراكز متقدمة تتمثل الإسلام وتعطي أنموذجاً عملياً للحياة الإسلامية، وتدرب على المعاني الإسلامية، وتمثل الإسلام بصورة عملية لتغري بسلوكها الجاهلين بحقيقة هذا الدين وتكون لهم دليلاً ومرشداً ولا تحتكر الخير وتنتهي إلى تشكل غريب في جسم الأمة بعيد عن حمل أهداف الجماهير المسلمة والدفاع عنها، والتحمل في سبيلها متمثلة قوله تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) (آل عمران: 104).