أخي : - هذه المقالة ظلت حبيسة عقلي وأدراج مكتبتي طيلة أربع سنوات كاملة ، حتى قررت اخراجها هذه الأيام ، وماذاك إلا لحساسيتها وجرأتها ، فأقرأها أخي بتأمل ودقة قبل أن تعقب ، فإذا وجدت بها ما يخالف العقيدة أو أصلا من أصولها ، أو تخالف ثابتا من ثوابت الدين أو تنكر معلوما من الدين بالضرورة أو ما شابه ذلك ، فنبهني إليه ، والحجة والدليل العقلي أو النقلي هم الحكم والفيصل بيني وبينك ،

مقولة شائعة بتقولها العامة والخاصة تفسيرا للقاعدة الأشهر في هذا الخصوص وهي قاعدة " بلوغ صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى الغاية في الكمال أو الكمال المطلق ، فيقولون " الكمال لله "
ودخولا مباشرا في الموضوع ، فأن لي ملاحظات على هذه المقولة تمثل فيما يلي :-

الملحوظة الأولى
أولا :-
- إن القول بالكمال يقتضي المقارنة لبيان أوجه النقص عند المقارن به ، فيعرف بهذه المقارنة الكمال ، إذ الأشياء بأضدادها تعرف ، وشرط المقارنة اتحاد أطرافها في الطبيعة والظروف والأحوال وغير ذلك من تجانس وتماثل . فالنجوم لا تقارن إلا ببعضها ، والملائكة لا تقارن إلا ببعضها ، وكذا البشر يقارنون ببعضهم البعض .
ومن هذه المقارنات يستبين الأفضل والأكمل . لذا كان تفضيل الله تعالى لمخلوقاته بعضها على بعض من جنس واحد غير مختلف .
ففضل سبحانه يوم الجمعة على سائر الأيام ، قال صلى الله عليه وسلم " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ( مسلم 845 )
وفضل من الملائكة جبرائيل وميكال،قال تعالى (مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) البقرة
وفضل من البشر الرسل ، وفضل الرسل بعضهم على بعض فقال تعالى "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ...الآية)البقرة 253

- وإن كان ذلك لا يفهم منه استحالة أو عدم جواز تفضيل المخلوقات بعضها على بعض في حالة اختلاف أجناسها . كالمفاضلة بين الإنس والجن ، أو المفاضلة بين الحيوان والإنسان .كل ذلك جائز ولكن شريطة أن يكون على سبيل العموم والشمول لا على التخصيص . وأن يكون لأسباب تختلف عن أسباب التفاضل بين الأجناس الواحدة . فقد قارن الله تعالى مثلا بين السماوات والإنسان ، ولكن من وجه عام شامل ( هو من حيث السماوات كسماوات والإنسان ككل إنسان ) ومن وجه واحد فقط هو ( الخلق) فقال تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) (النازعـات:27)

- إذن القول بالكمال الإلهي أو بلوغ أسمائه سبحانه وتعالى وصفاته الكمال المطلق يقتضي مقارنته جلا وعلا بغيره للاستدلال على هذا الكمال .
والمقارنة حينئذ ستكون بينه جلا وعلا وبين مخلوقاته عموما ، والبشر من هذه المخلوقات بصفة خاصة ، أو بينه سبحانه وبين إله مثله . وكلاهما باطل ومستحيل وغير جائز ودرب من دروب الكفر إن لم يكن هو الكفر ذاته . وذلك لعدم وجود ند أو شبيه أو متجانس معه أو معبود سواه .قال تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورىمن الآية11) وقال سبحانه (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الإخلاص:4)

ثانيا :-
- وإن قيل ليس المقصود بالقاعدة أو المقولة مقارنته سبحانه وتعالى بغيره ، حيث أن أحدا لم يقل بذلك ولم تنصرف نيته إلى ذلك مطلقا ، فالرد على ذلك من وجهين :-
الأول : أن النية أو المقصد لا يكفي أحدهما في العقيدة والتوحيد الخالص بما في ذلك مجال ما يتلفظ به المرء من قول ، فلا يعتد مثلا بحجة ( حسن النية ) عند الطوافين حول القبور داخل المساجد ، ولا يعتد كذلك بذات الحجة عند القائلين مثلا ( لاحول الله ، أو ربنا افتكره ) أو ما شابه ذلك من ألفاظ تدل على فساد في العقيدة وخلل ، ولكن يعتد في هذه الحالة بقاعدة ( العذر بالجهل ) .
والفارق بين الحالتين كالفارق بين من لا يؤدي الصلاة أصلا لصفاء قلبه وحسن نيته بزعمه ، ومن يؤديها على فساد في وضوء جهلا منه بمفاسد الوضوء ونواقضه .
ويثبت الفارق بمعاقبة الأول رغم سلامة نيته ، وعذر الثاني لجهله
والثاني : أنه قد ثبت فعلا اضطرار البعض من جهابذة العلماء والمفسرين إلى هذه المقارنة فعلا فوقع فيها دون أن يقصد أو ينتبه ، ولست معنيا بتحديد هؤلاء العلماء أو المفسرين خشية من ظن السوء بي . ومن ذلك على سبيل المثال :-

- وصف الله سبحانه وتعالى نبيه إبراهيم عليه السلام بأنه حليم منيب في قوله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ( هود 75 ) ، ووصف نبيه محمد صلى الله عليه السلام بأنه رؤوف رحيم في قوله تعالى (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) ( التوبة 128 ) ، ووصف الإنسان عموما بأنه سميع بصير في قوله تعالى (إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ( الانسان 2)
فهذه الأسماء والصفات هي أسماء لله تعالى وصفات له ، فبماذا يمكن تفسيرها بالنسبة إلى عيره سبحانه وتعالى .

- لاحظ أن الأمر هنا سيقودنا إلى حتمية المقارنة . وهو ما قال به بعض المفسرين فعلا حيث قالوا هي – أي الأسماء المذكورة – ( كمال ) بالنسبة لله تعالى وهي عند غيره
( نقص ) . وهذه مقارنة واضحة جلية

- وقال البعض الآخر من المفسرين ، أن من أسماء الله تعالى ما يسمي بها غيره ( كالأسماء المذكورة ) ومنها ما لا يسمي بها غيره كاسمه تعالى ( الله ، أو الرب ، أو الرحمن ) . وهو – والرأي لي - تفسير لا يليق بأسماء الله تعالى وصفاته والتفريق بينها ، إذ يعني ذلك إعلاء من شأن بعض الأسماء دون أسماء أخرى ،

- وفي بعض التفاسير أن الله تعالى اشتق لنبييه أسماء من أسمائه فسماهما بها ، وهو ما لا أحبذه أيضا لأن أسماء الله تعالى هي جزء من ذاته لا يشتق منها لغيره جلا وعلا ، يقول الإمام أحمد بن حنبل " من قال أن أسماء الله مخلوقة فهو كافر " فالقول بأنها غير مخلوقة يعني أنها جزء من ذاته تعالى ، لأن ذاته فقط هي الغير مخلوقة ، فكيف والحال هكذا يمكن الاشتقاق من ذاته لغيره حتى ولو كان هذا الغير هو نبيه المفضل محمد صلى الله عليه وسلم ، والدليل على ذلك – أي على عدم جواز الاشتقاق المذكور - أن من أسمائه سبحانه وتعالى وصفاته ( العظيم ) ، قال تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) ( الواقعة ) ، وعلى الرغم من ذلك وصف بعض مخلوقاته ( الدنيا ) بالعظمة مثل الذبح الذي فدى به إسماعيل عليه السلام في قوله تعالى (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ( الصافات 107 ) فهل أشتق سبحانه وتعالى لهذا المخلوق اسما من أسمائه ؟ أو صفة من صفاته ، بل اسما من أجل أسمائه وصفاته الحسنى ، بحسب العظمة تلحق وتشمل سائر الصفات الأخرى ، لذا نقول الله العظيم والرب العظيم والرحيم العظيم ... وهكذا ، الإجابة قطعها لا !
ما يعني ذلك جمعيه عدم جواز القول بالاشتقاق

ثالثا :-
- وقبل أن ننتقل إلى المثال الثاني الذي يؤكد وقوع بعض العلماء في مغبة المقارنة ، لابد أن نبين وجهة نظرنا في تفسير هذه الأسماء المنسوبة لغير الله تعالى فنقول .
إن من سنة الله تعالى في كلمات كتابه الكريم أنه يستعمل اللفظة الواحدة أو الكلمة الواحدة لتدل على معناها من أدناه إلى أقصاه أو العكس ( أي من أدنى معنى للكلمة أو اللفظة إلى أقصى معنى لها ، أي أقل ما تدل عليه الكلمة من معنى إلى أقصى ما تدل عليه ) ثم يفسر سياق الآيات ما تعنيه الكلمة .

- خذ لذلك مثلا كلمة ( العذاب ) ، فقد استعملت هذه الكلمة في القرآن الكريم لوصف حال أهل النار ، ( وهي حينئذ دلت على أقصى معاني هذه الكلمة ) إذ ليس فوق عذاب جهنم عذاب ، وكان أشهر وأكثر وصف لهذا العذاب الجهنمي هو ( الأليم ) فمن ذلك قوله تعالى(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(البقرة الآية104) ، واستعملت أيضا فيما يستطيع الإنسان أن يوقعه بإنسان مثله وبنفس الوصف ، قال تعالى على لسان امرأة العزيز متوعدة يوسف عليه السلام (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(يوسف: من الآية25) . فوصف كلا العذابين ظاهر فيه الاختلاف دون حاجه إلى جهد لإيضاحه

- وكذا كلمة ( الجنة ) استعملت للدلالة على نعيم الجنة ، واستعملت كذلك للدلالة على بعض متع الدنيا ، فقال تعالى ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ)(البقرة: من الآية25) ،
وقال أيضا ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)(البقرة: من الآية266)
فالوصف الأول لجنة الآخرة يختلف قطعا عن الوصف الثاني لجنة الدنيا .
مما يعني أن اللفظة الواحدة تدل على المعاني الكثيرة ، ويفسرها السياق

- وكذا الشأن في الأسماء والصفات موضوع بحثنا ، فأسماء الله تعالى هي وصف لذاته المقدسة ، وذات الأسماء المذكورة في الآيات السابقة ( الرؤوف ، الرحيم , الحليم , السميع ، العظيم ، وغيرها ) هي وصف لمن أطلقت عليه سواء كان إنسان أو حيوان ، ويفسر ذلك سياق الآيات ، وكل مخلوق أطلق عليه هذا الاسم أو هذا الوصف ، يكون نصيبه منه حسب مراد الله تعالى من إطلاق هذا الوصف عليه ، فالإنسان سميع بصير حسب قدراته من هذا السمع والبصر ، وليس سمعه كسمع غيره من المخلوقات كالذئب من الحيوانات مثلا ، فهي عند الأخير أقوى ، والكبش الذي فدى الله تعالى به إبراهيم عليه السلام عظيم ، وحظه من هذه العظمة لا يعدو حجمه بالنسبة إلى الكباش التي من جنسه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم رؤوف رحيم بحسب سعته وقدرته على تحمل هذه السعة من الرأفة والرحمة - وان وسعت العالمين - . قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)

- بيد أنه إذا تعلق الأمر بالله سبحانه وتعالى فقد وجب أن يكون الأمر حينئذ وحتما مختلف ، حيث انه لما كان سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ، وجب أن يكون كل ما يتعلق به سبحانه وتعالى أيضا ليس كمثله شيء أيضا ، لذا كان الحد المقرر لهذه الأسماء والصفات ، يبلغ حدا لا يدركه عقل ولا يتصوره بشر أو أي مخلوق آخر .
وآية ذلك مثال آخر نضربه ليعقلها العالمون ، فقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة بأنها (ما لاخطر على قلب بشر ) أي على عقله وفؤاده وقلبه وكله ، فإذا كان ذلك بخصوص الجنة فكيف بأسماء الله وصفاته ؟ هي بلا أدنى شك مما لا يستوعبه قلب بشر أو عقله أو خياله

رابعا :-
- ومن أوجه المقارنة أيضا ما أضطر إليه أحد العلماء الأجلاء المعاصرين في كتابه ( القواعد المثلى ) ، وذلك عندما أراد في القاعدة الأولى – قاعدة الكمال – أن يستدل على بلوغ صفات الله تعالى الكمال من الوجهة العقلية فقال
" كل موجود حقيقة فلابد أن تكون له صفة كمال وصفة نقص ، والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة "
ومع التسليم المطلق بذلك عقيدة ويقينا إلا أن البين أنه عندما أراد أن يستدل على كمال الله تعالى بالعقل نظر إلى الموجودات فوجد فيها صفة نقص حتمية ، ولم يجد هذه الصفة في الموجد الأول بلا موجد وموجد الموجودات كلها ، فصار بذلك مقارنا .
والدليل على ذلك قوله في موضع آخر " ثم أنه ثبت بالحس والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال وهي من الله تعالى ، فمعطي الكمال أولى به "

فاستدل على كمال الله تعالى بالنقص الموجود في المخلوقات الأخرى
- فضلا عن أن هذه الوجهة العقلية التي استدل بها عالمنا المبجل - على الحقيقة - على الكمال الإلهي لبيان أوجه النقص في المخلوقات الأخرى وجهة داحضة وحجة واهية .
ذلك لأن الله تعالى أبدع في خلقه إبداعا تعجز الألسن عن وصفه والعقول عن تخيله ، ، وجعل لكل مخلوق من مخلوقاته دورا وغاية ، قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) (الأنبياء:16) وبهذا الإبداع وهذا الدور يمكن وصف هذه المخلوقات بالكمال لا النقص ، وذلك بالنظر إلى الغاية من خلقها والدور المعدة له والمعد لها ،.

- فالسماء ببنائها ونجومها وكواكبها وشموسها ومجراتها وأفلاكها وبما حوته من عوالم أخرى بما نعلمه فيها وما لا نعلمه ، وبدورها المعدة له ، تكون كاملة الخلق لا نقص فيها ، والأرض بجبالها وبحارها وسهولها ووديانها وشعابها وليلها ونهارها ، بل وبحرها وقرها وبما حوته من عوالم أخرى ، وبدورها المعدة له كاملة الخلق غير منقوصة قال تعالى ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (النازعـات:33)
وقال تعالى ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (الملك:4)
وقال سبحانه (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يّـس:40) فأي نقص في ذلك
وكذا الحال بالنسبة لباقي المخلوقات كالملائكة والنار والهواء والماء حتى الهوام والحشرات والحيوان ، كل له دور وكل له غاية من خلقه وكل اكتمل خلقه على النحو الذي يؤدي به دوره .

- لا يقدح في ذلك أو ينال منه تفاوت قوى الخلق بعضها على بعض ، لأن قوة كل مخلوق حسب دوره ، وحسب احتياجه من مكوناته التي كونه الله تعالى بها
ولا يشذ عن هذا الكمال الثقلين ( الإنس والجن ) ، إذ الأصل أن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم فقال سبحانه (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4) وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار:7) فدلت هذه الآيات على اكتمال خلق الإنسان ، وكماله هنا يقصد به تحقق الغاية من خلقته وأداء دوره ،

فإذا ما عرض عارض لهذه الخلقة يحد من هذا الدور كعمى أو صمم أو تعطل حاسة من حواسه أو جميعها ، أو يزيد حتى من قوة أحدها ، فما ذلك إلا لمعايير أخرى يضيق بذكرها المقام ويخرجنا عن بحثنا الطويل هذا ، وبعض هذه المعايير كالابتلاءات أو التكفيرات أو الثواب والعقاب أو الإعجاز الإلهي ... الخ ، وكله في المقام الأول يدخل في تدبير الله تعالى لملكه وشأنه الذي هو كل يوم فيه .

- وكذا النوم والأكل والشرب والتبول والتغوط بل واحتياج الناس بعضها لبعض لا يعد نقصا ، فمثل هذه الأمور من الجبليات التي تعد جزء من الخلقة تقتضيها حياته والغرض منها .
- مع ملاحظة أن الله تعالى سمى مثل هذه العوارض ( ضعفا ) . ولم يسمى أي عارض أو عيب يعترض الإنسان نقصا البتة . تجد ذلك في قوله تعالى ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً)(النساء: من الآية28) وقوله (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ)(الروم: من الآية54)
ولم يسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا نقصا ، وإنما سماها ابتلاءا لذا قال رواية عن عبد الله بن عمر عن أبيه " ما من رجل يرى مبتلي فيقول الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني عليك وعلى كثير من خلقه تفضيلا إلا عافاه الله من ذلك البلاء كائنا ما كان " مصنف بن ابي شيبه 29736

- ناهيك في كل ما تقدم عن أن القول باعتبار النقص في المخلوقات هو تعرض لقدرة الله تعالى والإقرار بعجزه عن خلق الكمال في مخلوقاته

خامسا :-
- ومن هنا يبرز سؤال تفرضه هاتيك الملاحظة وهو ، هل معنى ذلك أنه لا يوجد نقص في الخلق وخاصة الإنسان ؟ نقول في المخلوقات دون الثقلين لا ، أما في الإنسان المكلف والذي حمل الأمانة فالمعول عليه في النقص أو الكمال فيه هو في الفعل الإرادي الذي يصدر منه ، أو في الخلق القويم الذي يجب أن يكون كاملا فيه . وقف هنيهة عند قوله صلى الله عليه وسلم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) سنن البيهقي ( باب مكارم الأخلاق ) أي لأكمل نقصها .
فصفة الرحمة مثلا صفة خلقية . تتفاوت درجتها بين إنسان وآخر ، حتى يبلغ الكمال فيها شخص واحد فقط هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة ربه خالقه فقال تعالى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)

- وكذا سائر الصفات الخلقية - بما في ذلك العلم والإرادة والمشيئة والقدرة - لم تكتمل إلا فيه صلى الله عليه وسلم بشهادة ربه جلا وعلا أيضا الذي أوجز ذلك كله في آية واحدة هي مفتاح شخصيته صلى الله عليه وسلم وعنوان سنته عليه أفضل الصلاة والسلام فقال جلا من قائل (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) وذلك جميعه بقدر ما هو إنسان وبقدر احتياجه ، وقدرته على تحمل هذه الصفات

- لذا لا تنزعج أخيا عندما أقول أن الكمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لله سبحانه وتعالى ، لأن الله سبحانه وتعالى خارج نطاق المنافسة وخارج إطار المقارنة فهو سبحانه ليس كمثله شيء ، بينما يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد من البشر له مالهم وعليه ما عليهم ويخضع حينئذ للمقارنة مع غيره من البشر لتبيان أوجه النقص وأوجه الكمال .
انتهت الملاحظة الأولى

الملحوظة الثانية
أولا :-
- إن القول بالكمال الإلهي أو الغاية في الكمال في الصفات والأسماء لهو إدراك لذات الله تعالى ولأسمائه وصفاته ، وارضاءا لغرور العقل التواق إلى المعرفة ، بمعنى أن العقل تصور ماهية هذه الصفات فأدركها بقوله بلوغها الكمال ، وهي من ثم عند غيره نقص ، وكيف يدرك العقل بلوغ الصفات والأسماء الكمال وكلمة الكمال وكل كلمات اللغات هي في الأصل محدودة لا تعبر بذاتها عن صفة واحدة من صفاته سبحانه وتعالى . قال تعالى (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109) وقال تجلت قدرته (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان:27)

- وفي صريح السنة للطبري " إن صفات الله تعالى وأسمائه لا تدرك بالعقل ، لأن العقل إنما يعلم صفة ما رآه أو رأى نظيره ، والله تعالى لا نظير له ، ولا شبيه فلا تعلم صفاته وأسمائه إلا بالتوقيف ، والتوقيف إنما ورد بأسماء الصفات دون كيفيتها وتفسيرها ، فيجب الاقتصار على ما ورد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده ) ( أ هــ بتصرف )
وقال الشافعي في مصدر لا أذكره ( علم ذلك – أي العلم بالصفات والأسماء – لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية ولا بالفكر )

- والكلام الوارد بهذه المصادر وإن كان محمله الصفات المادية إلا أنه ليس فيه ما يمنع من شموله الصفات المعنوية أيضا ( كالرحمة والعدل والقوة )

ثانيا :-
إن القول بالكمال –وفقا لهذا الفكر العقلاني - لا يدع بعدا آخر للتقدير ، خاصة إذا أضيف إليه الغاية أو المطلق ، لأن الكمال في الشيء هو نهايته وتمامه وليس دونه إلا النقص ، وهذا ما يتعارض مع قوله تعالى (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )(الأنعام: من الآية91) خاصة أيضا إذا علمنا أن الكمال

– كما جاء في مختار الصحاح – هو التمام وكل شيء بلغ كماله فقد وفى ( لسان العرب )
فقولنا بكمال الأسماء والصفات لا يدع للفكر مجالا آخر للمعرفة بها ، فقد تم بهذا القول الوصول إليها وإلى كنهها ، وتم اقتحام أسوارها وكشف حجبها وجلاء أسرارها ،

- فتأمل أخي وخذ لنفسك القسط الأوفى من التأمل ، تجد أن القول بالكمال نهاية للكلام عن الصفات والأسماء ، ونهاية للتخيل والإدراك . وعلى الرغم من هذه النهاية ، فما أدت بك إلى جزء ولو ضئيل من حقيقة هذه الأسماء والصفات .

- خذ لذلك مثلا ذات الصفة التي تمثلنا بها في الملاحظة الأولى وهي صفة الرحمة ، وتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنها ( جزء من مائة جزء ) وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم " ثم جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه " ( مسلم 2752 ) فهل تكفي كلمة الكمال المطلق لاستيعاب هذا الجزء الذي يرحم الله تعالى به الخلائق في الأرض ، وإذا كان هذا هو الجزء المعلوم لدينا الذي بلغ الكمال ، فما بالنا بالثماني وتسعين جزء الأخرى

الملحوظة الثالثة
أولا :-
- إن القول بالكمال يدخل الصفة أو الاسم في دائرة الاحتمالات والاطروحات النظرية ، فضلا عن التأويل المنهي عنه في عقيدة أهل السنة والجماعة – تأويل الأسماء والصفات –
فالستير مثلا من صفات الله سبحانه وتعالى وأسمائه الحسنى لقوله صلى الله عليه وسلم ( إن الله حيي ستير ... الحديث ) ( سنن أبي داود 4012)
فإن قيل إنها بلغت الغاية في الكمال فقد لزم ذلك القول شمول ستره سبحانه وتعالى جميع خلائقه أو الصالحين منهم على أقل تقدير ، بينما المشاهد غير ذلك إذ من الناس من يشملهم ستر الله تعالى أبد حياتهم وهم على عصيان وفسوق وفجور ، ومنهم من تناله الفضائح ويكشف ستره وهو من الصالحين الأوابين إلى الله تعالى .

- فإذا وجدت ثمة تبريرات وحكم إلهية لذلك- وهي فعلا موجودة كإمهال العاصي أو التكفير عن ذنوب الصالح أو ابتلائه – فقد أصبح الجدل هو المحك وأدخلنا الصفة عندئذ في بوتقة التأويل والتفسير والتسبيب والتبرير ، وذلك كله تعرض لذات الله تعالى وتدخل في شئونه وأفعاله .
فقد يضرب العذاب امة مسلمة من الأمم كفيضان أو بركان أو زلزال أو ما شابه ذلك ، فترى الناس تتفاوت أرائهم بشأن هذا العذاب ، فيقول بعضهم إنما ذلك لذنوبهم – أي ذنوب أهل هذه الأمة - أو جراء ما كسبته أيديهم ، ونسوا قوله تعالى ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً) (فاطر:45) وقوله تعالى (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (الكهف:58) فما علمهم أن ذلك بسبب ظلمهم أو ذنوبهم ؟ أو ليس من الممكن أن يكون ابتلاء أو عظة أو زجرا أو تكفيرا ؟ - على حد قول البعض الآخر من الناس - . أوقد يكون فعلا عذابا أو تنكيلا أو أخذا بظلم ، لقوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102) وقوله (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً) (الإسراء:58)
قد يكون بعض ذلك أو جميعه ، وقد تكون أنت محق في رأيك بواحد من هذه الأسباب أو بعضها ، وأنا محق في سبب آخر أو بعضها الأخرى . وقد تجد سندا لك من الآيات والأحاديث وأجد لي أنا الآخر سندا من آيات وأحاديث ، وكلنا أنا وأنت وهم وهؤلاء جمعا أو فرادى مجادلون في أسماء الله وصفاته متأولون لها وعليها بغير علم ولا سلطان مبين . ناسين قوله تعالى
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (الحج:8) ، وقوله تعالى (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا )(غافر: من الآية35)
وكلنا أيضا نتدخل في شأن الله وإدارته لملكه بعلمه وسطوته وقوته وجبروته وبرحمته وعدله وسائر أسمائه وصفاته الحسنى. وقد يقودنا ذلك كله إلى الافتراء على الله تعالى بالكذب

ثانيا :-
- ومن أكبر دلالات الجدل الذي يضطر إليه المرء ليدفع عن ربه الشبهات ، هو وصف بعض الصفات التي وصف سبحانه وتعالى بها نفسه وثبتت بالكتاب والسنة بالصفات السلبية .مثل قوله تعالى (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (لأنفال: من الآية30) وقوله (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ )(النساء: من الآية142)

- فكيف يتسنى لنا ونحن نتحدث عن رب العزة أن نصف هذه الصفات ومثيلاتها بالسلبية وقد وصف سبحانه وتعالى بها نفسه ؟ أليس هذا القول شبيها بقول المتأولة الذين قالوا في اليد بأنها يد القدرة ، وفي النزول نزول الرحمة .

- نعم هو تأويل منكر عندي ، وذلك لأن هذه الصفات أثبتها الله تعالى لنفسه وذكرها في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، شأنها شأن الصفات الأخرى جميعها مادية كانت أم معنوية ، نثبتها له تعالى بغير تأويل أو تكييف أو تعطيل ، بغير أن يمنع ذلك تفسيرها ، لأن المسلم معني بالتفسير لا التأويل . لقوله تعالى عن آياته جماعا المحكم منها والمتشابه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7)

- فما تفسيرها إذن ، نقول وبالله التوفيق هذه الصفات صفات ثبوتية لأن الله تعالى أثبتها لنفسه فلا يجدر بنا نفيها عنه سبحانه وتعالى ، ولكنها وإن تشابهت ألفاظها مع الألفاظ التي نتكلم بها إلا أنها بالنسبة لله تعالى لا تخرج مخرج هذه الألفاظ وإن أدت إلى ذات المعنى الذي تؤديه وفقا لما يمكن أن تستوعبه عقولنا منها وبالقدر الذي نحتاجه من هذا الاستيعاب ، وقياسنا في ذلك الصفات المادية كاليد أو الساق على سبيل المثال ، فكثير من مخلوقات الله تعالى له جارحة تعمل عمل اليد ، وسماها الله تعالى يد ، على الرغم من اختلاف شكلها وهيئتها وأحيانا وظيفتها من مخلوق لأخر ، فيد الإنسان ليست كيد الحيوان وليست كيد الطير وليست كيد الهوام أو الحشرات ، بل الأيدي في هذه الأجناس تختلف من نوع إلى آخر ، وكل هؤلاء ليست أيديهم كيد الملائكة أو يد الجن ، بل جعل الله تعالى للقرآن والكتب السماوية يد ليست ككل هذه الأيدي ، فقال تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ) (آل عمران:3) وعلى الرغم من ذلك اسم الجارحة واحد في كل هذه المخلوقات واحد هو اليد .
ولأن اليد هي من الألفاظ التي نتكلم بها والله تعالى يكلمنا بهذه الألفاظ فقد وصف نفسه بذات هذه الألفاظ ، فأثبت لنفسه اليد ، ولأن هذه اليد اختلفت بين المخلوقات جميعا ، كان لازما أن تكون مختلفة بالنسبة لله تعالى ، ولأن الله تعالى ليس كمثله شيء فقد وجب ان تكون هذه اليد ليست كمثلها شيء ، ومن ثم صار كل تخيل ووصف لها مخالف للحقيقة التي لا نعلمها ولا نحيط بها علما ، لذا فوض فيها العلماء واهل السنة العلم بها إلى الله تعالى ، وأثبتوها له جلا وعلا بغير تكييف أو تعطيل أو تشبيه إلا بما يليق بجلاله ومقامه جلا وعلا . - والصفات السلبية محل كلامنا تحمل على هذا المحمل وتقاس عليه ، فهي من الألفاظ التي نتكلم بها نحن البشر والله تعالى يكلمنا بها لأنها التي نعرفها ولأن القرآن الكريم نزل بها ، ولكنها اختلفت بالنسبة لله تعالى الذي ليس كمثله شيء ، كما اختلفت بين المخلوقات بعضها عن بعض ، فالحيوان أيضا يمكر ، والملائكة تمكر ، والجن يمكر ، ولكن مكر عن مكر يختلف باختلاف كل مخلوق عن غيره ،

- ومن ثم اختلف المكر وما شابه من صفات بالنسبة لله تعالى بما يليق بذاته جلا وعلا وبغير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل أيضا ،

- فضلا عن أن الإنسان يمكر بمكنات الهوى والنقص ( والنقص كما قلنا سابقا نقول به في الفعل الإرادي الخلقي ) لذا يسمى ماكر أو مخادع ، أما الله تعالى فهو يمكر ويخادع بغير هذه المكنات أي بغير هوى أو ضعف أو نقص ، ولكن بما يليق بذاته وبما يناسب قدرته وعظمته وجلاله ، لذا لا يوصف بالماكر أو المخادع ويستحيل من ثم وصفه بالمكر أو الخداع

ثالثا :-
- أما عن صفات النفي التي نفاها سبحانه وتعالى عن نفسه ، كالنوم والموت والجهل والنسيان والعجز والصمم والفقر وغل اليد والغفلة ... وغير ذلك مما نجده في الآيات التالية :
(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)(البقرة: من الآية255) (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ )(الفرقان: من الآية58) (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)(مريم: من الآية64) (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ )(المائدة: من الآية64) (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ)(فاطر: من الآية44)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الدجال ونفي العور عن الله سبحانه وتعالى " إنه أعور وربكم ليس بأعور " وقوله صلى الله عليه وسلم في نفي الصمم عنه سبحانه وتعالى " أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو"(مسلم 2704)
فما ذاك جميعه إلا لينفي سبحانه وتعالى وينفي عنه نبيه صلى الله عليه وسلم كل العيوب ومواطن الضعف ، فيكون من ثم جديرا بالعبودية وحده دون غيره ، لأن غيره لابد أن تجد فيه هذه مواطن الضعف هذه والعيوب كلها أو بعضها .فيكون غير جدير حينئذ بالإلوهية أو الربوبية أو العبودية ، لذا ضرب سبحانه وتعالى مثلا للآلهة التي تعبد من دونه بأنها لا تسمع ولا تتكلم ولا تنفع ولا تضر ليقدم الدليل على جهل وحمق من عبدوها من دونه سبحانه وتعالى بها ، فقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (مريم:42) وقال (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (المائدة:76)
وضرب مثلا بابن مريم عليه السلام الذي اتخذوه إلها فقال فيه ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) (المائدة: من الآية75) فهو يأكل ويشرب وينام ويبول ويتغوط ، فكيف يكون إلها

- إلا أن ذلك – أي صفات النفي هذه - لا يعني ولا يقتضي ولا يضطرنا أيضا إلى القول بالكمال ، لأن لفظة الكمال حينئذ ليس هي المضادة لكلمة النفي ، ولكن اللفظة المضادة للنفي هي الثبوت ، فحيث نفى سبحانه وتعالى عن نفسه ما ذكرنا طرفا منه ، فقد أثبت لنفسه عكس ما نفى ، فحيث لا ينام فهو يرى ويسمع ويتكلم ويتحرك ويفعل ... أزلا وأبدا ، ولا أقول متيقظ أو مستيقظ لأن اليقظة هي انتباه من نوم ، وحيث لا يموت فهو حي أزلا وأبدا ، وحيث لا ينسى فهو متذكر أزلا وأبدا ، وهكذا في سائر صفات النفي ، فإذا ما اتحدت صفات الثبوت مع صفات النفي تلك ، صار سبحانه وتعالى المستحق وحده بالعبودية

الملحوظة الرابعة
- إن القول بالكمال انصرف إلى الصفات المعنوية دون الصفات المادية ، أي قالوا بالكمال فيما يتعلق بالأسماء والصفات التي تدل على جوهره جلا وعلا ، كالرحمة والعدل والقوة والقدرة والعظمة ... دون القول بالكمال بالنسبة للصفات المادية التي تدل على هيئته سبحانه وتعالى كاليد والساق والعين والضحك والنزول والإتيان ...
فما ورد إلى علمي أن أحدا قال يد الله بلغت الكمال ، أو أن ضحكه بلغ الكمال ، هذا غير متصور فلا ينكرن منكر أن المقصود بقاعدة الكمال لله الصفات المعنوية – ان صح هذا التعبير – دون المادية – ان صح هذا التعبير أيضا –

- بل فرق العلماء في توصيف كلا النوعين من الصفات والأسماء فقالوا في الأولى بلغت الكمال وقالوا في الثانية نثبتها لله تعالى بغير تعطيل أو تشبيه أو تكييف أو تمثيل أو تأويل ، واتخذت كلمة الإمام مالك رضي الله عنه "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة " قاعدة في هذا الصدد
وهذا ما أؤمن به وأعتنقه ، إلا أنني أجعل هذه القاعدة شاملة لكل الصفات والأسماء – المعنوية والمادية جميعا بلا تفرقة أو استثناء – لأن الأمر كله يتعلق بذات واحدة هي ذات الله تعالى التي ليس كمثلها شيء .

الملحوظة الخامسة
- الكمال ليست اسما من أسماء الله الحسنى ، ولم ترد في كتاب الله تعالى قاطبة ، ولم ترد في حديث لنبي الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل بها أحد من الصحابة مطلقا ،
ويبدو والله اعلم أنها – أي مقولة الكمال لله - ظهرت مع ظهور علم الكلام ، حيث أراد أهل السنة بها دحض حجج نظرائهم من أهل الملل والفرق الأخرى في مسائل السماء والصفات وبقولهم هذا وضعوا حدا لنهاية الصفة وتمامها فلم يتركوا لعلماء الكلام فرصة لتأويل الصفات أو تشبيهها بغيرها

- وحيث أن صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى عرفت (بالتوقيف دون كيفية أو تفسير فيجب الاقتصار على ما ورد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده )صريح السنة للطبري

- وحيث أن صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى غير مخلوقة ( من زعم أن أسماء الله مخلوقة فهو كافر ) أحمد بن حنبل من السنة للآلكائي
فلا ينبغي أن يضاف إلى هذه الصفات والأسماء اسما أو وصفا لم يقل به الله تعالى أو نبيه أو صحابي من أكابر الصحابة رضي الله عنهم – والأخير لم يقل إلا ما قال به الله ورسوله –
- والقول بالكمال هو إضفاء وصفا لله تعالى أو لذاته العلية أو اسما لم يرد في كتاب او سنة ، قال الشافعي " آمنت بما جاء عن الله على مراد الله وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله "