فما ظنك بنفسك وضعف قلبك ، والله عز وجل يكرر عليك ذكر إحسانه إليك ، ومخالفتك له ، وقلة حيائك منه ، فأعظم به موقفاً ، وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية ، وأعظم بما يداخلك من الحزن والغمَّ والتأسف على ما فرطت في طاعته وركوبك معصيته . فإذا تبالغ فيك الجهد من الغم والحزن والحياء بدا لك منه أحد الأمرين : الغضب أو الرضا عنك والحب لك . فإما أن يقول : يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، فقد غفرت لك كبير جرمك وكثير سيئاتك ، وتقبلت منك يسير إحسانك ، فيستطير بالسرور والفرح قلبك فيشرق لذلك وجهك .
فتوهم نفسك حين قالها لك ، فابتدأ إشراق السرور ونوره في وجهك بعد كآبته وتكسفه من الحياء من السؤال ، والحسرة من ذكر مساوئ فعلك ، فاستبدلت بالكآبة والحزن سروراً في قلبك ، فأسفر وجهك وابيضَّ لونك .
فتوهم رضاه عنك حين سمعته منه ، فثار في قلبك فامتلأ سروراً وكدت أن تموت فرحاً وتطير سروراً ، ويحق لك ، فأي سرور أعظم من السرور والفرح برضا الله عز وجل ؟ ! فو الله تعالى لو أنك مت فرحاً في الدنيا حين توهمت رضاه في الآخرة لكنت بذلك حرياً ، وإن كنت لم تستيقن برضاه في الآخرة ، ولكن آملاً لذلك ، فكيف بك مستيقناً له في الآخرة ، ولو توهمت نفسك ، وقد بدا لك منه الرحمة والمغفرة كنت حقيقاً أن تطير روحك من بدنك فرحاً ، فكيف أن لو قد سمعتَ من الله عز وجل الرضا عنك والمغفرة لك ، فأمن خوفك ، وسكن حذرك وتحقق أملك ورجاؤك بخلود الأبد ، ولأيقنت بفوزك ونعيمك أبداً [ لا يفنى ] ولا يبيد بغير تنقيص ولا تكذيب .
فتوهم نفسك بين يدي الله عز وجل وقد بدا لك منه الرضا ، وطار قلبك فرحاً ، وابيضَّ وجهك وأشرق وأنار وأحال عن خلقته ، فصار كأنه القمر ليلة البدر . ثم خرجتَ على الخلائق مسروراً بوجهٍ محبور قد حل به أكمل الجمال والحسن ، يسطع نوراً مشرقاً بتلألئه ، تتخطَّاهم بالجمال والحسن والنور والضياء ، كتابك بيمينك ، أخذ بضبعيك ملك ينادي على رؤوس الخلائق : هذا فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً . لقد شهرك ربك عز وجل بالرضا عنك عند خلقه ، ولقد حقق حسن ظن الظانين ، وأبطل تهم المتهمين لك ، وإن في هذه المنزلة غداً على رؤوس الخلائق لعوضاً من المنزلة عند العباد بطاعته والتصنع لهم زهداً في المنزلة عندهم ، والتعظيم عندهم بطاعة ربه عز وجل بصدق معاملته وحده لا شريك له ، عوضك المنزلة الكبرى على رؤوس الخلائق ، فشهرك برضاه عنك وموالاته إياك .
فتوهم نفسك وأنت تتخطى الخلائق ، وكتابك في يمينك بجمال وجهك ونوره ، وفرح قلبك وسروره ، وقد شخصت أبصارهم إليك غبطة لك وتأسفاً على أن ينالوا من الله عز وجل ما نلت ، فليعظم من الله عز وجل في طلب ذلك أملك ورجاؤك ، فإنه عز وجل إن تفضل عليك نلت ذلك .
فهذا أحد الأمرين الذي أنت بينهما على خطر .
22- عن صفوان بن محرز قال : كنتُ آخذاً بيد عبد الله بن عمر ، فأتاه رجل فقال : كيف سمعت رسول الله يقول في النجوى ؟ فقال : سمعت رسول الله يقول : " إن الله عز وجل يُدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه يستره من الناس ، فيقول : يا عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا ؟ فيقول : نعم يا رب ، ثم يقول : يا عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك ، قال : إني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم . ثم يُعطى كتاب حسناته ، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : ﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ " .
23- قال : بينا عبد الله بن عمر يطوف بالبيت إذ عارضه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن ، كيف سمعت رسول الله يقول في النجوى ؟ فذكر مثله .
24**- وقال سعيد : قال قتادة : ( لم يحزن يومئذ أحد فخفي حزنه على أحد من الخلائق ) .
25*- وعن ابن مسعود أنه قال : ( ينشر الله عز وجل كنفه يوم القيامة على عبده المؤمن ، ويبسط كفه لظهرها ، فيقول : يا ابن آدم هذه حسنة قد عملتَها في يوم كذا وكذا قد قبلتها ، وهذه خطيئة قد عملتَها في يوم كذا وكذا قد غفرتها لك ، فيسجد ، فيقول الناس : طوبى لهذا العبد الصالح الذي لم يجد في صحيفته إلا حسنة ـ أو قال : في كتابه ) .
26*- وعن عبد الله بن حنظلة قال : ( إن الله عز وجل يقف عبده يوم القيامة فيبدي حسناته في ظهر صحيفته فيقول له : أنت عملت هذا ؟ فيقول : نعم أي رب ، فيقول : إني لن أفضحك به اليوم وإني قد غفرت لك اليوم فيقول عندها : ﴿ هآؤم اقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيهْ ﴾ حين نجا من فضيحة يوم القيامة ) .
وأما الأمر الآخر : فإما أن يقول لك : عبدي أنا غضبان عليك فعليك لعنتي ، فلن أغفر لك عظيم ما آتيت ، ولن أتقبل منك ما عملت ، فيقول لك ذلك عند بعض ذنوبك العظيمة : أتعرفها ؟ فتقول : نعم وعزتك ، فيغضب عليك فيقول : وعزتي لا تذهب بها مني ، فينادي الزبانية فيقول : خذوه . فما ظنك بالله عز وجل يقولها بعظيم كلامه وهيبته وجلاله .
يتبع >>>>
المفضلات