يحكي سفر التكوين في اصحاحه السابع والعشرين أن نبي الله اسحاق عليه وعلى رسولنا الصلاة والسلام ( وكان قد كف بصره ) قال لأبنه عيسو: يَابُنَيَّ هَا أَنَا قَدْ شِخْتُ وَلَسْتُ أَعْرِفُ مَتَى يَحِينُ يَوْمُ وَفَاتِي. فَالآنَ خُذْ عُدَّتَكَ : جُعْبَتَكَ وَقَوْسَكَ، وَامْضِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَاقْتَنِصْ لِي صَيْداً. وَجَهِّزْ لِي طَعَاماً شَهِيّاً كَمَا أُحِبُّ وَائْتِنِي بِهِ لآكل ، لِتُبَارِكَكَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ .إلا ان امراة اسحاقواسمها رفقة وهي أم عيسو ويعقوب قد أرادت أن يختص ابنها يعقوب بهذه البركة ، فدبرت حيلة لتحقيق غرضها ، فأمرت يعقوب أن يأخذ جديين وتصنع هي منهما طعاماً لإسحق ، ويأتي بهما يعقوب إلى إسحق أبيه فيقدمهما إليه ليباركه ، وأن يعقوب قال لأمه انني أخشى أن يكشف أبي هذه الخديعة حينما يتحسس جسمي فيجدني أجرد ، مع أن جسم أخي عيسو مكسو بفروة شعر ، فأجلب على نفسي لعنة لا بركه ! فقالت له سأدبر حيلة لذلك ، فأخذت ثياب عيسو ابنها الأكبر وألبستها يعقوب ، ووضعت جلود الجديين على يديه وعلى حلقه ، حتى إذا تحسس اسحق جسمه ظن أنه جسم عيسو !! . وأعطت يعقوب الطعام فجاء به إلى أبيه ، وقال يا أبي ، فقال له إسحق : من أنت يا ولدي ؟ قال يعقوب أنا ابنك عيسو بكرك ( أي أكبر ولديك ) صنعت جميع ما قلت لي ، فاجلس وكل من صيدي وبارك علي ! فقال اسحق تقدم لأتحسس جسمك ولأتبين هل انت عيسو أم لا . فتقدم يعقوب فجسه اسحق ، وقال الصوت صوت يعقوب واليدان يدا عيسو . وقال هل انت ابني عيسو ؟ فقال نعم أنا ابنك عيسو . فبارك عليه وقال له في بركته : تخدمك الأمم ، وتخضع لك الشعوب ، وتكون مولى اخوتك ، ويسجد لك بنو أمك .
وحدث بعد ذلك أن عيسو أتى بالطعام إلى اسحق ، فعرف اسحق الخديعة والغش التي عملها ابنه يعقوب ، ولكن اعتذر لعيسو ، وقال له قد خدعني أخوك يعقوب واختص ببركتي ، وصيرته سيداً لك ، وجعلت جميع اخوته عبيداً له ولأولاده ، فماذا عسى أن أعمله لك بعد ذلك ؟! فقال عيسو لأبيه ألك بركة واحده يا أبي ، باركني أنا أيضاً . ورفع عيسو صوته وبكى . فأجابه أبوه قائلاً : سيكون مسكنك في بلد مجرد من دسم الأرض وغيث السماء ! ، وستعيش مما يفيئه عليك سيفك . ولأخيك تكون عبداً ، ولكنك ستجمع وتكسر نير الاستعباد عن عنقك ! .
وقد بين العلامه ابن حزم ، في نقد لاذع وتحليل رائع ، ما في هذا النص من أكاذيب وخرافات ومتناقضات إذ يقول :
وفي هذا الفصل فضائح وأكذوبات وأشياء تشبه الخرافات . فأول ذلك اطلاقهم على نبي الله يعقوب عليه السلام أنه خدع أباه وغشه وهذا مبعد عمن فيه خير من أبناء الناس مع الكفار والأعداء . فكيف من نبي مع أبيه وهو نبي أيضاً ؟! هذه سوءات مضاعفات .
ثانياً : اخبارهم أن بركة يعقوب إنما كانت مسروقه بغش وخديعة وتخابث . وحاشا للأنبياء عليهم السلام من هذا . ولعمري انها لطريقة اليهود ، فما تلقى منهم إلا الخبيث الخادع والا الشاذ .
ثالثاً : اخبارهم أن الله أجرى حكمه وأعطى نعمته على طريق الغشوالخديعة ، وحاش لله من هذا .
رابعاً : أنه لا يشك أحد في أن اسحق عليه السلام لما بارك يعقوب حينما خدعه ، كما زعم النذل الذي كتب لهم هذا الهوس ، إنما قصد بتلك البركة عيسو ، وأنه دعا لعيسو لا ليعقوب . فأي منفعة للخديعة ها هنا ؟ لو كان لهم عقل .
وأما وجوه الكذب فكثيرة جداً . من ذلك نسبتهم الكذب إلى يعقوب عليه السلام وهو نبي الله ورسوله ، في أربع مواضع :
أولها وثانيها قوله لأبيه اسحاق أنا ابنك عيسو وبكرك . فهاتان كذبتان في نسق ، لأنه لم يكن ابنه عيسو ولا كان بكره وثالثها ورابعها قوله لأبيه صنعت جميع ما قلت لي فاجلس وكل من صيدي .فهاتان كذبتان في نسق ، لأنه لم يكن له شيئاً ولا أطعمه من صيده . وكذبات أخرى هي : بطلان بركة اسحق إذ قال ليعقوب تخدمك الأمة وتخضع لك الشعوب وتكون مولى اخوتك ، ويسجد لك بنو أمك . وبطلان قوله لعيسو تستعبد لأخيك . فهذه كذبات متواليات . فوالله ما خدعت الأمم يعقوب ولا بنيه بعده ، ولا خضغت لهم الشعوب ، ولا كانوا موالى اخوتهم ، ولا سجد لهم ولا له بنو أمه . بل ان بني اسرائيل هم الذين خدموا الأمم في كل بلدة وخضعوا للشعوب قديماً وحديثاً في أيام دولتهم وبعدها .
وأما قوله تكون مولى اخوتك ويسجد لك بنو أمك ، فلعمري لقد صح ضد ذلك جهاراً ، إذ في توراتهم أن يعقوب كان راعياً لأنعام ابن عمه لابان بن ناحور بن لامك وخادمه عشرين سنة ، وأنه بعد ذلك سجد هو وجميع ولده _ حاشا من لم يكن خلق منهم بعد _ لأخيه عيسو مرارا كثيرة .
وما سجد عيسو قط ليعقوب ، ولا ملك قط أحد من بني يعقوب بني عيسو . وقد تعبد يعقوب لعيسو في جميع خطابه له ، وما تعبد قط عيسو ليعقوب . وقد سأل عيسو يعقوب عن أولاده فقال له يعقوب هم أصاغر من الله بهم على عبدك . وقد طلب يعقوب رضاء عيسو وقال له : اني نظرت الى وجهك كمن نظر إلى بهجة الله ، فارض عني ، واقبل ما اهديت اليك . فما نرى عيسو وبنيه إلا موالى يعقوب وبنيه .
فما نرى تلك البركة عزيزى القارىء الا انها معكوسة منكوسة ! ونعوذ بالله من الخذلان .
والطريف ان الكتاب المقدس يحكي ان يعقوب اشترى النبوة من أخيه عيسو فى مقابل طبق عدس وقطعة لحم :
تكوين 25: 29-34 "
وَطَبَخَ يَعْقُوبُ طَبِيخاً فَأَتَى عِيسُو مِنَ الْحَقْلِ وَهُوَ قَدْ أَعْيَا. فَقَالَ عِيسُو لِيَعْقُوبَ: أَطْعِمْنِي مِنْ هَذَا الأَحْمَرِ لأَنِّي قَدْ أَعْيَيْتُ. ( لِذَلِكَ دُعِيَ اسْمُهُ أَدُومَ ). فَقَالَ يَعْقُوبُ: بِعْنِي الْيَوْمَ بَكُورِيَّتَكَ. فَقَالَ عِيسُو: هَا أَنَا مَاضٍ إِلَى الْمَوْتِ فَلِمَاذَا لِي بَكُورِيَّةٌ؟ فَقَالَ يَعْقُوبُ: احْلِفْ لِيَ الْيَوْمَ. فَحَلَفَ لَهُ. فَبَاعَ بَكُورِيَّتَهُ لِيَعْقُوبَ. فَأَعْطَى يَعْقُوبُ عِيسُوَ خُبْزاً وَطَبِيخَ عَدَسٍ فَأَكَلَ وَشَرِبَ وَقَامَ وَمَضَى. فَاحْتَقَرَ عِيسُو الْبَكُورِيَّةَ. "