احذروا فخ (حق المواطنة)

توضّح الإحصائيات أن الدول العربية يقطنها مسلمون إما بنسبة 100% أو 99% في حالات عديدة، كما يوجد في حالات أخرى أقلّيات غير إسلامية بنسبة 3 و4%. وفي مصر يمثل غير المسلمين نسبة ما بين 5%، كما تظهر بعض الإحصائيات الرسمية، و10%، كما يرى بعض المسيحيين، والدولة العربية الوحيـدة التي تشذّ عن هذا هي لبنان إذ تبلغ نسبة غيـر المسلمين ما يماثل 40%.

وعندما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة كان من أعماله الأولى أن وضع وثيقة أطلق عليها المفكرون المحدثون "دستور المدينة"، وظهرت في المراجع القديمة باسم "صحيفة الموادعة".

قرّرت هذه الوثيقة أن الأنصار ـ وهم السكان الأصليون للمدينة ـ والمهاجرين وهم من أهل مكّة أصلاً آمنوا بالإسلام وهاجروا إلى المدينة فراراً من اضطهاد المشركين لهم وتقبلهم الأنصار على الرحب والسعة. واليهود الذين كان لهم جالية كبيرة في المدينة استوطنوها في قديم وبنو لأنفسهم "الآطام" أي الحصون واشتغلوا بالتجارة والصناعة وأقاموا بينهم وبين بعض قبائل الأنصار حلفاً، قرّرت الوثيقة أن هذه الفئات الثلاث "أمة واحدة"، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم وأنهم يتكافلون بالمعروف ولا يحارب بعضهم بعضاً كما يشتركون في الدفاع عن المدينة معاً..

أقامت هذه الوثيقة ـ لأوّل مرّة ـ حق المواطنة ـ على أساس الأرض.وليس على أساس الدين..

فكل من يتخذ من الأرض وطناً له يصبح مواطناً له الحقوق والواجبات التي تمنح لكل الذين يقيمون في هذا الوطن على اختلاف أصولهم وأديانهم وأجناسهم.

لم يلتزم اليهود ببنود هذه الإتّفاقية، أو يقدّروا ما فيها من كرم، لهيمنة فكرة أنهم الشعب المختار وأن النبوّات محصورة فيهم، فضلاً عن نظرتهم الدونية إلى العرب، أبناء إسماعيل بن الجارية، والذي يده على كل الناس ويد كل الناس عليه.. وكان النقض الأعظم عندما تحالفوا مع المشركين في أشدّ حملاتهم ضراوة على المسلمين، حملة الخندق، فحكم عليهم من اختاروه بأنفسهم..

وبعد فترة النبوّة وعندما انطلقت الفتوح وانتصر فيها المسلمون وجدوا أنهم يهيمنون على أراض شاسعة، وعلى مجموعات غفيرة من السكان من ذوى الأديان المختلفة، فوجدوا أن الحل الذي يتفق مع الإسلام ويحقق أفضل النتائج أن يدعو هؤلاء السكان على ما هم عليه وأن يفسحوا لهم في الحرية الدينية بحيث يحتفظون بدياناتهم وعاداتهم وتقاليدهم مع المحافظة على كنائسهم ومعابدهم وأديارهم ورجال دينهم وأن يقوموا بحمايتهم وكفالة الأمن والسلام والدفاع عنهم لقاء ضريبة هي "الجزية" ويُعَدّون أهل ذمّة، أي أن حمايتهم والحفاظ عليهم هي ذمّة المسلمين، وكانت تلك صفقة سعيدة للطرفين. وتمتعت هذه الأقليات في ظلها بحرياتهم الدينية ونشاطاتهم المدنية والاقتصادية ومع الزمن تقلّد بعض أفرادهم مناصب في الدولة الإسلامية أو شغلوا مراكز رفيعة فئ مجال العلوم.

كان أخذ الجزية من الأقلّيات هو الأمر المقرر في كل الدول في هذه العصور، وقد دفع السيد المسيح نفسه الجزية للرومان.

فالمسلمون لم يبدعوا هذا النظام ولكنهم وجدوه مقرّراً، وما جاءوا به هو أنهم خفّفوه إلى أقصى درجة وجعلوه مقصوراً على الرجال دون النساء ودون الأطفال كما اُستثنى منه الشيوخ وكل رجال الدين أو الرهبان..

وكان ذلك بمقاييس العصر تقدّماً ملحوظا جعل الأقلّيات تفضل أن تعيش في ظل الحكم الإسلامي عن العيش في ظل حكم آخر، إذا وجدت مثل هذا الحكم لأن النظام المقرّر في أوروبا كان لا يسمح بوجود أقلّيات أو حتى أفراد يدينون بغير دين الملك. حتى لو كانوا من الدين نفسه ولكن من مذهب يخالف مذهب الملك، والمذابح والحروب ما بين البروتستانت والجزويت معروفه.

كان مسيحيو مصر يدينون بغير المذهب الذي تدين به بيزنطة ولهذا اضطهدتهم بيزنطية اضطهاداً رهيباً بحيث أنه عندما دخل عمرو بن العاص مصر كان البطريرك القبطي مختبئاً في مكان ما، هارباً من الاضطهاد البيزنطي.
ولما تم النصر لـعمرو بن العاص، إلى حد ما بمساعدة من الأقباط، فإنه أعاد البطريرك وأعاد له كل سلطاته بحيث يمكن القول أن ميلاد الكنيسة القبطية في هذه اللحظة تم على يدي عمرو بن العاص.

وكان أقباط مصر قد تخصصوا في مهن معينة مثل تحصيل ضرائب الأراضي والعقارات فكان الجباة من أصغر جابي في قرية حتى رئيس الجباية التي يشرف عليها في عموم القطر من الأقباط، وقد سلم لهم الحكام المسلمون بممارسة هذه المهمة حتى أيام محمد علي وأبنائه، كما شمل حكام مصر من الأسرة العلوية بطريرك الأقباط بنوع خاص من الرعاية وأحاطوه بتوقير واحترام وتبرعوا بمئات الفدادين والمعونات المالية لإقامة مدارس قبطية أو مشروعات خيرية..

من الصحيح أنهم تعرضوا في بعض الفترات لعربدات بعض الحكام وتصرفاتهم الشاذة، ولكن من الصحيح أنهم في ظل حكام آخرين وصلوا إلى مناصب الوزارة وكانت لهم حظوة حتى وجد المسلمون أنهم قد ظلموا مع العلم أن نزق بعض الحكام وبطشهم لم يكن مقصوراً على الأقلّيات ولكن على كل الشعب، مسلمين وغير مسلمين.. وأنه كان طابع العصر في كل العالم القديم...

من هنا لم يحدث بين الأقباط وبين حكام مصر توتّرات وساد الصفاء علاقتهم بالمسلمين وعاشوا في القرية جنباً إلى جنب إخوانهم المسلمين لا يفرّق بينهم إلا أن بعضهم يقصد المسجد يوم الجمعة بينما يقصد البعض الآخر الكنيسة يوم الأحد.
أما حالات التوتّر فكانت استثناء لا يتصوّر انتفاءه مع تطاول الأمد وامتداد الرقعة وبالنسبة لمجموعات كبيرة بمئات الألوف أو الملايين بحيث لابد أن يوجد الشارد أو المنحرف في المجموعتين، ولا يؤبه له لأنه أحد الظواهر الاجتماعية الطبيعية.

قد ورثت مصر من العهد العثماني "فرماناً" يضع القيود على بناء الكنائس وكان من مبرراته حسم الحساسيّات التي يمكن أن تؤدّي إلى احتكاكات إذا تُرِكَ الأمر على علاته، قد وجد عدد كبير من الأقباط أن هذا يتضمن نوعاً من الحجر على حرّية التعبير واستجابت لهم الدولة بقدر ما يسمح "الهاجس الأمني" الذي يسيطر عليها ويتحكم فيها في كل شيء ونحن نرى أن بناء الكنائس أو المساجد أمر يجب أن يُتْرَك لأصحابه حتى لو بنوا مائة كنيسة، ففي هذا المجال قد لا يكون مفرّ من اتباع التجربة والخطأ بمعنى ترك الحرية حتى تثبت التجربة خطأ ممارسة ما وعندئذ يكون الإقلاع عنها أمراً طبيعياً.
ومع أن هذا حلّ باهظ التكلفة فإنه يسدّ باب الادّعاءات التي يكون مبعثها الغرض أو سوء الفهم، ولا يمكن إصلاحها بالمنطق.

المهمّ فيما نحن بصدده أن مخاوف المسيحيين ليس لها أساس:
أولاً: لأننا نستبعد الدولة الدينية .

وثانياً: لأن تطبيق الشريعة لن يكون إلا مشروعاً لإحلال مبادئ عامة على رأسها العدل وجعله محوراً في عالم العلاقات والقيم والتي تحكم المجتمع.

وأن يتمّ هذا بالشكل الديمقراطي أي عندما تريد ذلك الأغلبية وتسلك إلى تطبيقه عبر الطرق المشروعة – أي الانتخابات، ولعلّي لو كنت مسيحياً لا يساورني بعض الخوف من ذلك ولأثرت التمسك بإعمال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة التي تحرم تحريماً قاطعاً المساس بحقوق الأقليات غير المسلمة بحيث لا يمكن حتى للأغلبية في المجلس التشريعي أن تمسها والأمر في النهاية إليهم.