السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اعلم أن الله تعالى قرن الشكر بالذكر في كتابه مع أنه قال:

( ولذكر الله أكبر )

فقال تعالى:

( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون )

وقال تعالى:

( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم )

وقال تعالى:

( وسنجزي الشاكرين )

وقال عز وجل إخباراً عن إبليس اللعين:

( لأقعدن لهم صراطك المستقيم )

قيل هو طريق الشكر، ولعلو رتبة الشكر طعن اللعين في الخلق فقال: ولا تجد أكثرهم شاكرين.

وقال تعالى:

( وقليل من عبادي الشكور )

وقد قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر ولم يستثن فقال تعالى:

( لئن شكرتم لأزيدنكم )

واستثنى في خمسة أشياء في الإغناء والإجابة والرزق والمغفرة والتوبة:

1- فقال تعالى:

( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء )

2- وقال:

( فيكشف ما تدعون إليه إن شاء )

3- وقال:

( يرزق من يشاء بغير حساب )

4- وقال:

( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )

5- وقال:

( ويتوب الله على من يشاء )

وهو خلق من أخلاق الربوبية إذ قال تعالى:

( والله شكور حليم )

وقد جعل الله الشكر مفتاح كلام أهل الجنة فقال تعالى:

( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده )

وقال:

( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر".

وروى عن عطاء أنه قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكت وقالت: وأي شأنه لم يكن عجباً ؟ أتاني ليلة فدخل معي في فراشي - أو قالت في لحافي - حتى مس جلدي جلده ثم قال:

" يا ابنة أبي بكر ذريني أتعبد لربي "

فقالت: قلت إني أحب قربك لكني أؤثر هواك فأذنت له ، فقام إلى قربة ماء فتوضأ فلم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك يبكي حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة ، فقلت يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟

قال:

" أفلا أكون عبداً شكوراً ولم لا أفعل ذلك وقد أنزل الله تعالى علي .....

( إن في خلق السموات والأرض .... ) ..... الآية

وهذا يدل على أن البكاء ينبغي أن لا ينقطع أبداً.

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:

" ينادى يوم القيامة ليقم الحمادون فتقوم زمرة فينصب لهم لواء فيدخلون الجنة "

قيل: ومن الحمادون ؟

قال:

" الذين يشكرون الله تعالى على كل حال "

وفي لفظ آخر:

" الذين يشكرون الله على السراء والضراء ".

وقال صلى الله عليه وسلم:

" الحمد رداء الرحمن ".

ولما نزل في الكنوز ما نزل ، قال عمر رضي الله عنه: أي المال نتخذ ؟

فقال عليه السلام:

" ليتخذ أحدكم لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً "

فأمر باقتناء القلب الشاكر بدلاً عن المال.

اعلم أن الشكر ينتظم من علم وحال وعمل.

فالعلم: هو الأصل فيورث الحال.

والحال: يورث العمل فهو معرفة النعمة من المنعم.

والحال هو الفرح الحاصل بإنعامه ، والعمل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه.

ويتعلق ذلك بالعمل بالقلب وبالجوارح وباللسان.

ولا بد من بيان جميع ذلك ليحصل بمجموعه الإحاطة بحقيقة الشكر

الأصل الأول: العلم.

وهو علم بثلاثة أمور: بعين النعمة ، ووجه كونها نعمة في حقه ، وبذات المنعم ووجود صفاته التي بها يتم الإنعام ويصدر الإنعام منه عليه.

فإنه لا بد من: نعمة ، ومنعم ، ومنعم عليه تصل إليه النعمة من المنعم بقصد وإرادة ، فهذه الأمور لا بد من معرفتها ، هذا في حق غير الله تعالى فأما في حق الله تعالى فلا يتم إلا بأن يعرف أن النعم كلها من الله وهو المنعم ، والوسائط مسخرون من جهته.
وهذه المعرفة وراء التوحيد والتقديس إذ دخل التقديس والتوحيد فيها.


بل الرتبة الأولى في معارف الإيمان: التقديس.

ثم إذا عرف ذاتاً مقدسة فيعرف أنه لا مقدس إلا واحد وما عداه غير مقدس: وهو التوحيد.

ثم يعلم أن كل ما في العالم فهو موجود من ذلك الواحد فقط ، فالكل نعمة منه ، فتقع هذه المعرفة في الرتبة الثالثة ، إذ ينطوي فيها مع التقديس والتوحيد: كمال القدرة والانفراد بالفعل.

وعن هذا عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:

" من قال سبحان الله فله عشر حسنات ومن قال لا إله إلا الله فله عشرون حسنة ومن قال الحمد لله فله ثلاثون حسنة ".

وقال صلى الله عليه وسلم:

" أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله ".

وقال:

" ليس شيء من الأذكار يضاعف ما يضاعف الحمد لله ".

ولا تظنن أن هذه الحسنات بإزاء تحريك اللسان بهذه الكلمات من غير حصول معانيها في القلب.

فسبحان الله كلمة تدل على التقديس.

ولا إله إلا الله كلمة تدل على التوحيد.

والحمد لله كلمة تدل على النعمة من الواحد الحق.

فالحسنات بإزاء هذه المعارف التي هي من أبواب الإيمان واليقين.

واعلم أن تمام هذه المعرفة ينفي الشرك في الأفعال ، فمن أنعم عليه ملك من الملوك بشيء فإن رأى لوزيره أو وكيله دخلاً في تيسير ذلك وإيصاله إليه فهو إشراك به في النعمة ، فلا يرى النعمة من الملك من كل وجه ، بل منه بوجه ومن غيره بوجه ، فيتوزع فرحه عليهما فلا يكون موحداً في حق الملك.

نعم لا يغض من توحيده في حق الملك وكمال شكره أن يرى النعمة الواصلة إليه بتوقيعه الذي كتبه بقلمه وبالكاغد الذي كتبه عليه ، فإنه لا يفرح بالقلم والكاغد ولا يشكرهما ، لأنه لا يثبت لهما دخلاً من حيث هما موجودان بأنفسهما بل من حيث هما مسخران تحت قدرة الملك ، وقد يعلم أن الوكيل الموصل والخازن أيضاً مضطران من جهة الملك في الإيصال ، وأنه لو رد الأمر إليه ولم يكن من جهة الملك إرهاق وأمر جازم يخاف عاقبته لما سلم إليه شيئاً ، فإذا عرف ذلك كان نظره إلى الخازن الموصل كنظره إلى القلم والكاغد ، فلا يورث ذلك شركاً في توحيده من إضافة النعمة إلى الملك.

فكل من وصل إليك نعمة من الله تعالى على يده فهو مضطر إذ سلط الله عليه الإرادة وهيج عليه الدواعي! وألقى في نفسه أن خيره في الدنيا والآخرة أن يعطيك ما أعطاك ، وأن غرضه المقصود عنده في الحال والمآل لا يحصل إلا به.

وبعد أن خلق الله له هذا الاعتقاد لا يجد سبيلاً إلى تركه ، فهو إذن إنما يعطيك لغرض نفسه لا لغرضك ولو لم يكن غرضه في العطاء لما أعطاك ، ولو لم يعلم أن منفعته في منفعتك لما نفعك فهو إذن إنما يطلب نفع نفسه فليس منعماً عليك بل اتخذك وسيلة إلى نعمة أخرى وهو يرجوها ، وإنما الذي أنعم عليك هو الذي سخره لك وألقى في قلبه من الاعتقادات والإرادات ما صار به مضطراً إلى الإيصال إليك.

فإن عرفت الأمور كذلك فقد عرفت الله تعالى وعرفت فعله ، وكنت موحداً وقدرت على شكره ، بل كنت بهذه المعرفة بمجردها شاكراً.

فإذن لا تشكر إلا بأن تعرف أن الكل منه ، فإن خالجك ريب في هذا لم تكن عارفاً لا بالنعمة ولا بالمنعم ، فلا تفرح بالمنعم وحده بل وبغيره ، فبنقصان معرفتك ينقص حالك من الفرح وبنقصان فرحك ينقص عملك.

الأصل الثاني: الحال المستمدة من أصل المعرفة.

وهو الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع والتواضع ، وهو أيضاً في نفسه شكر على تجرده كما أن المعرفة شكر ولكن إنما يكون شكراً إذا كان حاوياً شرطه ، وشرطه أن يكون فرحك بالمنعم لا بالنعمة ولا بالإنعام ، ولعل هذا يتعذر عليك فهمه فنضرب لك مثلاً فنقول: الملك الذي يريد الخروج إلى سفره بفرس على إنسان يتصور أن يفرح المنعم عليه بالفرس من ثلاثة أوجه:

أحدها:

أن يفرح بالفرس من حيث أنه فرس وإنه مال ينتفع به ومركوب يوافق غرضه وإنه جواد نفيس ، وهذا فرح من لاحظ له في الملك بل غرضه الفرس فقط ولو وجده في صحراء فأخذه لكان فرحه مثل ذلك الفرح.

الوجه الثاني:

أن يفرح به لا من حيث إنه فرس بل من حيث تستدل به على عناية الملك به وشفقته عليه واهتمامه بجانبه ، لو وجد هذا الفرس في صحراء أو أعطاه غير الملك لكان لا يفرح به أصلاً لاستغنائه عن الفرس أصلاً أو استحقاره له بالإضافة إلى خلوه من نيل المحل في قلب الملك.

الوجه الثالث:

أن يفرح به ليركبه ليخرج في خدمة الملك ويتحمل مشقة السفر لينال بخدمته القرب منه ، وربما يرتقي إلى درجة الوزارة من حيث إنه ليس يقنع بأن يكون محله في قلب الملك أن يعطيه فرساً ويعتني به هذا القدر من العناية ، بل هو طالب لأن لا ينعم الملك بشيء من ماله على أحد إلا بواسطته ، ثم إنه ليس يريد من الوزارة الوزارة بل يريد مشاهدة الملك والقرب منه ، حتى لو خير بين القرب منه دون الوزارة وبين الوزارة دون القرب لاختار القرب.

فهذه ثلاث درجات:

فالأولى:

لا يدخل فيها معنى الشكر أصلاً لأن نظر صاحبها مقصور على الفرس ففرحه بالفرس لا بالمعطى ، وهذا حال كل من فرح بنعمة من حيث إنها لذيذة وموافقة لغرضه فهو بعيد عن معنى الشكر.

والثانية:

داخلة في معنى الشكر من حيث إنه فرح بالمنعم ولكن لا من حيث ذاته بل من حيث معرفة عنايته التي تستحثه على الإنعام في المستقبل ، وهذا حال الصالحين الذين يعبدون الله ويشكرونه خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه.

والثالثة:

الشكر التام وهو أن يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب منه تعالى والنزول في جواره والنظر إلى وجهه على الدوام ، فهذا هو الرتبة العليا ، وأمارته أن لا يفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة ويعينه عليها ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله تعالى وتصده عن سبيله ، لأنه ليس يريد النعمة لأنها لذيذة كما يريد صاحب الفرس الفرس أنه جواد ومهملج بل من حيث إنه يحمله في صحبة الملك حتى تدوم مشاهدته له وقربه منه.

ولذلك قيل:

شكر العامة على المطعم والملبس والمشرب. وشكر الخاصة على واردات القلوب ، وهذه رتبة لا يدركها كل من انحصرت عنده اللذات في البطن والفرج ومدركات الحواس من الألوان والأصوات وخلا عن لذة القلب ، فإن القلب لا يلتذ في حال الصحة إلا بذكر الله تعالى ومعرفته ولقائه ، وإنما يلتذ بغيره إذا مرض بسوء العادات كما يلتذ بعض الناس بأكل الطين وكما يستبشع بعض المرضى الأشياء الحلوة ويستحلي الأشياء المرة.

فإذن هذا شرط الفرح بنعمة الله تعالى ، فإن لم تكن إبل فمعزى ، فإن لم يكن هذا فالدرجة الثانية ، أما الأولى فخارجة عن كل حساب ، فكم من فرق بين من يريد الملك للفرس ومن يريد الفرس للملك ، وكم من فرق بين من يريد الله لينعم عليه وبين من يريد نعم الله ليصل بها إليه.

الأصل الثالث:

العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم.

وهذا العمل يتعلق بالقلب وباللسان وبالجوارح:

1- أما بالقلب فقصد الخير وإضماره لكافة الخلق.

2- وأما باللسان فإظهار الشكر لله تعالى بالتحميدات الدالة عليه.

3- وأما بالجوارح: فاستعمال نعم الله تعالى في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته ، حتى إن شكر العينين: أن تستر كل عيب تراه لمسلم ، وشكر الأذنين: أن تستر كل عيب تسمعه فيه ، فيدخل هذا في جملة شكر نعم الله تعالى بهذه الأعضاء والشكر باللسان: لإظهار الرضا عن الله تعالى وهو مأمور به.

فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل:

" كيف أصبحت ؟ "

قال بخير، فأعاد صلى الله عليه وسلم السؤال حتى قال في الثالثة: بخير أحمد الله وأشكره.

فقال صلى الله تعالى عليه وسلم:

" هذا الذي أرد منك "

وكان السلف يتساءلون ونيتهم استخراج الشكر لله تعالى ليكون الشاكر مطيعاً والمستنطق له به مطيعاً وما كان قصدهم الرياء بإظهار الشوق ، وكل عبد سئل عن حال فهو بين أن يشكر أو يشكو أو يسكت ، فالشكر طاعة والشكوى معصية قبيحة من أهل الدين ، وكيف لا تقبح الشكوى من ملك الملوك وبيده كل شيء إلى عبد مملوك لا يقدر على شيء ، فالأحرى بالعبد إن لم يحسن الصبر على البلاء والقضاء وأفضى به الضعف إلى الشكوى أن تكون شكواه إلى الله تعالى ، فهو المبلي والقادر على إزالة البلاء. وذل العبد لمولاه عز ، والشكوى إلى غيره ذل ، وإظهار الذل للعبد مع كونه عبداً مثله ذل قبيح.

قال الله تعالى:

( إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له )

وقال تعالى:

( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم )

فالشكر باللسان من جملة الشكر.

وقد روي أن وفداً قدموا على عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، فقام شاب ليتكلم ، فقال عمر: الكبر الكبر! فقال: يا أمير المؤمنين لو كان الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أسن منك! فقال: تكلم، فقال: لسنا وفد الرغبة ولا وفد الرهبة ، أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك ، وأما الرهبة فقد آمننا منها عدلك ، وإنما نحن وفد الشكر جئناك نشكرك باللسان وننصرف.

فهذه هي أصول معاني الشكر المحيطة بمجموع حقيقته.

والله الموفق برحمته.

( إقتباس بتصرف )