و لكن كونــوا ربانيين
الصفة الأولى / العلــــــم

{ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ } ، هكذا قرأها جمهور القراء ، " تَعْلَمُونَ " بالفتح، إذن هم علماء وهذه من أخص صفاتهم، " وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ " ، إذن هم أساتذة وشيوخ وفقهاء ومفتون، أقبلوا على علم الشريعة ، علم الكتاب والسنة ، فرفعهم الله تعالى به .
قال تعالى : " يرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُواْ العِلْمَ دَرَجَاتٍ " ، و قال سبحانه : " شهدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَ المَلائِكَةُ وَ أُولُوْا العِلْمِ " ، فقرن أولي العلم وأشهدهم على ذلك مع ملائكته ومع ذاته المقدسة ، فدل على قدرهم ، و قال عز و جل : " فاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ " ، فبدأ بالعلم قبل القول و العمل .
هم علماء ، و العلم حياة ، و لهذا قال الشاعر :
أخو العلم حيٌ خالدٌ بعـــدَ موتِهِ *** و أوصالهُ تحتَ التُّرابِ رَمِيمُ
و ذو الجهلِ مَيْتٌ وهو ماشٍ عَلَى الثَّرى*** يُظَنُّ مِنَ الأَحيَاءِ و هو عَديمُ

و قال آخر :
و في الجهلِ قبلَ الموتِ موتٌ لأهلهِ *** و أجسامهمْ قبلَ القبورِ قبورُ
و أرواحهمْ في وَحشةٍ من جسومهمْ *** و ليسَ لهم حَتَّى النشورِ نشورُ

فهم أمواتٌ غير أحياء بجهلهم، ولو كانت أسماؤهم على كل لسان ، فأنت اليوم مثلاً لو سألناك عن أعظم عالمٍ في القرن السادس الهجري و أوائل السابع ، لقلت : شيخ الإسلام ابن تيمية ، فأصبح يعرفه الكبير و الصغير ، لكن لو سألناك مثلاً من هم تجار ذلك القرن ، هل تعرفهم ؟ و من هم قواد الجيش في ذلك القرن ؟ و من هم أصحاب السلطة و الجاه في ذلك القرن بأسمائهم ؟ قد لا تعرفهم ، لكن ابن تيمية من الذي لا يعرفه ؟ كلما تقدم الزمن زادت شهرته و مكانته ، حتى إن مكانته اليوم - و أجزم بهذا - عند المسلمين أعظم بكثيرٍ من مكانته يوم كان حياً يتحرك بينهم ، ففي ذلك الوقت كان خصومه كثير ، حاربوه و أحرقوا كتبه و كادوا له ، حتى وقع في غياهب السجون و منعت فتاواه زماناً ، بل و كادوا أن يضربوه في بعض المناسبات ..
لكن اليوم أبى الله عز و جل إلا أن يظهر حقَّه على باطلهم ، و ماتوا و بقي ابن تيمية حياً .
يا رُبَّ حيٍِّ رُخامُ القّبرِ مَسكنُهُ *** و رُبَّ مَيْتٍ عَلَى أقدامِهِ انتصَبَا
ملايين من الناس اليوم ، في الوظائف و الأسماء و التجارات و الأعمال لا يعرفهم أحد ، و لا يحزن عليهم إن ماتوا أحد !
و الغريب أن العلم الشرعي بالذات على رغم هذه المكانة ، لا يختاره إلا القليل ، لأن أمام طلبه عقباتٌ و عقباتٌ تنقصمَ لها الظهورَ و تنكسرَ الأعناقُ ، و العجيب أيضاً أن العالم يكون موضع عتب من الناس فيما قد ينسبونه إليه من تقصير ، أو يظنونه فيه من قول أو فعل ، فهم يلومونه و يقولون : " العالم الفلاني غفر الله له ، عنده أرضٌ في المكان الفلاني ، و العالم الفلاني سمع المنكر و لم يغيره ، و مرة من المرات فعل كذا و كذا و أغلظ في القول لرجلٍ عنده " ، فيعدون عليه أخطاء فعلها ، يظنونها أخطاء ، و هي قد لا تكون كذلك ، و قد تكون من خطأ البشر ، فنقول لهم ، نوافقكم على ذلك ، هبوا أن ما تقولونه عن هذا العالم - الذي هو فعلا عالمٌ – صحيحٌ و أنه أخطأ ! :
و مَن ذَا الَّذِي تُرضَى سَجَايَاه كلُّها ** كفى المرءَ نُبْلاً أن تُعَدَّ معايبُهْ !
هذا العالم عددتم له أخطاء ، خمسة أو عشرة ، لكن أنا و أنت و فلان و علان ، من يحصي أخطاءنا ؟
وقف رجل يوماً المنبر فتكلم ، فقام إليه أحد الحضور و سأله سؤالاً ، فقال : لا أدري ! قال : تصعد المنبر و أنت لا تدري ؟ ، قال : إنما علوتُ بقدر علمي ، و لو علوت بقدر جهلي لبلغتُ عنان السماء !
أقول : يعتبون على هذا العالم في خمسة أخطاء أو عشرة ، يظنونها أخطاء وقع فيها هذا العالم ، و لكن ننسى أننا ملومون على مسألة أكبر ، و هي لماذا كان هذا عالماً و لم نكن نحن علماء ؟ لماذا تركنا نحن التعلم و التعليم ؟
بعضنا لعله معذور لم يعطه الله تعالى الآلة من الذكاء و الفهم و الفطنة ، و قد يكون بعضنا لم تتيسر له أسباب تحصيل العلم ، و قد يكون بعضنا في بلادٍ بعيدةٍ و نائيةٍ لم يستطع أن يتعلم ، دعك من هؤلاء كلهم ، لكن كثيرون تمكنوا و عندهم عقلٌ و ذكاءٌ و فطنةٌ و حفظ ، و الأسباب أمامهم ميسورة مبسوطة ، و مع ذلك لم يتعلموا !
أحيانا يخطر في ذهني سؤال ، العلماء المشاهير ، أمثال ابن باز و ناصر الدين الألباني و ابن عثيمين و ابن جبرين ، أين زملاؤهم على مقاعد الدراسة أو في مجالس طلب العلم ؟ و مثلهم علماء في البلاد الإسلامية كلها بطولها و عرضها !
لقد كان كل واحد منهم يوماً طالباً في حلقةٍ له فيها على الأقل عشرون زميلاً ، أين هم ؟ أكثرهم تأخروا عن الركب ، و بقي هو وحيداً في السـاحة ، لأنه أصر على طلب العلم و أصر على المواصلة ، أما هم فكثيرٌ منهم قد يكونون يشغلون وظائف عادية كغيرهم من الناس ، لا يتميَّزون عنهم بشيء إلا أن الواحد منهم ربما تمدَّح في المجالس و قال : أنا من زملاء فلان و علان !
طيب إذا كنت من زملائه لماذا لم تكن مثله ؟ و لم تعمل عمله ؟ هو تلقى العلم مثل ما تلقيت ، فلماذا ظهر هو و خفيت أنت ؟ و نفع هو و لم تنفع أنت ؟
ذكر ابن القيم رحمه الله عن الشافعي أنه إذا رأى رجلاً سأل عنه ، فإن كان صاحب علمٍ و عملٍ تركه ، و إلا عاتبه الشافعي عتاباً مرَّاً و قال له : " لا جزاك الله خيراً ، لا عن نفسك و لا عن الإسلام ، ضيَّعتَ نفسك و ضيَّعتَ الإسلام !!" .
انظروا ، الشافعي رجل مؤدب ، و لكنه كان يحترق قلبه فيغلظ في العتاب ، و العتاب يزيل الوحشة بين الأحباب ، فقد كان من الممكن أن يصبح عالماً يشار إليه بالبنان و يرفع الله به الجهل عن أمة من الناس ، و لكن لم يكن هذا إلا لتقصيره !
و الغريب في الأمر أنك لم تكتف بالتقصير ، بل زدتَ على ذلك أن توجِّه سهام اللوم و العتب إلى من قطعوا هـذا المشوار الذي عجزت أنت عن قطعه !
إذن لا بدَّ من الدعوة إلى العلم ، فالعلم خير كله ، حتى الكلاب المعلمة فضَّلها الله عز و جل : { مكلبينَ تُعَلِّمُونَهُنَ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله ، فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكنَ عَلَيكُمْ } ، فالكلب المعلم يتميز في الصيد عن الكلب غير المعلم ، فكيف بالإنسان الذي فضله الله تعالى و اختاره و اصطفاه ؟
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }
سالم