وبهذا تتم حكاية ما وقع ليهود بني النضير في تلك الصورة الموحية , وهذه الحركة المصورة المعبرة، وكان منهم من سار إلى خيبر , ومنهم من سار إلى الشام.. وكان من أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر سلامُ بنُ أبي الحقيق , وكنانةُ بنُ الربيع بنِ أبي الحقيق , وحُيَيُّ بنُ أخطب , ممَّن ورد ذكرهم بعد ذلك في تأليب المشركين على المسلمين في غزوة الأحزاب، ووقعة بني قريظة، وكان لبعضهم كذلك ذكر في فتح خيبر.
وكانت أموال بني النضير فيئًا خالصًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخمِّسها، لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل، ولا ركاب، وخمَّس قريظة. قال مالك:« خمَّس رسول الله قريظة، ولم يخمِّس بني النضير، لأن المسلمين لم يوجفوا بخيلهم، ولا ركابهم على بني النضير، كما أوجفوا على قريظة ». فقسمها صلى الله عليه وسلم على المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين، وذلك أن المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة، وتجردوا منه كله لعقيدتهم، وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم مالهم في أريحية عالية , وأخوة صادقة , وإيثار عجيب. فلما واتت هذه الفرصة سارع رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة الأوضاع الطبيعية في المجتمع الإسلامي، كي يكون للفقراء مال خاص بهم، وكي لا يكون المال متداولاً في الأغنياء وحدهم. وقال عليه الصلاة والسلام للأنصار:« إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم , ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ». فقالوا:« بل نقسم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها ». وهذا ما تحدثت عنه السورة الكريمة في مقطعها الثاني.
ثانيًا- بعد أن بيَّن الله عز ما حلَّ بيهود بني النضير، وما اتصل به من بيان أسبابه، وبيان مصارف فيْئهم وفَيْء ما يُفتَح من القرى بعد ذلك، أعقبه سبحانه وتعالى بذكر أحوال المنافقين الفاسدة مع إخوانهم من أهل الكتاب، وتغريرهم بالوعود الكاذبة، ليعلم المسلمون أن النفاق سجيَّة في أولئك لا يتخلون عنه، ولو في جانب قوم هم الذين يودُّون أن يظهروا على المسلمين، فقال سبحانه وتعالى:
﴿ ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم وَلا نُطِيعُ فِيكُم أَحَدًا أَبدًا وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ ﴾(الحشر: 11)
والآية- كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما- نزلت في رهط من بني عوف، منهم عبد الله بن أُبَىِّ بن سلول، بعثوا إلى بني النضير سرًّا، وقالوا لهم: اثبتوا في معاقلكم، فإنا معكم حيثما تقلبت حالكم. وإنما أرادوا بذلك أن تقوى نفوسهم عسى أن يثبتوا، حتى لا يقدر محمد عليه الصلاة والسلام عليهم، فيتم لهم بذلك مرادهم. وكانوا كاذبين فيما قالوا من ذلك، ولذلك لم يخرجوا حين أخرج بنو النضير، بل قعدوا في ديارهم.
والظاهر أن المراد بـ﴿ الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ عموم المنافقين، وبـ﴿ إِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾ عموم اليهود، ويدخل فيه يهود بني النضير دخولاً أوليًا، وهم الذين أخبر الله عز وجل عنهم في الآية الثانية من السورة بقوله:﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾(الحشر: 2).
والهمزة في قوله تعالى:﴿ ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ هي همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي، فصار الكلام إثباتًا، ومعناه التنبيه والتعجيب من حال هؤلاء. ويمكن أن يكون المخاطب على علم بمضمون هذا الخطاب قبل نزول هذه الآية، ويجوز أن يكون لم يعلم ذلك إلاَّ من هذه الآية. والخطاب في ذلك ونحوه، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن المراد به العموم، إذ هو صالح لطبقات المخاطبين. والغرض منه التحريض على النظر والحَثِّ على زيادته. وتركيب:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ﴾ يجرى في لسان العرب مجرى التنبيه، والتعجيب. ويقتضى معنى النظر المؤدي إلى الاعتبار؛ كما في هذه الآية الكريمة، وكما في قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾(الفرقان: 45).
وجملة:﴿ يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ ﴾ استئناف لبيان المُتعجَّب منه، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم. واللام للتبليغ. والمراد بهذه الأخوة: إما الصداقة والموالاة. وإما التوافق في الكفر والمعصية. فـ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾ كفار، لأنهم كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، و﴿ الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ إخوانهم في الكفر، ولو أنهم يلبسون رداء الإسلام، لأنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.
واللام في قولهم:﴿ لَئِن أُخرِجتُم ﴾ مُوَطِّئة للقسم. وجملة ﴿ لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم ﴾ جواب القسم المغني عن جواب الشرط. وجملة ﴿ لا نُطِيعُ فِيكُم أَحَدًا ﴾ معطوفة على جملة ﴿ لَئِن أُخرِجتُم ﴾، فهي من المَقول لا من المُقسَم عليه. ومعنى ﴿ لَنَنصُرَنَّكُم ﴾: لنعيننكم في القتال. والنصر والنصرة: العون، يطلق على الإِعانة على المعادي.
وقد أعلم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم كاذبون في ذلك، بعد ما أعلمه بما أقسموا عليه تطمينًا لخاطره، لأن الآية نزلت بعد إجْلاء بني النضير، وقبل غزو قريظة، لئلا يتوجَّس الرسول صلى الله عليه وسلم خِيفةً من بأس المنافقين، فقال تعالى:﴿ وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ ﴾. أي: لكاذبون في مواعيدهم تلك المؤكدة بالأيمان الفاجرة. وسمَّى الله تعالى هذا الخبر شهادة، لأنه خبر عن يقين بمنزلة الشهادة التي لا يتجازف المخبر في شأنها.
ثالثًا- أما قوله تبارك وتعالى:﴿ لَئِن أُخرِجُوا لا يَخرُجُونَ مَعَهُم وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُم ﴾(الحشر: 12) فهو بيان لما قبله، وتكذيب للمنافقين في كل واحد من أقوالهم على التفصيل، بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال. وقد سلك في هذا البيان طريق الإِطناب، فإن قوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ ﴾ جمع ما في هاتين الجملتين، فجاء بيانه بطريقة الإِطناب لزيادة تقرير كذبهم. وهذا تأكيد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن المنافقين لا يضرّونه شيئًا، لكيلا يعبأ بما بلغه من مقالتهم.
وأما قوله تعالى:﴿ وَلَئِن نَّصَروهُم لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ﴾(الحشر: 12) فهذا على سبيل الاحتمال والتقدير. والمعنى: أنه إن حدث أن المنافقين أرادوا نصر اليهود، ﴿ لَيُوَلُّنَّ ﴾ المنافقون ﴿ الأَدبَارَ ﴾ فرارًا، ﴿ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ﴾. أي: لا يُنْصَرُ اليهودُ بعد ذلك. فالضمير على هذا في:﴿ لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ﴾ عائد إلى المنافقين، وفي:﴿ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ﴾ عائد إلى اليهود، إذ الكلام جارٍ على وعد ﴿ الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ بنصر إخوانهم ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾. والمعنى: ولئن نصر المنافقون اليهودَ، ليولن هؤلاء المنافقون الأدبار فرارًا، ثم لا يجد اليهود بعد ذلك من ينصرهم. والمقصود: تأييس الذين كفروا من أهل الكتاب من النصر، وتثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وتأمينهم من بأس أعدائهم.
وقد تحقق ما أخبرت عنه الآيتان عن هؤلاء المنافقين، فإن يهود بني النضير عندما جَدَّ الجِّدُ، وحانت ساعة رحيلهم، أرسلوا إلى المنافقين يطلبون عونهم، فما كان من المنافقين إلا أن خذلوهم، وتحللوا من وعودهم لهم. وهذا من باب الإخبار بالغيب، وهو من أدلة النبوة، وأحد وجوه الإعجاز، وهذا مَبنيٌّ على أن السورة نزلت قبل وقعة بني النضير.
رابعًا- وبعد أن رسم الله تعالى للمنافقين تلك الصورة الموحية التي تكشف عن حقيقتهم المزيفة، توجه عز وجل بالخطاب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه البشارة:﴿ لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَفقَهُونَ ﴾(الحشر: 13).
واخْتُلِف في الضمير في ﴿ صُدُورِهِمْ ﴾، فقيل: يعود على اليهود. وقيل: يعود على المنافقين. وقيل: يعود على اليهود والمنافقين. والظاهر أنه يعود على اليهود الذين أخبر الله تعالى عنهم بقوله:﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾(الحشر: 2)، وهم الذين أخبر تعالى عنهم في الآية السابقة بقوله:﴿ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ﴾(الحشر: 12)، ويدخل فيه يهود بني قينقاع، ويهود بني النضير، وقريظة، وخيبر دخولاً أوليًّا.
وقد وصِفت شدَّة رهبتهم من المسلمين بأنها أشدُّ من رهبتهم من الله تعالى. ومن المعلوم أن رهبة جميع الخلق من الله أعظم وأشد رهبة، فإذا بلغت الرهبة في قلب أحد أن تكون أعظم وأشد من رهبة الله، فذلك منتهى الرهبة. والمقصود من هذه الآية الكريمة تهوين أمر أولئك اليهود في نفوس المؤمنين، ليعلموا أن عدوّهم مُرهَب منهم، وذلك مما يزيدهم إقدامًا في محاربتهم، إذ ليس سياق الكلام للتسجيل على اليهود قلة رهبتهم لله، بل إعلام المؤمنين بأن أولئك اليهود قد بلغ الجبن والخور فيهم مبلغًا كبيرًا لدرجة أن رهبتهم للمؤمنين كانت أشدَّ من رهبتهم لله عز وجل.
وإسناد ﴿ أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم ﴾ إلى ضمير المؤمنين ﴿ أََنتُم ﴾ إسناد سببيٌّ، كأنه قيل: لرهبتكم في صدورهم أشد من رهبتي فيها. فالرهبة هنا في معنى المصدر المضاف إلى مفعوله. وكل مصدر لفعل متعدٍّ يحتمل أن يضاف إلى فاعله، أو إلى مفعوله، ولذلك فسَّره الزمخشري بأشدَّ مرهوبية. فالرهبة على هذا واقعة منهم، لا من المخاطبين، لأن المخاطبين مرهوبون.
والرَّهْبَةُ: مَخافةٌ مع تحرُّزٍ واضطراب، ونقيضها: الرَّغْبَةُ، وهي السلامة من المخاوف. وقيل: الرَّهْبَةُ طول الخوف واستمراره، ومن ثَمَّ قيل للراهب: راهبٌ، لأنه يديم الخوف، وأصلُها من قولهم: جَملٌ رَهَبٌ، إذا كان طويل العظام مشبوحَ الخَلْق. وفي جَعْلِ الصدور مقرًّا للرهبة دليلٌ على تمكنها منهم، وإشارة إلى أنها رهبةٌ جِدُّ خَفيَّة، لا يعلمها إلا الله تعالى، وأن هؤلاء اليهود، مهما تظاهروا أمام المؤمنين بالبأس والقوة، فهم في قرارة نفوسهم يخافون المؤمنين خوفًا شديدًا.
والإشارة بـ﴿ ذَلِكَ ﴾ إلى المذكور من قوله تعالى:﴿ لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ﴾. وقوله تعالى:﴿ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَفقَهُونَ ﴾ تعليل لرهبتهم الشديدة من المؤمنين. أي: ذلك الخوف بسبب أنهم قوم لا يعلمون الله، ولا يفقهون عظمته، ولا يقدرونه حق قدره، ولا يعظمون كتبه، ولا يصدقون رسله، فاستحقوا بذلك أن يلقي الله تعالى في قلوبهم الرعب والخوف، وفي صدورهم الرهبة والخشية من جند الله المسلمين. ولو أنهم خافوا الله تعالى، ما خافوا أحدًا من عباده، فإنما هو خوف واحد ورهبة واحدة، ولا يجتمع في قلبٍ واحد خوفٌ من الله، وخوفٌ من شيء سوى الله، فالعزة لله جميعًا , وكل قوى الكون خاضعة لأمره، و﴿ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ﴾(هود: 56)، فمِمَّ يخاف- إذًا- ذلك الذي يخاف الله ? ولكن الذين لا يفقهون هذه الحقيقة يخافون عباد الله أشد ممَّا يخافون الله.
والإتيانُ بلفظ ﴿ قَوْم ﴾، ثم وصفُهم بأنهم ﴿ لا يَفقَهُونَ ﴾ يؤذن بأن عدم فقههم أمرٌ قد عرفوا به جميعًا، وصار من مقومات قوميتهم، لا يخلو عنه أحد منهم. والفِقْهُ هو فَهْمُ ما يحتاج إلى إعمال الفكر من المعاني الخفيَّة. وقد عرَّفه الراغب الأصفهاني في مفرداته بأنه:« التوصُّلُ إلى علم غائب بعلم شاهد ». وعرَّفه غيره بأنه:« إدراك الأشياء الخفية ». وهذا يعني: أنهم اتبعوا دواعي الخوف المُشاهد، وذهلوا عن الخوف المُغيَّب عن أبصارهم، وهو خوف الله تعالى، فكان ذلك من قلة فهمهم للخَفيَّات من الأمور، وعدم فقههم للمغيبات منها. وبهذا يكون الله تعالى قد كشف عن حقيقة هؤلاء القوم الواقعة، وقرَّر في الوقت ذاته تلك الحقيقة المجردة.
خامسًا- ويمضي السياق بعد ذلك، ليقرر حقيقة أخرى قائمة في نفوس هؤلاء ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾ , تنشأ من حقيقتهم السابقة , فيقول سبحانه وتعالى:﴿ لاَ يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ﴾(الحشر: 13)، وهو بدل اشتمال من قوله تعالى في الآية السابقة:﴿ لأَنتُم أشد رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ﴾، لأن شدة الرهبة من المؤمنين، تشتمل على شدة التحصُّن لقتالهم إياهم. أي: هؤلاء اليهود لا يبرزون لقتالكم مجتمعين متفقين إلا في قرى محصنة بالقلاع والخنادق، يظنون أنها تمنعهم منكم، أو من وراء جُدُرٍ، يتسترون بها دون أن يصْحَروا لكم، ويبرزوا لمواجهتكم.
صورة للجدار العازل في فلسطين المحتلة ويظهر فيه برج للمراقبة
واليهود لا يمكن لهم أن يعيشوا آمنين مطمئنين ﴿ إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ﴾(آل عمران: 112). فأما الحبل من الله فقد قطعوه بما فعلوه هم وأسلافهم من قتل للأنبياء، وتحريف لكتاب الله، وتكذيب لرسله. وأما الحبل من الناس فقد قطعوه بما جُبِلوا عليه من غدر وخيانة، وسَعْيٍ دائم بالفساد وللإفساد، ولهذا فهم يعيشون دومًا في خوف داخلي، ورعب يمتلك عليهم خلجات صدورهم. ودفعًا لهذا الشعور المتوارث في أجيالهم يلجؤون لاتخاذ الحصون المنيعة، والكهوف والمغارات، والجدر العازلة السميكة للتحصن بها، والعيش في حماها.
واتخاذ اليهود الحصون المنيعة، والجدر العازلة في مواجهة أعدائهم هو فكرة استلهموها من أفكار العهد القديم، وكانوا في الجاهلية يتفاخرون على قبائل الجزيرة العربية بأنهم أرباب الحصون المنيعة. وحصون يهود خيبر لا يزال صدى ذكراها يتردد عند الشعراء وأهل السير إلى يومنا هذا. وفي العصور الوسطى كان اليهود في روسيا هم أصحاب الأحياء المحصنة التي تجمعهم ويسمونها:( الفيتو )، لا يدخلها سواهم، ولا يعيش فيها إلا هم. وفي القرن العشرين من العصر الحديث كان اليهود هم أصحاب خط بارليف، وبناة الجدار العنصري العازل، والمستوطنات المحصنة على أرض فلسطين، وهي قلاع محصنة ذات أسوار محاطة بأسلاك شائكة، وجدر إلكترونية، ونقاط مراقبة، ودوريات تدور حولها على مدار الساعة. فكل مستعمرة صُمِّمت، لتكون بمنزلة قلعة حصينة، وقرية محصنة.
و﴿ قُرىً ﴾ جمع: قرية، وهو اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس. وسمِّيت القرية: قرية، لأنها تضم من يسكنها وتجمعهم، وهي من قولك: قريت الماء في الحوض. أي: جمعته فيه. و﴿ مُحَصَّنَةٍ ﴾. أي: مجعولة بالإحكام كالحصون المنيعة التي تمنع من دخول الأعداء. و﴿ جُدُرٍ ﴾ جمع: جدار، وهو الحائط. إلا أن الحائط يقال اعتبارًا بالإحاطة بالمكان، والجدار يقال اعتبارًا بالنتوِّ والارتفاع. يقال: جدرت الجدار. أي: رفعته. والجدار يحسن الاختباء خلفه لارتفاعه. قال تعالى:﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا ﴾(الكهف: 77). قيل: ارتفاعه مائة ذراع.
صورة للجدار العازل الذي يحيط بالمستوطنات الإسرائيلية