وكان ينبغي أن يجمع جدار على:( جُدْران )، لا على:﴿ جُدُرٍ ﴾، لأن الأول أكثر استعمالاً من الثاني، ولكن عدل عنه إلى ﴿ جُدُرٍ ﴾، لأن صيغة ( فُعُل ) تدل على أقصى الكثرة في العدد، بخلاف صيغة ( فُعْلان ) التي لم تستعمل في القرآن إلا للدلالة على القلة النسبية. ولما كان السياق يصور شدة رهبة اليهود من المسلمين، لشدة حرصهم على الحياة، وذلك يتطلب منهم أن يكثروا من بناء تلك الجدران التي يتسترون وراءها، جيء بجمع جدار على صيغة (فُعُل ) للتعبير عن هذا المعنى. هذه الصيغة التي قال عنها سيبويه:« أما ما كان ( فِعالاً ).. فإذا أردت أكثر العدد بنيته على:( فُعُل )، وذلك: حِمارٌ وحُمُر، وخِمارٌ وخُمُر، وإزارٌ وأُزُر ».
وقوله تعالى:﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾ استئناف سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم، ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم، فإنه يشتد بأسهم، إذا حارب بعضهم بعضًا، ولكن لقذف الله الرعب في قلوبهم، وإلقاء الهيبة في صدورهم، ولأن الشجاع يجبن والعزيز يذل، إذا حارب الله ورسوله. فالبأس الشديد الذي يوصفون به، إنما يكون إذا قاتل بعضهم بعضًا. فأما إذا قاتلوا المؤمنين، لم يبق لهم ذلك البأس.
وقوله تعالى:﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ﴾ يعني: تحسبهم في صورتهم مجتمعين على الألفة والمحبة، وحقيقة الأمر أن قلوبهم مختلفة، وكذا حال المخذولين لا تستقر أهواؤهم على شيء واحد. وموجب ذلك الشتات هو انتفاء عقولهم، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة واحدة، وهم بخلاف من وصفهم الله تعالى بقوله:﴿ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾(الأنفال: 63).
وقرأ الجمهور:﴿ وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾، بألف التأنيث، وقرأ عبد الله بن مسعود:﴿ وَقُلُوبُهُمْ أَشْتَات ﴾. والفرق بينهما: أن الأولى تدل على معنى الاختلاف المقابل للائتلاف، وأن الثانية تدل على معنى التفرق المقابل للتجمع. وكلا اللفظين مأخوذ من الشَّتِّ، وهو التفرق والاختلاف. يقال: شّتَّ جمعهم شّتًّا وشتاتًا، ويقال: أهواؤهم شتَّى. أي: مختلفة. قال تعالى:﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ﴾(طه: 53). أي: مختلفة الأنواع. ويقال: ذهبوا أشتاتًا، كلٌّ في جهة. قال تعالى:﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا ﴾(الزلزلة: 6). أي: متفرقين، كل يذهب في جهة.

صور لحصن خيبر حصن اليهود المشهور
والإشارة بـ﴿ ذلِكَ ﴾ إلى تشتت قلوبهم، واختلاف أهوائهم. أي: ذلك الاختلاف ﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ﴾ شيئًا، حتى يعلموا طرق الائتلاف وأسباب الاتفاق، وهذه حال الجماعات المتخاذلة، وهي المغلوبة أبدًا في كل ما تحاول.
وقال تعالى في الآية السابقة:﴿ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفقَهُونَ ﴾، فسلب عنهم الفقه. وقال هنا:﴿ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ﴾، فسلب عنهم العقل. والسرُّ أن الأول متصل بقوله تعالى:﴿ لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ﴾(الحشر: 13)، فهم يرون الظاهر ولا يفقهون علم ما استتر عليهم. أما الثاني فمتصل بقوله تعالى:﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ﴾(الحشر:14). أي: لو كانوا من أهل البصيرة والإيمان لعقلوا، ولو عقلوا لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا. والآية الكريمة كناية عن مصير اليهود إلى الهزيمة، إذ ما حورب قوم في عُقْرِ دارهم إلا ذلُّوا. وهذا من أعظم الذم لهم، فهم لا يثبتون على قتال المسلمين ولا يعزمون عليه، إلا إذا كانوا متحصنين في القرى، أو من وراء الجدر والأسوار، معتمدين على حصونهم وجدرهم، فهم لا يقدرون على المواجهة المباشرة. وهذه حقيقة أيدتها التجارب والمشاهد الواقعية، وتاريخ اليهود وحاضرهم شاهد على ذلك. وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في تشخيص حالة اليهود، حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان، وفي أي مكان، بشكل واضح للعيان. ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين، واليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة، فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة، ومن وراء الجدر. فإذا انكشفوا لحظة واحدة، ولُّوا الأدبار كالجرذان، حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء.. وسبحان العليم الخبير !
صور لخط بارليف الذي قاتل اليهود من خلفه المصريين في حرب رمضان التحريرية
وتبقى الملامح النفسية الأخرى:﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾، ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ﴾، على خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم , وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء فواصل الزمان والمكان , والجنس والوطن والعشيرة. والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم , ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم ; إنما هو مظهر خارجي خادع. وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع، فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور , وينكشف الحال عن نزاع في داخل المعسكر الواحد , قائم على اختلاف المصالح الأهواء وتصادم الاتجاهات. وما صدق المؤمنون مرة , وتجمعت قلوبهم على الله حقًا، إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن تلك الاختلافات وذلك التضارب وذلك الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال. وما صبر المؤمنون وثبتوا، إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار وينكشف عن الخلاف الحاد والشقاق والكيد والدس في القلوب الضعيفة المتفرقة !
إنما ينال الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين عندما تتفرق قلوبهم , فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين التي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة. فأما في غير هذه الحالة فالكفار مختلفو الأهواء والمصالح والقلوب. والقرآن يُقِرُّ هذه الحقيقة في قلوب المؤمنين، ليهوِّن فيها من شأن أعدائهم، ويرفع منها هيبة أولئك الأعداء ورهبتهم، فهو إيحاء قائم على حقيقة وتعبئة روحية ترتكن إلى حق ثابت. ومتى أخذ المسلمون قرآنهم مأخذ الجد، هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله , وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد , فلم تقف لهم قوة في الحياة. والمؤمنون بالله ينبغي لهم أن يدركوا حقيقة حالهم، وحال أعدائهم، فهذا نصف المعركة. والقرآن العظيم يطلعهم على هذه الحقيقة في سياق وصفه لحادث وقع , وفي سياق التعقيب عليه , وشرح ما وراءه من حقائق ودلائل شرحًا يفيد منه الذين شهدوا ذلك الحادث بعينه، ويتدبره كل من جاء بعدهم , وأراد أن يعرف الحقيقة من العالم بالحقيقة !
سادسًا- وبعد أن شخَّص الله عز وجل حالة الذين كفروا من أهل الكتاب، وأقرَّها في قلوب المسلمين، مثَّل سبحانه تلك الحالة بمثلين زيادة في تثبيت المؤمنين، وفى التهوين من شأن أعدائهم، فقال جل وعلا:
﴿ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيم * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾(الحشر: 15- 16).
وهما مثلان لممثَّل واحد، وهو ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾، إخوان المنافقين في الكفر والمكر والخداع، وهو عام في اليهود، ويدخل فيه يهود بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة دخولاً أوليًا. وقد سبق أن ذكرنا أنه كان من حديث بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بعد وقعة بدر بسُوقهم قبل إجلائهم، ثم قال:« يا معشر يهود ! احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلِموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم »، وأنه عليه الصلاة والسلام قال في يهود بني النضير بعد إجلائهم:« هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش »، فهؤلاء اليهود وأمثالهم هم المُمَثَّل لهم بهذين المثلين:
المثل الأول: أما المثل الأول، ﴿ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيم ﴾، فقد شبَّه الله عز وجل فيه حالهم بمثل من أهلكوا من قبلهم من كفار قريش يوم بدر، وغيرهم ممَّن سبقهم من الكفار، وأهلكوا بسبب كفرهم. فهؤلاء المُهلَكون الذين ذاقوا وبال أمرهم هم مثلٌ لليهود، وهم أصلٌ، واليهود فرعٌ قيس على ذلك الأصل. والفرعُ مشبَّه، والأصلُ مشبَّه به، وما بينهما وجه شَبِهٍ دلت عليه كاف التشبيه، وهو أن الجميع اغتروا بمالهم وقوتهم، فتطاولوا على المؤمنين، ونقضوا عهودهم معهم، فكانت عاقبتهم جميعًا أن أذلهم الله تعالى في الدنيا، وتوعدهم في الآخرة بأشد أنواع العذاب.
والمراد: أن حال هؤلاء اليهود المركبة من التظاهر بالبأس، مع إضمار الرَّهْبة من المسلمين، ومن خذلان المنافقين إياهم عند الحاجة، ومن أنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصَّنة أو من وراء جدر، ثم معاقبتهم بالجلاء والقتل، كَمثل الذين عَصَوْا من قبلهم من الكفار والمشركين، فذاقوا سوءَ كفرهم وعصيانهم في الدنيا، ولهم في الآخرة- زيادة على ذلك- عذاب أليم ينتظرهم.
فالتمثيل هنا بين وجودين: الأول خارجي، وهو المشار إليه بقوله تعالى:﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾. والثاني ذهني، وهو المشار إليه بقوله تعالى:﴿كَمَثَلُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾. ولو أريد به قومًا بعينهم، لجيء به مجردًا من لفظ المثل، ولكان نظم الكلام هكذا:﴿ كالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾، كما قال تعالى في موضع آخر:﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ ﴾(الأنفال: 47)، ولكن المجيء بلفظ { مثل } بين كاف التشبيه، والموصول دلَّ على أن المراد بـ﴿ مَثَل الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ المُهلَكون من الأمم الماضية، من قوم نوح- عليه السلام- إلى قوم محمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء ﴿ قَرِيبًا ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ﴾.
وقد دلَّ على هذا المعنى قوله تعالى:﴿ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾، لأن ﴿ قَبْلُ ﴾ ظرف مستعمل في التقدُّم الزماني المتصل، وتعيَّن ذلك بدخول { من } عليه، فإنها لابتداء الغاية، فأفاد وجودها أن قَبْليَّة المُمَثَّل بهم قَبْليَّة متصلة من حيث الوجود الزماني بالمُمَثَّل. ويستعمل ﴿ قَبْلُ ﴾ بدون { من } في التقدُّم الزماني المنفصل، كما في قول الله عز وجل:﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ ﴾(يس: 31). أي: قبلهم بزمن غير معين. ومن الغريب بعد هذا أن نجد من المفسرين من يقول بأن { من } هذه زائدة لتأكيد ارتباط الظرف بعامله.
ويتعيَّن على هذا تعلُّقُ ﴿ قَرِيبًا ﴾ بقوله تعالى:﴿ ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ﴾، وهي جملة مفسرة للمثل. والمعنى: ذاقوا وبال أمرهم في زمن قريب من كفرهم وعصيانهم. والوَبَالُ يقال للأمر الذي يخاف ضرره، وأصله: وَخامة المرعى المستلذ به للماشية. يقال: كلأ وبيل، إذا كان مَرعًى خَضِرًا حلوًا تهشُّ إليه الإِبل، فيُحبِطها ويمرِضها، أو يقتلها. فشُبِّهوا في إقدامهم على حرب المسلمين مع الجهل بعاقبة تلك الحرب بإبل ترامت على مرعى وبِيل، فهلكت. وأمرهم: شأنُهم، وما دبّروه وحسبوا له حسابه، وذلك أنهم أوقعوا أنفسهم فيما أصابهم. وإسناد الذوق إلى الأمر على طريقة الاستعارة. والذوق هو وجود الطعم في الفم، وأصله فيما يقلُّ تناولُه دون ما يكثُر، فإن ما يكثُر يقال له: الأكل.
واختير في القرآن لفظ الذوق في العقاب والعذاب، لأن ذلك، وإن كان في المتعارف للقليل، فهو مستصلَح للكثير، فخُصَّ بالذكر، ليعمَّ به الأمرين. وكثر استعماله في العذاب، كما في قوله تعالى:﴿ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾( آل عمران: 106). وقد جاء في الرحمة، ومنه قوله تعالى:﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ﴾(هود: 9).
وأما جملة:﴿ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيم ﴾ فقيل: معطوفة على جملة:﴿ ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ﴾، وإن اختلفتا فعلية، واسمية. وقيل: حال مقدرة من ضمير ذاقوا. وأيًّا ما كان فهي داخل المثل.
المثل الثاني: وأما المثل الثاني، ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾، فقد شبَّه الله تعالى فيه حالهم بمثل الشيطان مع الإنسان الذي يستجيب لإغرائه، فينتهي وإياه إلى شر مصير.
وصورة الشيطان هنا، ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان , تتفقان مع طبيعته ومهمته، كما تتفقان مع طبيعة اليهود ومهمتهم في كل زمان ومكان، وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة، فيربط بين الحادث المفرد، والحقيقة الكلية في مجال حي من الواقع، ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن. فالحقائق المجردة الباردة لا تؤثر في المشاعر , ولا تستجيش القلوب للاستجابة، وهذا فرق ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب , ومنهج البشر !
وقد سبق أن ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج يهود بني النضير من ديارهم، لأنهم نقضوا عهدهم معه، وتآمروا على قتله، وكان قد أخرج من قبلهم بني قينقاع، ولم يبق في المدينة المنورة من اليهود سوى بني قريظة، وكانوا أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلظهم كفرًا، ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم. وكان سبب غزوهم أنه خرج عشرون رجلاً منهم قبل غزوة الخندق، ومعهم آخرون من بني النضير إلى مكة، وأخذوا يحرضون قريشًا على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: نحن معكم ننصركم من الداخل ومن الخارج، وذهبوا إلى غطفان، وقالوا: انصروا قريشًا على محمد، وذهبوا إلى قبائل العرب يحرضونهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم كان من خبر حُيَيّ بن أخطب بعد غزوة الخندق أن جاء إلى بني قريظة في ديارهم، فقال قد جئتكم بعز الدهر، جئتكم بقريش على سادتها، وغطفان على قادتها، وأنتم أهل الشوكة والسلاح، فهلُمَّ حتى نناجز محمدًا ونفرغ منه. فقال له رئيسهم: بل جئتني، والله بذل الدهر. جئتني بسحاب قد أراق ماءه، فهو يرعد ويبرق. فلم يزل حُيَيٌّ يخادعه ويعده ويمنِّيه، حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حصنه، يصيبه ما أصابهم، ففعل. ونقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهروا سبَّه، فسار إليهم في موكبه من المهاجرين والأنصار، يتقدمه جبريل- عليه السلام- في موكبه من الملائكة، يزلزل الأرض من تحت أقدامهم، ويلقي في قلوبهم الرعب. وكانت نهايتهم جميعًا القتل بعد حصار دام خمسًا وعشرين ليلة. وكان من خبر مقتل حُيَيّ بن أخطب أنه أُتِيَ به، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما والله، ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله، يخذل. ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس ! إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس، فضربت عنقه.
فهؤلاء اليهود، في تزيينهم الشر والفساد للناس، وتحريضهم على قتال المسلمين، ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنْسانِ اكْفُرْ ﴾، ﴿ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ﴾، ﴿ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾.
وقوله تعالى:﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ ﴾ خبر ثان للمبتدأ المقدر قبل المثل الأول، مبيِّن لحال اليهود، متضمن لحال أخرى دائمة غير الحالة الأولى، كأنه قيل:﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾، ﴿ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾، في حلول العذاب بهم، ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ ﴾، في إفساده في الأرض، وإغرائه الإنسان بالكفر، وتحريضه على المعصية. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس، استغوى قريشًا يوم بدر وقال لهم:﴿ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾، فلما رأى الملائكة رجع القهقرى، وقال:﴿ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾(الأنفال: 48).
أما قول الشيطان للإنسان ﴿ اكْفُرْ ﴾ فالمراد به: أنه أغراه على الكفر إغراء الآمر للمأمور به. وأما قوله:﴿ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾ فإنما هو على سبيل الرياء، إذ ليس على ذلك عقيدته، لأنه لا يعرف الله حق معرفته، ولا يمنعه الخوف عن سوء يوقع ابن آدم فيه. وقيل: تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب، ولم ينفعه ذلك، كما قال تعالى:﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ﴾. وهذا من تمام المثل. أي: كان عاقبة الممثَّل بهما، وهما: الشيطان والإنسان، خسرانهما معًا، وكذلك تكون عاقبة الفريقين الممثلين أنهما خائبان فيما دبَّرا، وكادا للمسلمين.
وقرأ الجمهور:﴿ عَاقِبَتَهُمَا ﴾، بنصب التاء. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم:﴿ عَاقِبَتُهُمَا ﴾، برفع التاء، على أنه اسم ﴿ كَانَ ﴾، وخبرها:﴿أَنَّهُمَا فِي النَّارِ ﴾، على عكس قراءة الجمهور. وقراءة الجمهور أقوى، لأن كون اسم كَانَ مصدرًا مؤوَّلاً أبلغ من كونه اسمًا صريحًا.
وقوله تعالى:﴿ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ تذييل، والإِشارة إلى ما يدل عليه قوله تعالى:﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ﴾ من معنى. أي:﴿وَذَلِكَ﴾ الخلود في النار ﴿ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾. أي: الكافرين الذين تجاوزوا حدود الله تعالى، وحاربوا رسله. فكما كانت عاقبة الشيطان والكافر عاقبة سوء، كذلك تكون عاقبة المُمَثَليْن بهما، وقد اشتركا في الظلم.
بقلم: محمد إسماعيل عتوك