أثر الدعاء في صلاح الأبناء

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللهوبعد

فإنمن نعم الله -تعالى- على عباده نعمة الذرية، ولهذا امتن الله -تبارك وتعالى- علىعباده وذكَّرهم بهذه النعمة في كتابه الكريم فقال: {وَاللَّهُأَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُالسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورةالنحل: 78].

إنهم زينة الحياة الدنيا وزهرتها وبهجتها: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [سورةالكهف: 46]، ولكن لا تقر أعين الآباء بالأبناء حقيقة إلا إذا كانوا صالحين، لهذافإن الصالحين من عباد الله يجتهدون في صلاح أبنائهم، ويعلمون أن الأمر كله بيد الله -عز وجل-، وأن من أعظم أسباب صلاح أبنائهم كثرة الدعاء لهم والتضرع إلى اللهليصلحهم.

وقد ذكر الله -تعالى- عن عباده الذين أضافهم إلى نفسه إضافة تشريففقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَإِمَاماً} [سورة الفرقان: 74]،قال ابن عباس -رضي اللهعنهما-: "يعنون: من يعمل بطاعة الله فتقرّ به أعينهم في الدنياوالآخرة".

قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- فيتفسيرها: "يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم وذرياتهم من يطيعهويعبده وحده لا شريك له".

ونظرًا لما للدعاء من أثر عظيم في صلاح الأبناءوجدنا خير خلق الله -تعالى- وصفوتهم الأنبياء والرسل يسألون ربهم ويلحون عليه -سبحانه- أن يصلح لهم ذرياتهم، حتى إنهم دعوا الله -تعالى- من أجلهم قبل أنيولدوا.

الخليل -عليه السلام- يسأل ربه الذريةالصالحة:
فهذا سيدنا إبراهيم يرفع أكف الضراعة طالبًا من الله -تعالى- أنيرزقه أبناء صالحين مصلحين فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَالصَّالِحِينَ} [سورة الصافات: 100].

إنه قد بلغ سنًّا كبيرة،وامرأته عجوز، وهو يشتهي الولد، لكنه لا يريد أي ولد؛ إنما يريد ولدا صالحًا، فكانتالاستجابة من الله -تعالى- فأعطاه ما سأل: {فَبَشَّرْنَاهُبِغُلامٍ حَلِيمٍ} [سورة الصافات: 101]، وأعجب من ذلك أن الخليل -عليهالسلام- لم ينقطع عن الدعاء لذريته، بل ظل يتعهدهم بالدعوات الصالحات طوال حياتهم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَآمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]،ويستمر في الدعاء: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَالِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْوَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [سورة إبراهيم: 37]،{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِيرَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [سورة إبراهيم: 40].

ونبي الله زكريا:
وعلى نفس الطريق سار سيدنا زكريا -عليهالسلام-؛ إذ دعا الله -تعالى- لأبنائه قبل أن يولدوا، إننا نراه يدعو الله -تعالى- أن يرزقه ولدًا صالحًا مرضيًّا عند الله وعند الناس، يتحمل معه أعباء النبوةوالدعوة إلى توحيد الخالق -سبحانه- قائلاً: {فَهَبْ لِي مِنلَّدُنكَ وَلِيًّا ﴿٥﴾ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّرَضِيًّا} [سورة مريم: 5-6]، ولقد استجاب الله -تعالى- لدعائه، وحملتالملائكة إليه البشرى بالولد والنبي الصالح: {فَنَادَتْهُالْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَبِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاًمِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة آل عمران: 39].

النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو لأبناء المسلمين:
إذا رجعنا إلى هدي نبينا -صلى الله عليه وسلم- لوجدناه يكثر من الدعاء لأبناء المسلمين، ويوجّه المسلمين إلىالدعاء لأبنائهم حتى قبل أن يولدوا، فيحث من أراد إتيان أهله قضاءً لشهوته وطلبًاللولد أن يحرص على وقايته من الشيطان فيقول: «لَوْ أَنَّأَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَقَالَ بِاسْمِ اللَّهِ،اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌأَبَدًا» [متفق عليه].

ويدعو للصغار وهم نطف فيرحم الأم:
فعن أم سليم -رضي الله عنها- قالت: "تُوُفِّيَ ابْنٌ لِيوَزَوْجِي غَائِبٌ، فَقُمْتُ فَسَجَّيْتُهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَدِمَزَوْجِي فَقُمْتُ فَتَطَيَّبْتُ لَهُ، فَوَقَعَ عَلَيَّ، ثُمَّ أَتَيْتُهُبِطَعَامٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ فَقُلْتُ: "أِلا أُعْجِبُكَ مِنْ جِيرَانِنَا؟"،قَالَ: "وَمَا لَهُمْ؟"، قُلْتُ: "أُعِيرُوا عَارِيَةً فَلَمَّا طُلِبَتْ مِنْهُمْجَزَعُوا". قَالَ: "بِئْسَ مَا صَنَعُوا". فَقُلْتُ: "هَذَا ابْنُكَ". قَالَ: "لاجَرَمَ لا تَغْلِبِينِي عَلَى الصَّبْرِ اللَّيْلَةَ". فَلَمَّا أَصْبَحَ غَداعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي لَيْلَتِهِمْ»،فَلَقَدْ رَأَيْتُ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ سَبْعَةً -يعني من أبنائهم- كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأُوا الْقُرْآنَ" -يعني حفظه، وذلك ببركة دعاء النبي -صلى اللهعليه وسلم-. رواه الطبراني في الكبير، وأصله في الصحيحين.

ويدعو لهم عند ولادتهم:
فعن عائشة -رضي الله عنها-: "أَنَّرَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ -تعني حديثيالولادة- فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكُهُمْ" [متفق عليه].

وفيالصحيحين أن أسماء -رضي الله عنها- أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- بمولود لها،تقول: "ثُمَّ حَنَّكَهُ بِالتَّمْرَةِ ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ" [متفقعليه].

ويدعو لهم أثناء مخالطتهم تشجيعًا وتثبيتًا لهمعلى الخير:

فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "جَاءَتْ بِي أُمِّي أُمُّأَنَسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ أَزَّرَتْنِي -ألبستنيإزارًا- بِنِصْفِ خِمَارِهَا وَرَدَّتْنِي -ألبستني رداءً-بِنِصْفِهِ فَقَالَتْ يَارَسُولَ اللَّهِ هَذَا أُنَيْسٌ ابْنِي أَتَيْتُكَ بِهِ يَخْدُمُكَ فَادْعُ اللَّهَلَهُ. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُوَوَلَدَهُ». قَالَ أَنَسٌ: فَوَاللَّهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ وَإِنَّوَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ). وفيرواية: «وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ» [رواهمسلم].

ولنتأمل هنا كيف بنت وأسست أم سليم -رضي الله عنها- لابنها مستقبلهفي الدين والدنيا بالدعاء؟!، إنه جيل الصحابة الفريد الذين أحسنوا الأخذ والفهموالتطبيق عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ويكافئ -صلى الله عليه وسلم- ابن عباس -رضي الله عنهما- الغلام الصغير على إعداده لوضوء النبي -صلى الله عليهوسلم- قبل أن يطلبه بأن يدعو له، فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عباس -رضي اللهعنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْخَلاَءَ، فَوَضَعْتُ لَهُوَضُوءًا قَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا. فَأُخْبِرَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [متفقعليه].

ويستجيب الله -تعالى- لدعائه -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس ويصيرحبر الأمة وترجمان القرآن.

ولما كان هؤلاء هم قدوتنا وأسوتنا -عليهم جميعاًصلوات الله وسلامه- يأمرنا الله -تعالى- بأن نقتدي بهم، قال -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، ويخبرنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الأسوة الحسنة لنا في كلأمرنا به، قال -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِاللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَوَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21]. إصلاح البنين - سحر شعير، بتصرفيسير.

وعلى هذه الخطى سارالسلف:

فوجدناهم يهتمون بالإكثار من الدعاء للأبناء؛ فهذا الفضيل بنعياض -رحمه الله- سيد من سادات هذه الأمة، وعالم من علمائها الأكابر يدعو لولده علي -رحمه الله- وهو صغيرفيقول: "اللهم إنك تعلم أنياجتهدت في تأديب ولدي علي فلم أستطع، اللهم فأدبه لي"، وهو مع هذا لم يتوانَ عنتعهده بالإصلاح والرعاية وحسن الأدب، لكنه يعلم أن الأمر كله لله فيدعوه -سبحانه- ويتضرع إليه في إصلاح ولده؛ فيستجيب الله -تعالى- دعاءه ويصلح له ولده حتى إن بعضالعلماء ليفضل علي بن الفضيل على أبيه على جلالة قدر أبيه -رحمهما الله-.

وهكذا كان أكثر السلف لكنا لا نريد الإطالة.

احذر الدعاء على أولادك:

إن مما ينبغي أن يكون معلومًاومستقرًّا في نفوس الآباء أن الدعاء على الأبناء من الممنوعات التي لا يجوزالاقتراب منها بحال، ولقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الدعاء على الأطفالفقال: «لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَىأَوْلاَدِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِسَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ» [رواهمسلم].

إن الوالدين أو أحدهما قد يغضب لإساءة بعض الأبناء أو عقوقه، وهما إنغضبا فحقهما، لكن ينبغي ألا يلجأ الوالدان أو أحدهما في هذا الحال إلى الدعاء علىالأولاد؛ فإنهما أول من يكتوي ويتألم إن أصاب أبناءهما مكروه، وليستحضر الوالدان أندعوة الوالد لولده أو عليه هي مما يستجاب، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عنذلك بقوله: «ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ لاَ شَكَّفِيهِنَّ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِلِوَلَدِهِ» [رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني]. فذكر منها: «دَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ»، وفي رواية: «وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» [رواه الترمذي، وحسنهالألباني].

وقد تكون إجابة الدعوة على الولد سببًا في مزيد من العقوقوالفساد لمن دعي عليه من الأولاد، وقد جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك -رحمه الله- يشكو إليه عقوق ولده، فسأله ابن المبارك: "أدعوت عليه؟"، قال: "نعم"، قال: "اذهبفقد أفسدته".

وهذا الجواب منه يدل على سعة علمه -رحمه الله-؛ فإن الدعاء علىالأولاد لن يزيدهم إلا فسادًا وعنادًا وعقوقًا، وأول من يشتكي هذا العقوق هو منتسرع بالدعاء على الأولاد.

هدى الله أولادنا، وأصلح لنا ذرياتنا، وجعلهم قرةعين لنا في الدنيا والآخرة.