البابا والانحرافات الجنسية في الكنيسة الكاثوليكية

بقلم د.سعد الدين إبراهيم ٢٦/٤/٢٠٠٨

إن الكنيسة الكاثوليكية أقدم «مؤسسة» دينية في العالم، رغم أن هناك ديانات أقدم مثل اليهودية، وديانات روحية وإنسانية أخري. ولكننا نعني قدمها كمؤسسة.. مثلها مثل الدولة والحكومة والجامعة والجيش والشركة، ومن حيث إن لها هيكلاً تنظيمياً، وتسلسلاً قيادياً، وأنظمة ولوائح، وقواعد للانضمام لها، والترقي في مراتبها والعقاب شطباً وخلعاً وشلحاً وطرداً. وفي قمة هذه المؤسسة العتيدة، يتربع «البابا». أو الأب الأكبر، علي «العرش البابوي». ويليه تنازلياً، مجموعة من «الكرادلة» (ومفردها كاردينال)، ثم «الأساقفة» (ومفردها أسقف)، ثم القساوسة (ومفردها قسيس)، ثم «الرعاة» (ومفردها راعٍ)، ثم «الشمامسة» (ومفردها شماس)... وهكذا.

ويخضع الانضمام لهذه المؤسسة الهرمية لشروط دراسية وسلوكية صارمة. فمن حيث الدراسة، تتضمن المناهج مواد في اللاهوت والتاريخ واللغات السامية القديمة التي دونت بها التوراة (العهد القديم) والإنجيل (العهد الجديد)، فضلاً عن اللاتينية، التي هي لغة الكنيسة الأم ـ وهي الكاثوليكية الرومانية. أما من حيث الشروط السلوكية، فيأتي في مقدمتها التقوي والورع والتعبد والرهبنة، والالتزام بتعليمات الكنيسة وطاعة آبائها.

وتقوم «المؤسسة الكنسية» هذه برعاية وهداية أتباعها، أي أبنائها من المؤمنين بالمسيح عليه السلام، وبالرسل والقديسين، كما تحددهم الكنيسة في روما.. أي الفاتيكان الذي يجلس علي عرشه البابا، والذي هو دولة مستقلة، ذات سيادة، تصل مساحتها إلي حوالي عشرة كيلومترات مربعة، ووسط مدينة روما، التي هي نفسها عاصمة إيطاليا. ولدولة الفاتيكان هذه حرسها الخاص، وسفراؤها لدي دول العالم. كما أن هذه الأخيرة تبعث سفراء خاصين لدولة الفاتيكان. ومن ذلك أن معظم دول العالم يكون لها سفيران في روما، أحدهما للدولة الإيطالية، والثاني لدولة الفاتيكان.

وتحكم العلاقة بين دولة الفاتيكان (وهي الأقدم) والدولة الإيطالية (وهي الأحدث) معاهدات مفصلة، بسبب الطبيعة الخاصة لدولة الفاتيكان، التي لها سيادة ولكن ليس لها مواطنون، ولا قوات مسلحة ولا أجهزة أمنية أو خدمية. وواقع الأمر أن دولة الفاتيكان تعتمد علي الدولة الإيطالية في كل شيء دنيوي، تقريباً. وهذا في مقابل الكسب المعنوي والأدبي والروحي والسياحي، الذي يحققه احتضان الدولة الإيطالية لدولة الفاتيكان. وضمن شروط هذه العلاقة الفريدة من نوعها، عدم تدخل الفاتيكان في شؤون الدولة الإيطالية. فرغم التداخل المادي والاحتواء الجغرافي (المكاني)، فإن هناك فصلاً تاماً بين الدولة والكنيسة. فالبابا قد يعطي التعليمات والتوجيهات الدينية لكل أتباعه من الكاثوليك في إيطاليا والعالم. ولكنه لا يستطيع أن يعطي أي أمر لأي موظف في الدولة الإيطالية!

ولم يكن هذا الفصل التام والصارم قائماً إلا في القرون الأربعة الأخيرة، التي بدأت بـ«الإصلاح الديني»، و «عصر النهضة»، ثم «عصر التنوير» وميلاد الدولة القومية الحديثة. فمنذ القرن الثاني الميلادي، وتحديداً بعد أن ثبتت الإمبراطورية الرومانية، المسيحية كدين رسمي لها، إلي القرن السادس عشر كانت الكنيسة الكاثوليكية هي المؤسسة الأقوي، وهي التي تضفي الشرعية علي الأباطرة والملوك في كل البلدان، التي وجدت لها أغلبية مسيحية كاثوليكية. كما كانت تلك الكنيسة تملك أراضي ومناجم ومحاجر ومتاجر ومصانع وعقارات، وتجمع الأموال وتبيع «صكوك الغفران»، لأتباعها من الكاثوليك المؤمنين. وكان هذا النفوذ الكنسي المطلق علي شؤون الدين والدنيا مدعاة لتسرب الفساد في جسم الكنيسة ورجالها، فسادت بينهم الأطماع المادية، ثم الممارسات الجنسية المحظورة علي رجال الكنيسة، الذين كانوا قد أخذوا عهد الرهبنة (أي عدم الزواج أو النكاح).

وانفجرت ثورة داخل الكنيسة، قادها أحد الرهبان الشباب عام ١٥١٧، وهو مارتن لوثر. وعُرفت ثورته هذه «بالحركة الاحتجاجية»، أو «البروتستانتية» Protestantism، والتي طالبت بالإصلاح الشامل لشؤون الكنيسة ـ لاهوتاً وعبادات وممارسات. كما طالبت الحركة بإلغاء صكوك الغفران، وإباحة زواج القساوسة، منعاً للممارسات الجنسية الشاذة، من وراء ستار. وانشقت الكنيسة الكاثوليكية، حيث رفض الفاتيكان مطالب الإصلاح، وطرد المحتجين، ثم طاردهم في كل أوروبا. وهو ما أدي إلي حروب دينية طاحنة، بين المسيحيين أنفسهم، تضاءلت بالنسبة لها الحروب الصليبية قبل أربعة قرون. وانقسم ملوك وأمراء أوروبا أيضاً، حيث انتصر بعضهم لبابا الفاتيكان، وانتصر آخرون لمارتن لوثر وحركته الاحتجاجية. ودامت هذه الحروب مائة وخمسين عاماً تقريباً. وظهر مذهب ديني جديد هو المذهب البروتستانتي، ونشأت له كنيسة، ثم كنائس بروتستانتية متعددة. وكان هذا هو الانشقاق الثالث الكبير في العالم المسيحي، بعد انشقاق كنيستي القسطنطينية (الأرثوذكسية) والإسكندرية (القبطية)، وهو ما كان قد حدث في القرن الأول الميلادي.

المهم لموضوعنا أن الكنيسة الكاثوليكية كانت الأقوي والأكثر بين الكنائس الثلاث طوال أربعة عشر قرناً، ثم حينما وقعت الثورة البروتستانتية أصبحت هناك كنيسة رابعة هي الكنيسة البروتستانتية، التي استحوذت علي نصف مسيحيي أوروبا (ألمانيا وبريطانيا وإسكندنافيا) الحالية، ولكن لأن هذه الأخيرة كانت منذ بدايتها ضد أن يكون لها «بابا» أو «رأس» ذو قداسة، فقد تفرعت إلي عدة كنائس، وتحرر أعضاء كل منها من الخضوع لسلطة روحية مقدسة واحدة، تتوسط بين الفرد وبين ربه (الله سبحانه وتعالي). كما تخلي رجال هذه الكنائس البروتستانتية عن «الرهبنة»، فأصبحوا يتزوجون، وينكحون، وينجبون. وبالتالي اختفت أو تقلصت الانحرافات الجنسية بين القساوسة، وبينهم وبين من يرعونهم من أتباعها.

ولكن الكنيسة الكاثوليكية الأم ظلت علي حالها تقريباً، رغم الثورة الإصلاحية لمارتن لوثر. ومن لم يكن يعجبه ممارساتها أصبح في إمكانه مغادرتها والانضمام لإحدي الكنائس البروتستانتية الأخري. ومع بقاء الكنيسة الكاثوليكية علي حالها، ظلت نفس المشكلات، التي كان مارتن لوثر قد ثار بسببها عام ١٥١٧، قائمة تحت السطح. ولكن في السنوات العشر الأخيرة بدأت هذه المشكلات تطفو فوق السطح مرة أخري، ثم تنفجر كألغام مائية. وقد حدث ذلك بشكل خاص بين الكاثوليك الأمريكيين. حيث باح علناً من تعرض منهم أو منهن لاعتداءات أو تحرشات جنسية بواسطة القساوسة. وقوبل ذلك في البداية بالتجاهل أو الإنكار، ثم إلي تحقيقات كنسية داخلية، ثم في النهاية إلي محاكمات علنية، أدانت وعاقبت مرتكبي هذه الانتهاكات من القساوسة بعقوبات صارمة، وغرامات مالية فادحة، أدتها الكنيسة الأم.

ولكن الأضرار الأدبية والمعنوية التي ترتبت علي هذه الفضائح، في عصر العولمة والفضائيات وثورة المعلومات، هددت الكنيسة الكاثوليكية بمزيد من الشروخ والانشقاقات، التي لا تقل عن تلك التي حدثت قبل خمسة قرون. وقد تزامن انفجار هذه الفضائح مع تولي بابا جديد -هو «بنديكت السادس عشر»- العرش الرسولي في الفاتيكان. وهذا البابا من أصل ألماني، وجاء خلفاً للبابا «جون بول»، ذي الشعبية العالمية الواسعة. وشاء حظ البابا الجديد أن تتزامن بداية عهده أيضاً مع مشكلات مع المسلمين، بسبب الرسوم الدنماركية المسيئة لرسولهم الكريم، ثم الفيلم الهولندي المسيء للإسلام. بل إن البابا الجديد نفسه بدأ ولايته بمحاضرة ألقاها في إحدي الجامعات الألمانية عن العلاقة بين الدين (الروحاني) والعلم (العقلاني)، وجاء فيها فقرة، تساءل خلالها البابا عن البدايات العنيفة (الغزوات والحروب) للإسلام. وهو ما فُهم وقتها علي أنه هجوم علي الإسلام، برده بالعنف، واحتج كثير من المسلمين في أوروبا وخارجها علي ذلك.