بسم الله الرحمن الرحيم

نتابع الشرح لعقيدة الجهاد:

أحكام الغنائم:
وَتُمْلَكُ الغَنِيمَةُ بِالاستِيلاَءِ عَلَيْهَا فِي دَارِ الحَرْبِ. وَهْيَ لِمَنْ شَهِدَ الوَقْعَةَ مِنْ أَهْلِ القِتَالِ، فَيُخْرِجُ الخُمُسَ..
قوله: «وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب» أي: إذا قاتل المسلمون أعداءهم، وهزم الأعداء، واستولى المسلمون على المال، فإن المال يكون ملكاً للمسلمين، ولو كانوا في دار الحرب، أي في ديار الكفار.
فمثلاً: لو قاتلنا الكفار، ودخلنا عليهم أرضهم وهربوا وتركوا الأموال فإننا نملك الأموال، ولو كانت في دار الحرب، ولا يلزم أن نحوزها إلى بلاد الإسلام، هذا معنى قول المؤلف: «في دار الحرب» ، فلا يشترط أن نحوزها إلى ديار الإسلام، بل بمجرد الاستيلاء عليها تكون ملكاً لنا، وإذا كانت ملكاً هل يجوز أن تقسم هناك؟ الجواب: نعم يجوز أن تقسم هناك؛ لأنها ما دامت ملكت فلا حاجة إلى تأخير قسمتها، فيعطى كل إنسان ما يناله منها ويتصرف به يميناً وشمالاً، وإن خيف من شر فللإمام ألا يقسمها إلا في بلاد الإسلام.
قوله: «وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال» وهم الرجال الذين يقاتلون، فمن شهد منهم فإنه يقسم له، وأما من جاء بعد انتهاء الحرب فإنه لا شيء له منها، وكذلك من انصرف قبل بدء الحرب فإنه ليس له منها شيء، وإنما هي لمن حضر الوقعة من أهل القتال، واستدل المؤلف في الشرح بقول عمر ـ رضي الله عنه ـ: «الغنيمة لمن شهد الوقعة»[(17)]، وأما من لم يشهدها فإنه لا حظَّ له فيها.
قوله: «فيخرج الخُمس» الضمير يعود على الإمام أو نائبه، أي: يخرج الإمام الذي هو الرئيس الأعلى في الدولة أو من ينوب عنه كقائد الجيش ـ مثلاً ـ الخمس، أي: خمس الغنيمة؛ لقول الله تعالى: {{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}} [الأنفال: 41] ، فيخرج الخمس ويصرف على ما ذكر الله في القرآن: {{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}}، فهؤلاء خمسة، إذاً الخمس يقسم خمسة أسهم فيكون: (لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم) من أصل الغنيمة جزء من خمسة وعشرين جزءاً.
وأين يصرف هذا؟
الجواب: خمس الخمس يكون فيئاً في مصالح المسلمين، هذا هو الصحيح.
وقيل: ما لله فهو فيء، وما للرسول صلّى الله عليه وسلّم فللإمام؛ لأن الإمام نائب مناب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الأمة، ولكن الصحيح أن ما لله وللرسول صلّى الله عليه وسلّم يكون فيئاً يدخل في بيت المال ويصرف في مصالح المسلمين.
{{وَلِذِي الْقُرْبَى}}، وهم قربى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، هؤلاء هم أصحاب خمس الخمس.
وكيف يقسم بينهم؟
قيل: يقسم بينهم بحسب الحاجة، وقيل: بل للذكر مثل حظ الأنثيين[(18)]، وقيل: بل الذكر والأنثى سواء.
أما من قال: بحسب الحاجة، قال: لأننا نعلم أن من مقاصد الشرع دفع الحاجات، لكن خص ذوي القربى؛ لأنهم أحق الناس بمثل هذه الغنيمة.
وأما من قال: هم سواء، فقال: لأنهم يستحقونه بوصفٍ وهو القرابة، وهذا يستوي فيه الذكور والإناث، كما لو وقف على قريبه فإنه يستوي الذكر والأنثى.
وأما من قال: إنه يفضل الذكر على الأنثى، فقال: لأن الإرث في القرابة يكون هكذا للذكر مثل حظ الأنثيين.
والأقرب الأول وهو أننا نراعي الحاجة، فإن كانوا كلهم سواء في الغنى أو في الحاجة أعطيناهم بالتساوي.
{{وَالْيَتَامَى}} جمع يتيم، وهو من مات أبوه قبل أن يبلغ، وسواء كان ذكراً أو أنثى، وهل يختص بالفقراء منهم[(19)] أو لا يختص؟.
الصحيح أنه لا يختص؛ لأننا لو جعلناه خاصاً بالفقراء لم يكن لعطف المساكين عليهم فائدة.
فالصواب أن اليتيم يستحق خمس الخمس من الغنيمة ولو كان غنيّاً؛ جبراً للنقص الذي حصل له بفقد أبيه، ولا سيما إذا كان اليتيم مترعرعاً في الشباب، أي يعرف قدر وجود أبيه، ويعرف ما يفوته بفقد أبيه، لكن لا شك أن من كان أحوج فهو أحق.
{{وَالْمَسَاكِينِ}} هم الفقراء، وهنا يدخل الفقراء في اسم المساكين.
{{وَابْنَ السَّبِيلِ}} هم المسافرون الذين انقطع به السفر، فيعطون ما يوصلهم إلى سفرهم، يعطون تذكرة أو متاعاً أو ما أشبه ذلك مما يحتاجون إليه.
وهل الفيء كالزكاة، بمعنى أنه يجوز الاقتصار على واحد من هؤلاء، أو يجب التعميم؟
المشهور من المذهب أنه يجب التعميم، أي: أننا نعمم بحسب القدرة والطاقة، فمثلاً اليتامى في البلد لا نقول: إنه يجزئ أن نعطي ثلاثة منهم، أي: أقل الجمع، بل نبحث عن كل يتيم في البلد ونعطيه من هذا الذي هو خمس الخمس، أما مستحق الزكاة فقد سبق أنه يجوز الاقتصار على واحد.
فإن قال قائل: ما الفرق؟ قلنا: الفرق أنه ثبت في السنّة جواز الاقتصار على واحد كما في حديث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» [(20)]، ولم يذكر بقية الأصناف مع أن هذا بعد نزول الآية، وأما هنا فقال الله تعالى: {{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}} [الأنفال: 41] ، فكل من قام به هذا الوصف استحق.

ثُمَّ يَقْسِمُ بَاقِي الغَنِيْمَة لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلِلفَارِسِ ثَلاَثَةُ أسْهُمٍ، سَهْمٌ لَهُ وَسهْمَانِ لِفَرَسِهِ. .
قوله: «ثم يقسم باقي الغنيمة للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه» الباقي أربعة أخماس، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك في خيبر، جعل للراجل ـ الذي على رِجْله ـ سهماً واحداً، وللفارس ثلاثة أسهم[(21)]، لماذا فرَّق بينهما؟.
الجواب: لأن غَناء الفارس ونفعه أكثر من غناء الراجل.
فإذا قال قائل: فماذا تقولون في حروب اليوم؟ فالناس لا يحاربون على خيل وإبل، بل بالطائرات والدبابات وما أشبهها؟.
فالجواب: يقاس على كل شيء ما يشبهه، فالذي يشبه الخيل الطائرات؛ لسرعتها وتزيد ـ أيضاً ـ في الخطر، والذي يشبه الإبلَ الدباباتُ والنقلياتُ وما أشبهها، فهذه لصاحبها سهم ولها سهمان، والراجل الذي يمشي على رجله مثل القناصة له سهم واحد.
فإن قال قائل: الطيار لا يملك الطائرة، فهل تجعلون له ثلاثة أسهم؟.
نقول: نعم نجعل له ثلاثة أسهم سهم له وسهمان للطائرة، وسهما الطائرة يرجعان إلى بيت المال؛ لأن الطائرة غير مملوكة لشخص معين، بل هي للحكومة، وإذا رأى ولي الأمر أن يعطي السهمين لقائد الطائرة فلا بأس؛ لأن في ذلك تشجيعاً له على هذا العمل الخطير.



وَيشَارِك الجَيْشُ سَرَايَاهُ فِيمَا غَنِمَت، وَيُشَارِكُونَهُ فِيمَا غَنِمَ. وَالغَالُّ مِن الغَنِيمَةِ يُحْرَقُ رَحْلُهُ كُلُّهُ إِلاَّ السِّلاَحَ وَالمُصْحَفَ.
قوله: «ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت ويشاركونه فيما غنم» لأن الجيش واحد، والمراد سراياه التي يبثها إذا دخل دار الحرب، وسبق أنه يمكن أن يبعث سرية في ابتداء القتال، وسرية في الرجوع بعد القتال، وما غنمته السرايا يضم إلى غنيمة الجيش، وكذلك غنائم الجيش تضم إلى غنائم السرايا، لكن سبق أن للإمام أن ينفل الثلث في الرجعة والربع في البدأة، قال ابن المنذر: روينا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ترد سراياهم على قَعدهم» [(22)]، والعلة واضحة أن هذا جيش واحد انطلق في وجه واحد فصاروا شركاء.
قوله: «والغال من الغنيمة» الغال من كتم شيئاً مما غنمه واختصه بنفسه، والغلول من كبائر الذنوب، وقد قال الله تبارك وتعالى: {{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}} [آل عمران: 161] ، وحذر النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وبين أن الإنسان يأت بما غل يوم القيامة إن كان شاة أو بعيراً أو أي شيء، يأتي به حاملاً إياه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد[(23)]، فهو إذاً من الكبائر، حتى أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكر أن رجلاً غل شملة فقال: «... إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً» [(24)]؛ والعياذ بالله.
قوله: «يحرق رحله كله» ظاهر كلامه أن هذا واجب، أي: يجب أن يحرق رحله كله.
قوله: «إلا السلاح» كالسيف والبندق وما أشبه ذلك.
قوله: «والمصحف» لاحترامه.

وَمَا فِيهِ رُوْحٌ ..................
قوله: «وما فيه روح» لأن ما فيه روح لا يعذب بالنار، مثل البعير والفرس، وما عدا ذلك فإنه يحرق مثل الدراهم التي كدراهمنا الآن وهي أوراق، والأواني، وشداد البعير، والسَّرْج، والمِقْوَد، وما أشبه ذلك.
وهنا نقول: لماذا يحرق؟ أفلا يكون من الأحسن أن يضاف إلى الغنيمة؟ أو من الأحسن أن يؤدب صاحبه بالضرب مثلاً، ويكون المال له؟.
الجواب: لا؛ لأن المقصود بهذا التحريق هو التنكيل بهذا الرجل، ومصلحة التنكيل أكبر من مصلحة ما يُضم إلى بيت المال أو إلى الغنيمة من المال، فيكون في هذا مصلحة أكبر من مصلحة المال الذي يحصل لو لم يُحرق، وأما كونه يُحرق ولا يُتلف بنوع آخر أو يُتصدق به فلأن هذا هو الوارد عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، وقال يزيد بن جابر: السنّة في الذي يغلّ أن يحرق رحله[(25)].
ولكن هل كلام المؤلف صحيح في أنه يجب إحراقه، أو نقول: إن الإحراق راجع إلى اجتهاد الإمام؟.
الجواب: المذهب هو أنه يجب إحراقه، والذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أن هذا راجع إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى من المصلحة أن يحرق حرقه، وإن رأى أن يبقيه أبقاه، ولكن لا بد أن ينكل بهذا الغال.

َإِذَا غَنِمُوا أَرْضاً فَتَحُوهَا بالسَّيْفِ خُيِّرَ الإِمَامُ بَيْنَ قَسْمِهَا وَوَقْفِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ويضْرِبُ عَلَيْهَا خَرَاجَاً مُسْتَمِرّاً يُؤْخَذُ مِمَّن هِي بِيَدِه. ............
قوله: «وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف خُيِّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين، ويضرب عليها خراجاً مستمرّاً يؤخذ ممن هي بيده» ، «إذا غنموا» الواو الفاعل تعود على المسلمين، «أرضاً» أي: من الكفار، «فتحوها بالسيف» ويسمى الفتح بالسيف عَنوة؛ لأنهم أخذوها قهراً.
مثال ذلك: قاتل المسلمون قرية ففتحوها، وجلا عنها أهلها، وصارت بأيدي المسلمين كالغنائم من الأمتعة وغيرها مما ينقل، في هذه الحال يُخير الإمام بين شيئين: إما أن يقسمها بين الغانمين، وإما أن يوقفها على المسلمين عموماً، ويضرب عليها خراجاً مستمرّاً، فإن قسمها على المسلمين فله في ذلك سلف، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه قسم أرض خيبر بين المسلمين[(26)]، وإن لم يقسمها وجعلها وقفاً للمسلمين، وأعطاها الناس وضرب عليها خراجاً مستمرّاً فله في ذلك سلف، وهو عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ[(27)]، فإن عمر بن الخطاب قال: «إذا قسمت الأرض بين المقاتلين الآن لم ينتفع بها من بعدهم»، وهي أرض ليست شيئاً منقولاً تتلف بمرّ الزمن، بل هذه ستبقى أبد الآبدين إلى يوم القيامة، فكوني أقسمها بين الغانمين، وتبقى ملكاً لهم يتوارثونها فيما بينهم، ويتبايعونها فيما بينهم، هذا يحرم بقية أجيال المسلمين، فأنا أبقيها وقفاً وأضرب عليها خراجاً.
والخراج أن يقول مثلاً: كل ألف متر عليه ألف ريال سنويّاً يُؤخذ ممن هي بيده، فإن كانت بيد من عمرها بيتاً أخذ من صاحب البيت، وإذا كانت بيد من زرعها وغرسها أُخذت من الزارع والغارس، وهي تشبه ما يسمى عندنا هنا «بالصبرة»، وما يسمى في الحجاز: «بالحكرة أو الحكورة»، أي: أن تبقى الأرض لا تُملك، للمسلمين، لكن من هي بيده أحق بها من غيره، وعليه مقابل كونه ينتفع بها دراهم يقدرها الإمام، ولهذا قال: «بين قسمها ووقفها على المسلمين» ، وهذا التخيير تخيير مصلحة وليس تخيير تَشَهٍّ؛ وذلك للقاعدة التي سبقت (أن من خُيِّر بين شيئين ويتصرف لغيره وجب عليه فعل الأصلح، وإن كان لنفسه فله أن يعدل إلى الأسهل سواء كان أصلح أو غير أصلح)، ولذلك نقول: من عليه كفارة يمين فهو مخير بين أيها شاء: عتق رقبة أو الكسوة أو الإطعام، حتى لو اختار الأقل، وهو الإطعام ـ في الغالب ـ فله ذلك.
ويجب على الإمام أن يستشير أولي الرأي بين أن يقسم الأرض بين الغانمين، ويجعل لكل إنسان أرضاً يتصرف فيها وتورث من بعده، وبين أن يجعلها وقفاً على المسلمين وليست ملكاً ولا يدخل فيها الإرث[(28)]، ويضرب عليها خراجاً مستمرّاً تؤخذ ممن هي بيده، بمعنى أنها تكون كأجرة تؤخذ ممن هي بيده كل عام، قد يكون الأفضل الأول وقد يكون الأفضل الثاني، حسب الحال.

والمَرْجِعُ فِي الخَرَاجِ والجِزْيَةِ إِلَى اجْتِهَاد الإِمَامِ ...............
قوله: «والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام» أي: المرجع في الخراج الذي يوضع على الأرض المغنومة إلى اجتهاد الإمام، أما الجزية ـ فذكرها المؤلف هنا استطراداً ـ وهي التي تُوضع على كل فرد من أفراد أهل الذمة عوضاً عن إقامتهم في دارنا وحمايتهم، وهذه ـ أيضاً ـ مرجعها إلى الإمام، ومعلوم أن هذه تختلف باختلاف الأراضي والأزمان واختلاف الأشخاص في باب الجزية، فيرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، لكنهم قالوا: إذا وضعه من سبقه، فإنه لا يجوز للثاني تغييره ما لم يتغير السبب، فمثلاً ما وضعه عمر ـ رضي الله عنه ـ على الأراضي الخراجية ـ وإن كان الأمر الآن قد اندرس ـ لا يجوز أن نغيره الآن بزيادة أو نقص إلا إذا وجد سبب التغيير، بأن تكون الأراضي رخصت فننزل، أو زادت فنرفع الخراج حسب الحال، أما إذا لم يوجد سبب فالواجب اتباع ما ضربه الإمام الأول على هذه الأرض وعلى أهل الذمة، والذي يظهر لي أن مثل هذه المسائل إذا لم تكن صادرة من النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنها من أمور القضاء الوقتي، أي التي رأى الخلفاء في ذلك الوقت أنها أنسب.
مسألة: هل يتعلق الخراج بذمة المورث؛ ويكون دَيناً في ذمته تتعلق به نفسه بعد موته، أو هو على من انتقلت إليه؟.
الجواب: الثاني، إلا إذا كان بقي من الخراج الذي أدركه الأول حيّاً شيء فإنه يتعلق بذمته، فمثلاً: لو مضى عليه خمس سنوات لم يؤد الخراج، ثم مات فهذا يتعلق بذمته خمس سنوات، وما بعدها يتعلق بمن انتقلت إليه الأرض من الورثة.
وبهذا التقرير يطمئن الإنسان الذي اشترى بيتاً فيه صبرة، ثم أدى الصبرة التي حلت في حياته ومات، فهل نقول: هذه الصبرة تتعلق بذمة الميت؟.
الجواب: لا تتعلق؛ لأنه برئت ذمته في حياته.
وكذلك ـ أيضاً ـ لو أن الأرض المصبرة بيعت من شخص، فهل للذي صبرها الأول أن يرجع على البائع، أو يرجع على المشتري الذي هي بيده؟
الجواب: الثاني؛ لأنه جرت العادة أن الصبرة يُطالب بها من كانت العين في يده فلا يُطالب بها البائع.
قد يقول المصبر الأول: أنا صبرتك أنت فأعطني صبرتي؟ فيقال: لا؛ لأنه جرت العادة على أنه إذا باعها أن يطالب المشتري كالأرض الخراجية سواء.

وَمَنْ عَجَزَ عَن عِمَارَةِ أرْضِهِ أُجْبِرَ عَلَى إِجَارَتِهَا، أوْ رَفْعِ يَدهِ عَنْهَا. وَيَجْرِي فِيهَا المِيرَاثُ، وَمَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ كَجِزْيَةٍ وَخَرَاجٍ وَعُشْرٍ، وَمَا تَرَكُوهُ فَزَعاً، وَخُمسِ خُمسِ الغَنِيْمَةِ، فَفَيءٌ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ........
قوله: «ومن عجز عن عمارة أرضه أجبر على إجارتها أو رفع يده عنها» هذا رجل من الناس اقتطع أرضاً من الأرض الخراجية يريد أن يزرعها، مساحتها كيلو مثلاً، فالإمام يجب أن يعطيه؛ لأن هذا من مصلحة المسلمين؛ إذ سيعود الدخل إلى بيت مال المسلمين، وبعد أن أخذها عجز عن عمارتها، نقول له: يجب عليك أحد أمرين، إما أن ترفع يدك ليأخذها غيرك، وإما أن تؤجرها، لأنه إذا عجز عن عمارتها وبقيت أرضاً بيضاء وأردنا أن نطالبه بالخراج فمن أين نأخذ؟ فيضيع حق المسلمين.
ولو طلب مهلة علينا أن نعطيه مهلة بشرط ألا يفوت بها موسم الزرع، فإن طلب مهلة يفوت بها زرعها لم نعطه؛ لئلا تتعطل الأرض ثم يتعطل خراجها.
قوله: «ويجري فيها الميراث» أي: الأرض الخراجية يجري فيها الميراث، فإذا مات إنسان قد استولى على أرض خراجية انتقلت الأرض بخراجها إلى الورثة، فإذا قال الورثة: لا نريدها ما دام قد ضرب عليها خراج، نقول لهم: ارفعوا أيديكم عنها، وتعطى أناساً آخرين، ولا نجبرهم عليها؛ لأن الذي التزم بها هو مورثهم.
قوله: «وما أخذ من مال مشرك» المراد بذلك من لا يدين بالإسلام، سواء كان يهوديّاً، أو نصرانيّاً، أو وثنيّاً، أو غير ذلك، المهم أنه كافر لا يدين بالإسلام.
قوله: «كجزية» التمثيل بالجزية، وما عطف عليها يدل على أنه أخذ بغير قتال؛ وذلك لأن ما أخذ من مال الكفار بالقتال فهو غنيمة، لكن هذا أخذ بغير قتال.
والجزية هي ما يوضع على أفراد أهل الذمة من يهود ونصارى، وغيرهم على القول الراجح.
قوله: «وخراج» كذلك ـ أيضاً ـ الخراج وهو المال المضروب على الأرض الخراجية التي غنمت ثم وقفت على المسلمين.
قوله: «وعشر» العشر يؤخذ من كل كافر اتجر في بلاد الإسلام[(29)]، ثم إن كان حربيّاً أخذنا منه العشر، وإن كان ذميّاً أخذنا منه نصف العشر، وهو حق للمسلمين وليس هذا بمكس، لأنه إذا اتجر في بلاد المسلمين يكون هو المستفيد، ويجوز للحربي أن يطلب الأمان؛ ليدخل التجارة إلى بلاد المسلمين ويبيعها ثم يمشي، فنأخذ عليه عشر التجارة بمعنى أنه إذا كان ما معه يساوي عشرة آلاف نأخذ منه ألفاً، أما إذا دخل بغير أمان فإننا نأخذه هو وماله؛ لأنه حربي.
أما إذا كان ذميّاً فنأخذ منه نصف العشر؛ لأن الذمي له شيء من الحق، وإن كان مسلماً لا نأخذ شيئاً، إذاً الناس ثلاثة أقسام:
الأول: الذمي، فهذا نأخذ منه نصف العشر، أي: واحداً من عشرين.
الثاني: الحربي، الذي دخل بأمان، ونأخذ منه العشر كاملاً أي: واحداً من عشرة.
الثالث: المسلم، ولا يحل لنا أن نأخذ منه شيئاً؛ لأنه محترم بماله ونفسه.
قوله: «وما تركوه فزعاً» أي: ما تركه الكفار فزعاً منا، يعني لما علموا بأن المسلمين أقبلوا عليهم هربوا وتركوا الأموال، فهذه الأموال أخذت بغير قتال فتكون فيئاً؛ وذلك لأن المقاتلين لم يتعبوا في تحصيلها فلا تقسم بينهم، بل تكون فيئاً يصرف في مصالح المسلمين العامة، كرَزْقِ القضاة، والمؤذنين، والأئمة، والفقهاء، والمعلمين، وغير ذلك من مصالح المسلمين.
قوله: «وخمس خمس الغنيمة ففيء يصرف في مصالح المسلمين» خمس خمس الغنيمة هو واحد من خمسة وعشرين جزءاً يصرف في الفيء؛ وخمس خمس الغنيمة هو أن الغنيمة إذا غنمت يؤخذ منها الخمس لخمسة أصناف، وتقسم أربعة الأخماس الباقية على الغانمين، والخمس الذي يؤخذ أولاً يصرف إلى خمس جهات لقوله تعالى: {{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}} [الأنفال: 41] ، ولكن كيف يتم صرفه؟.
الجواب: لا بد أن يكون على ما فيه مصلحة للمسلمين، قال شيخ الإسلام في كتاب السياسة الشرعية: لا يجوز أن يُصرف هذا في غير المصالح فضلاً عن أن يعطى المغنِّين والمتمسخرين وما أشبه ذلك؛ لأن هذه منافع محرمة، فلا يجوز أن تبذل الأموال فيها، وإنما تبذل في المصالح، وهنا أسئلة:
أولاً: هل إصلاح الطرق من المصالح؟ الجواب: نعم من المصالح.
ثانياً: هل إقامة السدود على الأودية من المصالح؟ الجواب: نعم من المصالح.
ثالثاً: هل غرس الأشجار في مواقف الناس التي يحتاجون إلى الوقوف فيها من المصالح؟ الجواب: نعم من المصالح.
إذاً المصالح عامة، فكل ما فيه مصلحة للمسلمين في دينهم أو دنياهم فإنه يؤخذ من بيت المال، ولا يجوز أن يصرف هذا الفيء، أعني بيت المال إلا فيما فيه مصلحة للمسلمين، فأما ما لا مصلحة فيه فإنه لا يجوز أن يصرف منه قرش واحد؛ لأن هذا من إضاعة المال، وإذا كان الإنسان منهيّاً عن إضاعة المال الذي يملكه، فكيف بإضاعة المال الذي هو للمسلمين عموماً.
وإذا بذل في محرم صار فيه إثمان:
الأول: اقتطاع جزء من مال المسلمين في غير مصالحهم.
الثاني: أنه صرف في المحرم فهو إعانة على المحرم.
ولهذا نقول: إن مسؤولية من يتولون أموال المسلمين، أشد من مسؤولية من يتولى مال اليتيم، أو مال سفيه، أو مال نفسه؛ لأن هذا يتعلق به جميع حقوق المسلمين، فكل المسلمين لهم حق فيه، ولا يخفى ما جرى لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فيما يذكره أهل التاريخ، أنه كان ـ رضي الله عنه ـ في إحدى الليالي يمشي في شوارع المدينة يتفقد الناس فوجد ناراً فذهب إليها، وكان معه مولى يُقال له: أسلم، فذهب إلى هذه النار فوجد امرأة عجوزاً عندها صبيان جوعى يصيحون، وقد أوقدت النار تحت قِدر ليس فيه إلا الماء لتسكتهم به، فجاء إليها وقال: ما لك يا أمة الله؟ قالت: هؤلاء صبيان، قال: ما الذي في القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به، الله بيننا وبين عمر ـ كلمة عظيمة ـ، عمر ولاه الله على العباد لا بد أن يسأله الله عن هذه الولاية، فقال لها ـ وهي لا تعلم أنه عمر ـ: ما أدرى عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا ولا يدري عنا؟ هذه كلمة أكبر من الأولى.
فذهب مسرعاً ـ رضي الله عنه ـ إلى خزانة الطعام وأخذ كيساً من دقيق، وأخذ ما يقابله من الودك وحمله، فقال له مولاه أسلم: يا أمير المؤمنين أنا أحمله، قال: إنك لو حملته عني لم تحمل عني أوزاري يوم القيامة، ثم خرج به وجعل هو ينفخ في النار حتى إن الدخان يتخلل لحيته، ويصب من الدقيق والودك في هذا القدر حتى طبخ هو بنفسه، خليفة المسلمين من مشرق الأرض إلى مغربها يطبخ بنفسه لهذه العجوز!! لأنه يطبخ مخلصاً لله بذلك ليبرئ ذمته بهذا، ففعل ثم تنحى ناحية وجلس وقال: والله لا أرجع حتى أرى هؤلاء الصبيان الذين يبكون يتضاحكون، فشبعوا من الطعام وجعلوا يضحكون ويتصارعون، فذهب وقال لها: إذا كان غداً فأتي إلى عمر، وذهب وهي لا تدري من هذا الرجل، قالت: والله إنك لخير لنا من عمر[(30)]؛ لأن عمر على زعمها نائم في فراشه، وهذا يتفقد الناس ويأتي إليهم بالطعام، فالمسؤولية عظيمة جداً، نسأل الله تعالى أن يعين ولاة أمورنا على ما فيه خير البلاد والعباد.
يقول صاحب الروض المربع[(31)]:
«فصل في الأمان والهدنة»
«يصح الأمان من مسلم عاقل مختار غير سكران ولو قِنّاً أو أنثى، بلا ضرر في عشر سنين فأقل، منجَّزاً ومعلقاً، من إمام لجميع المشركين، ومن أمير لأهل بلدة جعل بإزائهم، ومن كلِّ أحد لقافلة وحصن صغيرين عرفاً، ويحرم به قتل، ورق، وأسر».
قوله: «يصح الأمان» الأمان: عبارة عن تأمين الكافر مدة محدودة، أي يؤمن حتى يبيع تجارته ويرجع، أو حتى يشاهد بلاد المسلمين ويرجع، أو حتى يسمع كلام الله ويرجع، وهذا التأمين ليس عقداً بل أمان فقط، ولهذا صح من كل إنسان حتى من امرأة، وحتى من قن، لكن لا بد أن يكون المُؤَمِّنُ مسلماً، فلو فرضنا أن في البلد طوائف متعددة، نصارى ومشركين، لكنهم باقون في عهد المسلمين، فهؤلاء لا يصح منهم أن يؤمّنوا كافراً يدخل من بلاد الكفر؛ لأنهم لا يُؤْمَنُونَ، فقد يكون بينهم وبين هذا الطالب للأمان اتفاق فيؤمِّنونه حتى يأتي ليأخذ أسرار المسلمين وأحوالهم.
ولا بد أن يكون عاقلاً، وضده المجنون؛ لأن المجنون لا عقل له ولا قصد له.
ومختاراً لا مكرهاً، فلو دخل كافر مسلح، ووجد رجلاً من المسلمين وقال له: أمّنِّي وإلا قتلتك، فأمَّنه مكرهاً، فهذا الأمان لا يصح، ولكن اشترط المؤلف للأمان ألا يكون فيه ضرر على المسلمين، وأن يكون في عشر سنين فأقل، أي: لا يملك أي إنسان أن يُؤَمِّنَ الكافر أكثر من عشر سنين.
قوله: «منجَّزاً ومعلَّقاً» منجَّزاً مثل: أمَّنتك.
ومعلَّقاً مثل إذا دخل الشهر الفلاني فأنت في أمان.
قوله: «من إمام لجميع المشركين» أي: يصح الأمان من إمامٍ لجميع المشركين؛ لأن ولايته عامة، فجاز أن يكون تأمينه عامّاً.
قوله: «ومن أمير لأهل بلدة جعل بإزائهم» هذا أقل من عموم المشركين، فأهل البلدة يؤمِّنهم أمير جعل بإزائهم، مثل أن يكون هناك قرية مسلمة وعليها أمير مسلم، وبجانبها قرية كافرة فيؤمِّنها هذا الرجل المسلم.
قوله: «ومن كل أحد لقافلة وحصن صغيرين عرفاً» أيُّ واحد من عامة المسلمين يؤمن القافلة الصغيرة والحصن الصغير أو الرجل أو الرجلين وما أشبه ذلك، فإنه جائز.
وما الذي يترتب على الأمان؟.
الجواب: قوله: «ويحرم به» أي: بالأمان.
قوله: «قتل ورق وأسر» أي: إذا أعطينا الأمان لشخص حرم قتله ورقه وأسره؛ لأنه قد أعطي الأمان، والمسلمون هم أشد الناس وفاءً بالعهود. ومن طلب الأمان؛ ليسمع كلام الله، ويعرف شرائع الإسلام لزم إجابته ثم يرد إلى مأمنه، ودليل ذلك قوله تعالى: {{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}} [التوبة: 6] ، لكن بشرط ألاَّ نخاف أنه قال ذلك احتيالاً ومكراً، فإن خفنا هذا فإننا لا نؤمنه؛ لأنه يخشى من شره.
قوله: «والهدنة عقد الإمام أو نائبه على ترك القتال مدة معلومة ولو طالت بقدر الحاجة» كلامه هنا لا يخالف كلامه الأول، فالكلام الأول إنما هو تأمين فقط، وكلامه هنا عن عقد يكون بين الإمام وبين الكفار كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديبية[(32)]، واشترط المؤلف بقوله: «عقد الإمام أو نائبه» أن الهدنة لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه، ومعروف أن الإمام هو الذي له الولاية العامة على كل المسلمين، ولكن هذا فُقد من أزمنة طويلة، وأقر المسلمون الوضع على ما هو عليه، وقالوا: كل إنسان ولي أمرٍ على البلاد التي تحت سيطرته فتجب طاعته، كما ذكره الصنعاني في سبل السلام، وغيره ـ أيضاً ـ من أهل العلم.
قوله: «على ترك القتال مدة معلومة» فلا يصح أن يقول: نحن عاهدناكم مدة ألاّ نقاتلكم؛ لأنها مجهولة، فلا بد أن تكون معلومة.
ولو قال: نعقد الهدنة بيننا حتى يكون لنا قدرة على القتال، فلا تصح لأنها غير معلومة.
قوله: «ولو طالت لكن بقدر الحاجة» ، «لو» إشارة خلاف؛ لأن بعض العلماء يقول: لا تجوز الهدنة مع الكفار إلا في عشر سنين فأقل، أما أكثر من ذلك فلا تجوز
والحجة في هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سالم قريشاً لمدة عشر سنوات، قالوا: والأصل وجوب قتال وجهاد الكفار، فلا نعدل عن هذا الأصل إلا بمقدار ما جاءت به السنة، والسنة جاءت بعشر سنوات فلا نزيد، فإن زاد على هذا بطلت الزيادة.
وقيل: يبطل العقد كله، وهذا مبني على تفريق الصفقة المعروفة في كتاب البيع.
والصفقة إذا باع الإنسان شيئاً يجوز بيعه وشيئاً لا يجوز، هل يبطل البيع في الجميع أو فيما لا يجوز؟.
الجواب: فيما لا يجوز.
مثاله: باع عبداً وحرّاً، أو باع سيارته وسيارة جاره، وجاره لم يوكله، فيصح بيع سيارته دون سيارة جاره.
وقيل: يبطل البيع كله.
والمذهب أنه لا بأس أن تزيد المدة على عشر سنين إذا كان في ذلك حاجة، وتقدير النبي صلّى الله عليه وسلّم المدة بعشر سنين؛ لأنه رأى أن هذا كافٍ، وأن المسلمين سوف يقوون، وتزيد قوتهم في هذه المدة فيكون تقدير المدة لا لاختصاصها بهذا القدر، ولكن تبعاً للحاجة.
فالمذهب أنها تصح مؤقتة ولو عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أكثر إذا دعت الحاجة لذلك، مثل أن يعرف المسلمون أنهم ضعفاء لا يستطيعون في خلال خمس سنوات، أو عشر سنوات، أو عشرين سنة أن يقابلوا العدو فلهم أن يزيدوا إلى المدة التي تقتضيها الحاجة.
وقال شيخ الإسلام: يجوز عقد الهدنة مطلقاً بدون تحديد إذا كان في ذلك مصلحة، ولكن يكون هذا عقداً جائزاً، بمعنى أن للمسلمين أن ينقضوه إذا رأوا مصلحة في نقضه، فصارت الأقوال ثلاثة:
القول الأول: لا يجوز أن يعقد السلام أو الهدنة أكثر من عشر سنوات[(33)].
القول الثاني: يجوز أكثر لكن يحدد؛ لأن العقد على وجه الإطلاق يعني إبطال الجهاد.
القول الثالث: يجوز مطلقاً بدون تحديد للمصلحة، ولكن هذا القول يجعله عقداً جائزاً، بمعنى أن المسلمين إذا رأوا من أنفسهم القوة نبذوا العهد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، ولكن لا بد أن يُعلموا عدوهم بأننا عقدنا معكم هذه الهدنة للحاجة، والآن لا نحتاجها، فإما أن تسلموا، وإما أن نقاتلكم، وهذا الذي قاله شيخ الإسلام هو قياس المذهب في أن المرجع في ذلك إلى المصلحة، ولو زاد على عشر سنين، فما دمتم تقولون: إننا نزيد على عشر السنوات التي حددها الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الصلح بينه وبين قريش من أجل المصلحة، فلنقل أيضاً: قد نظن أن المصلحة في عشر سنوات ـ مثلاً ـ أو عشرين سنة، ولكن يتبين أننا نحتاج إلى وقت أطول، فإذا أطلقناها وصار لنا الحق في أن نقول لهؤلاء القوم: نحن أطلقناها ولم نقيد مدة معينة فإذا لم نقيد مدة معينة، فإنكم لا تلزموننا بشيء، ونقول لهم: هذا إذا قوينا وصار عندنا قدرة نستطيع أن نجبرهم على الإسلام، أو دفع الجزية إن كانوا من أهل الجزية.
قوله: «وهي لازمة يجوز عقدها للمصلحة حيث جاز تأخير الجهاد لنحو ضعف بالمسلمين» ، «وهي» الضمير يعود على الهدنة، «لازمة» ؛ لأنها عهد بيننا وبين الكفار، وليعلم أن العهد الذي بيننا وبين الكفار له ثلاث حالات كلها في القرآن:
الحال الأولى: أن ينقضوا العهد هم بأنفسهم، فإذا نقضوا العهد انتقض العهد الذي بيننا وبينهم.
ومثاله: قصة قريش؛ لأن قريشاً نقضوا العهد حين ساعدوا حلفاءهم على حلفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وحينئذ ينتقض العهد، والدليل قوله تعالى: {{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ *}{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}} [التوبة: 12، 13] .
الحال الثانية: أن يستقيموا لنا ولا نخاف منهم خيانة ولم نر منهم خيانة، فحينئذ يجب علينا أن نستقيم لهم كما قال الله تعالى: {{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}} [التوبة: 7] .
الحال الثالثة: أن نخاف منهم نقض العهد، فهنا لا يلزمنا أن نبقى على العهد، ولا يجوز لنا أن نقاتلهم، بل ننبذ إليهم على سواء، وإليه الإشارة في قوله تعالى: {{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}} [الأنفال: 58] ، أي: انبذ العهد على سواء؛ لتكون أنت وإياهم على سواء في أنه لا عهد بينكم، وهذا هو الإنصاف؛ لأن الدين الإسلامي أقوم الأديان وأعدلها، فما استقاموا لنا فإننا نستقيم لهم، وإن نقضوا عهدنا فلا عهد لهم، وإن خفنا منهم ننبذ إليهم على سواء، فنقول: لا عهد بيننا وبينكم، ولا نأتيهم على غرة ونباغتهم؛ لأن الأصل قيام العهد.
قوله: «تجوز بشرط حيث جاز تأخير الجهاد لنحو ضعف بالمسلمين» وفي وقتنا هذا فينا ضعف؛ لذلك تجوز الهدنة على المذهب بدون تقييد، ولكن لا بد أن تكون المدة معلومة مقيدة.
قوله: «ولو بمال منا ضرورة» أي: ولو كان عقد الهدنة بمال، وعقد الهدنة بمال إما أن يكون منهم، وإما أن يكون منا ولا ثالث لذلك، ويكون منهم إذا كانوا هم الضعفاء فيفرحون أن نأخذ منهم ضريبة مالية وندع جهادهم، ويكون منا إذا كان الضعف فينا، ولهذا قيدها المؤلف بقوله: «لو بمال منا ضرورة» وهذا إشارة خلاف؛ لأن بعض العلماء يقول: لا يجوز أن نعطيهم على الهدنة مالاً أبداً، ولهذا «لما شاور النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ على أن يعطي مالاً في مقابلة المصالحة أبوا، وقالوا: لا يمكن يا رسول الله، في الجاهلية لا يقدرون أن يدخلوا المدينة إلا بأمان ليأخذوا التمر، فكيف نعطيهم الآن تمراً من المدينة[(34)]؟» فوافقهم النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فقال بعض العلماء: إن عرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك يدل على الجواز، وقال بعض العلماء: إن موافقته للسعدين يدل على المنع، وأن هذا ذل للمسلمين أن يبذلوا مالاً لعدوهم، ولكن يقال: بذل المال أهون من القتل إذا كان العدو قويّاً، وليس لنا به طاقة إطلاقاً، فإن بذل شيء من أموالنا أهون من أن يسحقنا العدو نحن وأموالنا، فالمسألة كلها تعود إلى المصلحة ودفع الضرر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
قوله: «ويجوز شرط رد رجل جاء منهم مسلماً للحاجة» أي: لو شرط هؤلاء الكفار أنه من جاء منهم مسلماً رددناه إليهم كان ذلك شرطاً جائزاً، لكن إذا دعت الحاجة إليه، ومن دعاء الحاجة إلى ذلك أن يتوقف الصلح على هذا الشرط، فإذا توقف الصلح على هذا الشرط، وقالوا: لا نصالحكم إلا بهذا الشرط، فإن لنا أن نشترطه.
فإن قال قائل: في هذا غضاضة علينا.
قلنا: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك بأمر الله، فإن قريشاً اشترطوا عليه أن من جاء منهم مسلماً رده عليهم وفعل ذلك، وجعل الله لمن جاء مسلماً ورد إليهم فرجاً، حتى إنهم هم بأنفسهم أرسلوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يقولون: امنع الذين جاؤوا وأسلموا وألغ الشرط ففعل، والقصة مع أبي بصير ـ رضي الله عنه ـ؛ لأن أبا بصير جاء مسلماً من قريش فأرسلوا في طلبه رجلين، فما إن وصل المدينة حتى وصل الرجلان، ثم طلبا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرد إليهم هذا الرجل الذي جاء مسلماً فرده إليهم حسب الشرط، ولما كان في أثناء الطريق وجلسوا يتغدون، قال لأحدهم: أرني سيفك هذا فإنه سيف جيد فأراه إياه؛ لأنه قال: هذا الرجل أسير في أيدينا؛ فلما أخذه ضرب به عنقه حتى أطار رأسه، وصاحبه الثاني هرب إلى المدينة وجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فلحقه أبو بصير، وقال: يا رسول الله إن الله أبرأ ذمتك وأوفى بعهدك ورددتني إليهم، ولكن الله أنجاني منهم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ويل أمه مِسْعَر حرب لو يجد من ينصره» ففهم أبو بصير ـ رضي الله عنه ـ أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم سيرده، فخرج من المدينة وجلس على قاعدة في البحر، وصار إذا مرت به تجارة لقريش أغار عليها وأخذها، فسمع به أناس من أهل مكة من الشبان فخرجوا إليه، فصاروا طائفة، وحينئذ عجزت قريش عنهم، فانتهى الأمر بردهم إلى المدينة[(35)]، والحمد لله.
قوله: «وأمَرَهُ سرّاً بقتالهم والفرار منهم» أي: نعطيه إياهم، ونقول: إن أمكنك أن تقتل أحداً منهم أو تقاتل فافعل، أو أمكنك أن تفر منهم فافعل، لكن إلى حيث لا يصلون إليك، فلا تأت إلينا، فإنك إن أتيتنا رددناك إليهم.
قوله: «ولو هرب قن فأسلم لم يردّ وهو حرّ» أي: هرب عبدٌ مملوك من سيده من الكفار فأسلم لم يرد إليهم خوفاً من أن يرتد إلى الكفر؛ لأنه قن فيأخذه سيده ويكرهه على الكفر فيكفر.
قوله: «ويؤخذون بجنايتهم على مسلم من مال، وقَوَد، وحَدّ» الضمير في قوله: «يؤخذون» يعود على المعاهدين الذين بيننا وبينهم عهد، فلو أخذوا مال مسلم وجب عليهم رده، ولو قتلوا مسلماً قتلوا إذا أمكن، ولو قذفوا مسلماً حدُّوا للقذف؛ لأنهم معاهدون.
قوله: «ويجوز قتل رهائنهم إن قتلوا رهائننا» أي: لو كان بيننا وبينهم رهائن، وأحياناً يخافون أن ننقض العهد ونحن نخاف أن ينقضوا العهد فنقول: أعطونا رهائن، وهم أيضاً يقولون: أعطونا رهائن، أي: أشخاصاً يكونون عندهم، إذا غدر أحد قُتِل هؤلاء الرهائن، فإن قتلوا رهائننا فلنا أن نقتل رهائنهم.
فإن قال قائل: كيف نقتل رهائنهم وقد قال الله تعالى: {{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}} [الإسراء: 15] ؟
قلنا: لأن القوم طائفة واحدة، فجناية واحد منهم جناية من الجميع.
واستفدنا من كلام المؤلف أنه يجوز أن نعطي الكفار رهائن، ولكن بشرط أن يعطونا رهائن، أما أن نعطيهم رجالنا يقتلونهم متى شاؤوا دون أن يكون لدينا رهائن نقتلهم إذا قتلوا رهائننا، فهذا لا شك أنه لا يجوز، لكن إذا أخذوا منا رهائن فإننا نطلب منهم مقابل ذلك.
قوله: «وإن خيف نقض عهدهم أعلمهم أنه لم يبق بينه وبينهم عهد قبل الإغارة عليهم» دليل ذلك قوله تعالى: {{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}} [الأنفال: 58] ، أي: أنت وهم سواء في أنه لا عهد بينكم، أما أن تغير عليهم بدون أن تعلمهم فإن هذا لا يجوز؛ لأن الأصل بقاء العهد، وقد ذكرنا فيما سبق أن المعاهدين ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
الأول: من نقض العهد، فهؤلاء انتقض عهدهم ونقاتلهم.
والثاني: من استقام على العهد، فهؤلاء نستقيم على عهدهم؛ لقوله تعالى: {{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}} [التوبة: 7] .
والثالث: من خيف منه نقض لعهد، فهذا لا نغير عليه ولا نؤمِّنه، ولكننا نقول له: إن العهد الذي بيننا وبينكم قد نقض، وإذا انتقض العهد جاز لنا أن نغير عليهم.