الوثائق التاريخية بين التزوير والتدمير


تساهم الوثائق التاريخية في تطور الدراسات الإنسانية، وتسهل أيضا استشراف المستقبل والإعداد له، وفي أعراف الشعوب والدول اليقظة تعتبر الوثيقة التاريخية جزءا لا يتجزأ من السيادة القومية، وتصل في بعض الأحيان إلى درجة القداسة، لذلك كانت هدفا دائما للتزوير والسرقة والتدمير.
الوثيقة التاريخية حسب علماء الآثار والتاريخ لا تشمل فقط المكتوبات، بل هي كل شيء يشير إلى تاريخ أو حضارة معينة، فالنقش في الحجر والمعدن والورق أو الرسومات أو الزخرفات أو حتى مخربشات، كلها نصوص تاريخية تقدم لنا جانبا من حقبة تاريخية، وعليه فهي تكتسي أهمية خاصة، وفي هذا السياق يقول الباحث العراقي كوركيس عواد: «(سجلات الأشوريين والسومريين والبابليين) هي مجموعة من المدونات الرسمية يطلق عليها السجلات.. والتي يرى البعض أنها خزائن للوثائق على اعتبار أن كتابة الوثائق سبقت تدوين الكتب، لأنها تخدم أمور الناس الحياتية»، وبالفعل أثبت التاريخ أن الوثيقة المكتوبة سبقت الكتاب، وقد تفضل بعض الدول والجماعات تضمين كنوزها المعنوية في وثائق متفرقة على جمعها في مؤلفات ضخمة، ربما لسهولة التعامل معها وتناقلها بين الأجيال. وكان عجبا أن يسجل التاريخ الكثير من عمليات الاعتداء على الوثيقة والمصدر التاريخي عموما، ونحصرها في ثلاثة مستويات:
- الزيادة والنقصان في النصوص بهدف التأثير على المضامين.
- سرقة وإخفاء الوثائق والمصادر من أجل المتاجرة أو الاستغلال.
- حرقها ودفنها وإغراقها أو تقطيعها بغرض إبادتها.
وقد تعددت أسباب تزوير وسرقة وتدمير الوثيقة والمصدر التاريخي، منها الرغبة في ترسيخ عقيدة خاطئة وإيهام الناس بمعطيات مناقضة للحقيقة، والخوف من سلطة العلم والمعرفة، والجشع والحقد والتعصب، وإذلال الشعوب وحرمان الأجيال من أصولها ومرجعيتها وتسهيل عملية غزو البلدان.
عادة ما تتم عمليات تزوير الوثائق بيد أشخاص خبراء في قلب الحقائق، وقد سجل التاريخ عمليات كثيرة لتزوير وثائق خطيرة، وكان أخطرها ما تعرضت له وثائق الدين المسيحي من زيادة ونقصان، خاصة في أواخر القرن الرابع الميلادي عندما أصبحت المسيحية ديانة للدولة، ومن ذلك: التلاعب في ترجمة أعمال المؤرخ فلافيوس جوزيف إلى اللاتينية وإدخال فقرة عن يسوع من بضعة أسطر في متنها، واختصار كتاب «التاريخ الروماني» للكاتب ديون كاسيوس واستبعاد الكثير من النص الأصلي، وفي هذا السياق يقول غوستاف باردي (التحريف في المسيحية، مجلة التاريخ الكنسي، مجلد 32، عام 1936): «إن نماذج التزوير والتحريف تنتشر في القرن الرابع، ويبدو أن المزيفين والمحرفين قد اكتسبوا مهارة وجرأة مع تزايد أعمالهم الأدبية.. بل لقد وصل التحريف والتزييف إلى درجة أنه أصبح النسق العام، يستخدمه الكاثوليك وخصومهم على السواء لتبادل الاتهامات»، وتؤكد الدكتورة زينب عبدالعزيز أن «القديس جيروم قام بدمج وتعديل أكثر من 50 نسخة مختلفة من الأناجيل، ليخرج العهد الجديد في شكله الحالي تقريبا، وذلك بأمر من البابا داماز، والطريف أن هذا القديس جيروم يعترف في المقدمة التي كتبها لهذا العهد الجديد بأنه بدل وعدل وغير في النصوص، بل ويعلم أنه سوف يتهم بالغش والتحريف والتزوير إلا أنه لا يعنيه، فقد قام بذلك بناء على أمر من البابا..».
وفي عصرنا لا يزال النقاش حاميا بين المختصين والباحثين حول عدد من الوثائق التاريخية التي تعتمد عادة في الدراسات التاريخية، فمثلا خطبة طارق بن زياد عند عبوره إلى الأندلس تعرضت لانتقادات قوية مست صحتها وانسجامها مع الظروف التاريخية التي أحاطت بها، بينما هناك من دافع عنها واعتبرها سليمة، وبالتالي تبقى صحة الوثيقة رهينة بمدى استجابتها لشروط السلامة وإجماع المختصين على ذلك. وقد ناقش المؤتمر الدولي الخامس حول المخطوطات في مصر في مايو 2008 قضية إخفاء المخطوطات وتغييبها أو ما اصطلح عليه بـ «الطي»، وقد طرح هناك ما يقارب 50 باحثا دوليا أسئلة من قبيل: لماذا اشتهرت مؤلفات بعينها وانزوت مؤلفات أخرى حتى اختفت؟ ما هي تقنيات الحذف وأنماط الاستبعاد والطي التي أدت إلى فقدان الكثير من المؤلفات المبكرة والمتأخرة؟
المستوى الثاني الذي نقارب فيه الاعتداء على الوثيقة التاريخية هو مستوى السرقة، فمن المعروف أن أكبر هدف للمهربين ولصوص التراث هو الوثائق النادرة التي تحمل في طياتها معلومات هامة، أو تنتمي إلى حقبة تاريخية غابرة، وعادة ما ينشط هؤلاء داخل شبكات منظمة أو أثناء الحروب العدوانية، ومن أشهر مجالات هذا النوع من الاعتداء نجد المجال العراقي الغني بالوثائق والآثار والمستهدف باستمرار من طرف المعتدين على مر العصور.
في تقرير أعده الصحافي بشير نافع عن وضع مراكز التراث والوثائق العراقية، أشار إلى المصادر التي «تفيد بأن بعض الجنود والضباط الأميركيين قد تم الاتصال بهم من قبل سماسرة وتجار آثار في الولايات المتحدة قبل وصولهم إلى الكويت، وزود من أبدى استعدادا للتعاون بقوائم للقطع الأثرية التي يسعى السماسرة والتجار للحصول عليها، وفعلا وصلت بسرعة مئات القطع الأثرية العراقية المهربة إلى باريس ولندن مما يؤكد أن عملية النهب كانت منظمة، وقد أشار روبرت فيسك مراسل «الإندبندنت» الشهير إلى أن إحراق هذه المواقع بعد نهبها قد قامت به مجموعات منظمة تنقلت في حافلات خاصة من مكان إلى آخر»، وتتحدث تقارير أخرى عن آلاف الوثائق والآثار التي سرقت وهربت خارج العراق، وهي من الوثائق التاريخية التي لا تقدر بثمن.
اشتهرت مصر أيضا بتعرض كنوزها التراثية إلى السرقة والنهب، ولا أدل على ذلك من اشتمال أغلب المتاحف الغربية على الكثير منها، وهناك قضايا وحالات كثيرة تنكشف فيها الوثائق والآثار المصرية وهي على طاولات المزادات العالمية الكبرى، وقد حصدت ملايين الدولارات، أما اليمن فتعرف بكونها خزانا تاريخيا ثريا، لذلك تعرضت الكثير من وثائقها ومصادرها للنهب، ففي كتاب «من كوبنهاجن إلى صنعاء» نجد أن الرحالة نيبور أخرج معه من اليمن عددا كبيرا من الصناديق المملوءة بالمخطوطات، وقد أشار حسن العمري السفير اليمني السابق في لندن في كتابه «مصادر التراث اليمني في المتاحف والمكتبات البريطانية»، إلى ما تختزنه المتاحف والمكتبات الغربية من مؤلفات ومخطوطات يمنية نادرة، وتشير مصادر أخرى إلى أن مكتبة إلقرزيانا بإيطاليا تحتوي على ما يقرب من سبعة آلاف مخطوط يمني، و700 مخطوط أخرى في مكتبة الكونغرس بأميركا، بالإضافة إلى ما تحتويه مكتبة الأسكوريال بإسبانيا والمكتبة الأهلية في باريس، ومكتبات أخرى في برلين ولندن.
أما المستوى الثالث الذي يبرز الاعتداء السافر على الوثائق والمصادر التاريخية فهو مستوى التدمير والإبادة الكاملة، ويظهر في حالات الحروب والاحتلال وإجراءات بعض الحكام ومبادرات أصحاب تلك المصادر أنفسهم، ومن أشهر جرائم تدمير المصادر التاريخية ما قام به المغول في العالم الإسلامي عامة وعند دخولهم بغداد بالخصوص، ونجد ول ديورانت في كتابه «قصة الحضارة» يتحدث عن مكتبة «بيت الحكمة» التي كانت جزءا هاما من الاستهداف المغولي، يصفها على أنها مجمع علمي ومرصد فلكي ومكتبة عامة، لم يتوقف دورها عند اقتناء الكتب وحركة الترجمة والمناظرات والندوات، وإنما تعدى ذلك إلى رصد الأجرام السماوية وتسجيل نتائج تلك الأرصاد. وقد تعرضت المكتبة للتدمير الكامل على أيدي المغول، وألقوا بجميع محتوياتها في نهر دجلة حتى تحول ماء دجلة إلى اللون الأسود، وهو لون المداد المستخدم آنذاك. وقد دمر المغول بالإضافة إلى مكتبة بيت الحكمة 36 مكتبة عامة أخرى في بغداد.
وعندما احتلت أميركا العراق عام 2003، أغارت بدورها على كنوز المسلمين المعنوية بوحشية لا توصف، فدمرت المكتبات والمساجد والمتاحف والمآثر، ومن أهم ما سجله الإعلام العالمي نذكر الإغارة على المؤسسات التاريخية والعلمية وتدميرها، مع كل ما كانت تضمه من الوثائق وآثار غالية، ونذكر منها: المكتبة الوطنية، ودار الوثائق القومية، ومكتبة وزارة الأوقاف، وأرشيف الإذاعة والتلفاز العراقي، ومركز صدام للفنون، ومكتبة جامعة الموصل، ومركز المخطوطات التابع للمتحف العراقي.
أما الحروب الصليبية التي انطلقت منذ عام 1096م فقد اشتهرت على مر التاريخ باستهدافها وثائق المسلمين ومصادرهم، وعلى رأسها المصحف الكريم، ومثال ذلك «مكتبة بني عمار» التي قدرت محتوياتها بثلاثة ملايين كتاب، وكان لها أكثر من 180 ناسخا يتناوبون العمل بالمكتبة ليلا ونهارا، وعندما احتل الصليبيون طرابلس دخلها أحد القساوسة ويدعى الكونت برترام وتجول في القاعة المخصصة للقرآن الكريم، ثم أعطى أوامره بحرقها. ونذكر هنا أيضا ما ارتكبته محاكم التفتيش من جرائم في حق وثائق المسلمين في الأندلس من حرق وإبادة، ومن أعظمها حرق مكتبة قرطبة التي كانت تضم مئات الآلاف من الوثائق.
وقد صاحب هذا الأسلوب في مواجهة فكر المخالفين التفكير المسيحي منذ بدايته حتى مع المقربين منه، ففي عام 48 ق.م أحرقت جميع الكتب الملحقة بمعبد أبولو في اليونان، وفي عام 54م أمر القديس بولس بإحراق جميع الكتب الموجودة في مدينة أفسوس، ولما تدخل الرومان بقيادة القيصر في الصراع على السلطة في مصر لنصرة كليوباترا ضد أخيها بطليموس الـ13، أحرقت مكتبة الإسكندرية ودمرت تماما عام 48 قبل الميلاد. أما عدد الكتب التي أبيدت فيتراوح حسب التقديرات بين 40 ألفا ومليون كتاب.
ومن نماذج إهمال الوثائق التاريخية والاستهانة بها، ما سجله التاريخ عن الوثائق المصرية، إذ في عهد محمد على باشا أنشأت (الدفترخانة) أول مؤسسة للعناية بالوثائق التاريخية، وكانت بمثابة أرشيف الدولة الذي يضم وثائقها، وعندما أصبح أحمد فؤاد ملكا على مصر، استقدم الخبراء من إيطاليا وفرنسا لإقامة دار وثائق تاريخية خصص لها مبنى خاص في حرم قصر عابدين، نقل إليها عدد من وثائق الدواوين السيادية الرئيسية من دار المحفوظات، وقام الخبراء بتنظيمها وتسجيلها، وبعد ثورة يوليو تم إخلاء دار الوثائق، واستخدم المبنى مقرا للبوليس الحربي ونقلت السجلات ومحافظ الوثائق وتم تكديسها بالدور الأرضي من القصر، وفي عام 1971 نقلت الوثائق مرة أخرى إلى قصر الحرملك بالقلعة. وظلت الوثائق في مرقدها الجديد حتى عام 1990 عندما تقرر الانتقال إلى المقر الجديد لدار الوثائق التاريخية القومية، وخلال كل هذه التنقلات تعرضت الكثير من الوثائق الخطيرة والهامة للتلف والضياع، وما زالت العديد من وثائق مصر التاريخية الهامة خارج دار الوثائق.
وبخصوص تدمير الوثائق والمصادر العلمية بأيدي أصحابها، نذكر ما صدر من قبل علماء بلغوا درجة كبيرة من الكمال العلمي لكنهم لم يصمدوا أما الأحوال الروحية التي أدت بهم إلى إبادة كل ما دونوه من نتائج علمية أفنوا فيها أعمارهم، ومنهم من تحول بعد ذلك إلى التأليف في علوم التصوف والعرفان، ونذكر هنا نموذج محمد الغزالي الطوسي، وكانت لعمرو بن العلاء المتوفى سنة 154هـ كتب ملأت له بيتا حتى السقف، ثم تنسك فأحرقها، ولما فرغ أحمد بن أبي الحواري من التعلم جلس للناس فخطر بقلبه خاطر من قبل الحق، فحمل كتبه إلى شط الفرات فجلس يبكي ساعة ثم قال: «نعم الدليل كنت لي على ربي، فلما ظفرت بالمدلول فالاشتغال بالدليل محال» فتخلص منها، بينما كان سبب حرق أبوحيان التوحيدي لمكتوباته ووثائقه شيئا آخر غير ذلك حسب المصادر التاريخية.
ومن أشهر حوادث حرق الكتب من قبل حكام المسلمين، حرق كتاب الإمام الغزالي (إحياء علوم الدين) في عهد يوسف بن تاشفين، وحرق مكتبة ابن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456هـ بأمر من المعتمد بن عباد في الأندلس، وحول حوادث حرق كتب الفقهاء في عصر المهدي بن تومرت مؤسس دولة الموحدين، كتب المؤرخ عبدالواحد المراكشي: «.. وفي أيامه انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب، فأحرق منها جملة في سائر البلاد. وقد شهدت ذلك وأنا بمدينة فاس، يؤتى منها بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار»، وفي القرن السادس الهجري تعهد المنصور الموحدي ألا يترك شيئا من كتب المنطق والحكمة باقيا في بلاده، فأباد كثيرا منها.
وخلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في 12 يوليو 2006م قام الصهاينة على مدى 33 يوما بتدمير ما نسبته %70 من المطابع ودور النشر المتوافرة في الضاحية الجنوبية، وللصهاينة وحدهم تاريخ عريق في تزوير الوثائق وسرقتها وتدميرها، بل من الصفات الملازمة للشخصية اليهودية قلب الحقائق والتلاعب بالمعلومات وتحريفها، وقد سجل التاريخ الحديث لائحة طويلة من تلك الجرائم في حق الوثائق الفلسطينية، ولا تزال الأخبار إلى هذه اللحظة تصلنا عن آخر تلك الجرائم، وبالطبع لن يتسع المجال هنا لذكرها.
الاعتداء على الوثائق التاريخية ومصادر المعرفة الإنسانية هو اعتداء على الحقيقة، وحصرنا لتلك الاعتداءات تحت عناوين السرقة والتزوير والتدمير، لا يعني أنها الوحيدة التي وقعت، بل هناك أساليب أخرى من الاعتداء تتجاوز شكل الوثائق إلى فضائها المعنوي وأفقها المعرفي، من أشهرها إشاعة الفهوم المقلوبة والإهانة، وتبقى كل تلك الاعتداءات سلوكيات إنسانية منحرفة، لكن العجيب في الأمر أن الكثير من الحقائق استمرت، في حين اندثر ذكر المعتدين وانفضحت جرائمهم أمام الناس والتاريخ.

المصدر

http://www.alarab.com.qa/details.php...o=176&secId=18