بقلم: عماد زكريا

حينما ذهبت أوروبا تبحث عن مخرج من العصور الوسطى حافظت على ثوابتها الذاتية، من خلال تمسكها بتراثها اليوناني والروماني، والغرب بصفة عامة انفصل عن الدين؛ لأنه اعتبر المسيحية دخيلة ووافدة، واعتبروا عيسى عليه السلام رجلًا شرقيًّا من بلاد الشام والعرب، فهو غريب عنهم؛ فلم يقبلوا هدايته ولا قيمه ولا أخلاقه، وأخذوا من المسيحية اسمها وشعارها فقط، وهكذا تشكل العقل الغربي من خلال الفلسفة اليونانية والأنظمة الرومانية، دون أن يكون للمسيحية أي أثر على أخلاقهم أو اقتصادهم أو اجتماعهم أو معتقداتهم، وإذا ما استقصينا مجمل الثقافة الأوروبية اليوم؛ فإننا سوف نجدها هي الثقافة اليونانية بلا فرق كبير.

فظاهرة العداء بين الإنسان وبين الله، واعتبار كل منهما ندًّا للآخر مأخوذة من أساطير اليونان، التي صورت الآلهة حربًا على الإسلام، ونظرية أحادية الوجود المادي التي تشيع في الفكر الغربي هي بعث لفكر المدرسة الطبيعية عند اليونان.

ونظرية التطور عند "إكسمندر" بُعثت من جديد على يد "داروين" و"لامارك"، ونظرية التغير والتطور المطلق هي بعث جديد لفكر "هيراقليطس"، ونظرية النسبية في الحقيقة والقيم والأخلاق هي إحياء للفكر السوفسطائي، والشيوعية المنهارة كانت تجديدًا لجمهورية "أفلاطون"، وفلسفة اللذة والجنس هي محافظة على فكر المدرسة "الأبيقورية".

إذًا هناك ثوابت للغرب وتراث مقدس حافظت عليه الحضارة الغربية الحديثة، ولم تسمح لأي فكر مخالف باختراقه، لا المسيحية ولا غيرها، وهذا هو الموقف الذي وقفته الحضارة الغربية من الإسلام، فحينما تم التواصل بين الطرفين في الحروب الصليبية وفي صقلية وفي الأندلس؛ لم يأخذوا من الحضارة الإسلامية ما يتعارض مع ثوابتهم الثقافية وتراثهم القديم، وإنما فصلوا بين العلم والثقافة ولم يأخذوا إلا الجانب العلمي التجريبي فقط.

أما الحضارة الإسلامية فقد وقفت موقفًا متوازنًا مع الحضارات الأخرى، فلم ترفض الحضارات السابقة رفضًا مطلقًا ولم تقبلها قبولًا مطلقًا، وإنما أخذت الجانب العلمي التجريبي وما يتفق مع روح الإسلام، ورفضت سائر القيم المنهارة.

إن التاريخ والواقع يؤكدان أن الغرب قد انفصل عن المسيحية وقيمها، حينما اخترع العلمانية كنظام للقيم والحياة يفرغ المسيحية تمامًا من مضمونها، بعد أن أذاق رجال الدين الإنسان الأوروبي الذل والهوان والقهر والبطش طيلة العصور الوسطى باسم المسيحية.

وباعتناق العلمانية، التي جاءت على أنقاض حكم الكنيسة، تخلص الغرب تمامًا من المسيحية، وتخلص من تعاليمها ليعيش حرًّا دون التزامات، وحاصرها في مربع ضيق يُسمى "الفاتيكان" و"قداسة البابا"، وقد أحاطوا البابا بتبجيل وتقدير للتعويض عما اقترفوه في حق المسيحية.

الغربيون حينما انقلبوا على الكنيسة ورجال الدين انقلبوا في الوقت نفسه على الدين المسيحي نفسه، وسرقوا من المسيحية كل شيء وجعلوها مجرد رمز وأبعدوها عن المشاركة في الحياة، وأصبحت حياتهم اليومية بعيدة كل البعد عن تعاليم المسيحية، فنرى الخمر محرمة عليهم دينيًّا لكنها روح حياتهم ومشروبهم الرئيسي، والزنا محرم لديهم دينيًّا لكنه أحد لوازم حياتهم اليومية .. إلخ.

هكذا هم في حياتهم، حيث تنتشر شواطئ العراة ونوادي القمار ومسارح الجنس، والقنوات الفضائية التي تبث الأفلام الإباحية كل دقيقة، واستحداثهم لنظم رعاية الشواذ، وعدم إنكار المجتمع لهم، وعمل منظمات تدافع عنهم وقنوات تبث شذوذهم، وسماحهم بزواج الجنس الواحد في حفلات زواج رسمية وبعقود موثقة، ولم يكتفوا بذلك بل أراد تعميم تجربتهم الحقيرة وفرضها على كل دول العالم من خلال قرارات دولية ومؤتمرات مشبوهة وندوات.

فأين كنائسهم من كل هذه الانحرافات والجرائم، لو كانت الحضارة الغربية حقًا تحترم المسيحية؟ وأين كنائسهم ومجتمعاتهم، لا شرف فيها للمرأة بعد أن حولوها إلى بضاعة تـُباع وتُشترى، ولم يتركوا لها حتى الاسم، حيث يُنزع اسم الأب ويحل محله اسم الزوج؟

وأين الكنيسة والمسيحية في حياتهم بعد أن تلاعب القوم بدينهم، وبعد أن أصبح مجرد التوقيع في شباك خارجي للكنيسة يُغني عن حضور الصلوات والطقوس، وبعد أن أصبح مجرد الاتصال الهاتفي أو إرسال رسالة بالفاكس يغني عن حضور الصلوات؟

إن الحقيقة والواقع يؤكدان أن الغرب يتشدق فقط باعتناقه المسيحية وحبها والدفاع عنها، لكن المؤكد أن هذا الغرب يحيا الآن دون ديانة، ولذلك نراهم يحاربون كل فضيلة تدعو إليها الأديان، ويسعون للشهوات سعيًا.

الخلفية المسيحية ربما تكون موجودة في الحضارة الغربية ولكنها كتراث فقط، أما المرجعية الأساسية فهي للفلسفة اليونانية، وهكذا أصبحت الحضارة الغربية في واقع الأمر ديناميكية الحداثة ذاتها، من حيث أرضيتها العلمية ـ التقنية، وأنظمتها المؤسسية.

الحضارة الغربية حضارة لا دينية، فقدت صلتها بالمطلق والمقدس، وبالتالي فهي تهدد الأمم الأخرى في أديانها ومللها، وهي أول حضارة في التاريخ لا تتأسس على العامل الديني، ولا يشكل هذا العامل حتى مرتكزًا أساسيًّا في أنظمتها القيمية والسلوكية.