فولتير والكتاب المقدّس..!

هاني الظاهري

كان الفيلسوف والمفكر الفرنسي الذي عاش في نهاية القرن السابع عشر وعرف باسمه المستعار (فولتير) أحد أعمدة التنوير في أوروبا عندما كانت تستفيق للتو لتنفض عن جسدها الظلام, ولطالما أثارت أفكاره السخط بين التقليديين والدينيين الذين وصفوه بالملحد رغم أنه كان مؤمناً ويتحدر من أسرة متدينة حتى أن والده كان أحد رجال الدين المعروفين في فرنسا آنذاك.

والحقيقة أن (فرانسوا ماري أوريه) وهذا اسمه الحقيقي لم يكن ضد الدين على الإطلاق كما تم تصويره بأقلام خصومه, بل كان مؤمناً بوجود الإله الخالق, لكنه كان ضد مصادرة العقل والحريات بغطاء ديني, وكان يتهم الكتاب المقدس (الإنجيل) بأنه (محرّف) لصالح من يهمهم تحريفه, وعاش طوال حياته ينشر قناعاته للدرجة التي جعلته ينقم على مكتشف الجاذبية (إسحاق نيوتن) لأنه قال ذات مساء إن أعظم كتاب في العالم هو الكتاب المقدّس!

لقد كان فولتير رمزاً للعقل المتحرر من قيود الكنيسة في أوروبا الغارقة في ظلام الكهنوت, وكان يردد دائماً أن المسيحية كديانة ستكون قد انمحت تماماً وصارت تاريخاً بعد 100 سنة مؤكداً أنه لن يكون هناك شيء اسمه الكتاب المقدس حينها! لكن ما الذي حدث بعد ذلك؟

لقد عمدت جمعية تسمى جمعية جنيف للكتاب المقدس إلى شراء منزل فولتير بعد وفاته وشراء مطبعته أيضاً وأصبح الكتاب المقدس الذي حاربه طوال حياته يطبع في تلك المطبعة, بل إن بيته الذي توفي فيه أصبح داراً لنشر الكتاب المقدس!
وفيما أخذ رجال الكهنوت في أوروبا يهنئون بعضهم بهذا الانتصار الكبير على من اعتبروه ألد خصومهم في ذلك العصر كانت شعوب أوروبا بأجمعها تنسل من بين أصابعهم, مودعة عصر حكم الكنيسة.

ولم تمض 100 سنة حتى لم تعد في أوروبا كلها دولة دينية بالمعنى الحرفي للكلمة سوى (الفاتيكان), لكن ماذا عن توقعات فولتير بأن المسيحية ستكون قد انمحت تماماً وأنه لن يكون هناك شيء اسمه الكتاب المقدس؟

إن أخذنا الأمر بشكل سطحي فسنحكم على توقع فولتير بالفشل الذريع, أما إن نظرنا إليه نظرة فلسفية فسنجد أن الأمر مختلف بشكل كبير.

لقد تقلصت مظاهر الثقافة المسيحية في معظم مناطق أوروبا وتقلصت معها مفاهيم كثيرة كمفهوم الأسرة التي هي اللبنة الأساسية للمجتمع المسيحي, وتم تفريغ الإنجيل من مضامينه الحقيقية في الإطار العملي, واستقر في نهاية المطاف في الكنائس, وهو ما يؤكد صحة توقعات فولتير إن نظرنا إليها بنظرة فلسفية كما أشرت, خصوصاً إن أخذنا في الحسبان أننا نتحدث عن توقعات أحد أشهر (الفلاسفة) في تاريخ القارة الأوروبية.

ورغم هذا كله ما زالت جمعية جنيف للكتاب المقدس تعتقد أنها انتصرت على فولتير ومرغت فكره في التراب بتحويلها منزله لدار نشر للكتاب المقدس, وهو ما يثبت لنا أن الانتصار في معارك الفكر أمر نسبي قد يدعيه كلا الطرفين المتخاصمين ويؤمنان به, لكن التاريخ وحده هو الحكم فالأفكار لا تموت وإنما يموت أصحابها بينما الأفعال التي تأخذ صورة الانتقام تزول بزوال أصحابها من هذا العالم.

http://www.aleqt.com/2009/02/09/article_193968.html