بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله

مستقر الأرواح في البرزخ


أرواح العباد في البرزخ متفاوتة في منازلها، وقد استقرأنا النصوص الواردة في ذلك فأفادتنا التقسيم التالي:
أولاً: أرواح الأنبياء، وهذه تكون في خير المنازل في أعلى عليين، في الرفيق الأعلى، وقد سمعت السيدة عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر لحظات حياته يقول: ((اللهمَّ الرفيق الأعلى)) (1) .
الثاني: أرواح الشهداء، وهؤلاء أحياء عند ربهم يرزقون، قال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 16]، وقد سأل مسروق عبد الله بن مسعود عن هذه الآية، فقال: ((إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: " أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل)) رواه مسلم في صحيحه (2) . وهذه أرواح بعض الشهداء لا كل الشهداء، لأن منهم من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه، كما في المسند عن عبد الله بن جحش: ((أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، مالي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولّى، قال: إلا الدين، سارني به جبريل آنفاً)) (3) . الثالث: أرواح المؤمنين الصالحين: تكون طيوراً تعلق في شجر الجنة، ففي الحديث الذي يرويه عبد الرحمن بن كعب بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما نسمة المسلم طير يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده إلى يوم القيامة)) رواه أحمد (4) .
والفرق بين أرواح المؤمنين وأرواح الشهداء، أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح متنقلة في رياض الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرض، أما أرواح المؤمنين فإنها في أجواف طير يعلق ثمر الجنة ولا ينتقل في أرجائها. وكون أرواح المؤمنين في أجواف طير يعلق شجر الجنة لا يشكل عليه الحديث الآخر الذي يرويه أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه ((أن الملائكة تقبض روح العبد المؤمن، وترقى به إلى السماء، فتقول الملائكة: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحاً من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه، فإنه كان في غم الدنيا، فيقول: قد مات، أما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية)) (5) ، فإن روح المؤمن تلتقي بأرواح المؤمنين في الجنة. الرابع: أرواح العصاة: ... أن الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق يعذب بكلوب من حديد يدخل في شدقه حتى يبلغ قفاه، والذي نام عن الصلاة المكتوبة يشدخ رأسه بصخرة، والزناة والزواني يعذبون في ثقب مثل التنور، ضيق أعلاه، وأسفله واسع، توقد النار من تحته، والمرابي يسبح في بحر من دم، وعلى الشط من يلقمه حجارة (6) . وقد ذكرنا الأحاديث التي تتحدث عن عذاب الذي لم يكن يستنزه من بوله، والذي يمشي بالنميمة بين الناس، والذي غلَّ من الغنيمة ونحو ذلك. الخامس: أرواح الكفار: في حديث أبي هريرة عند النسائي بعد وصف حال المؤمن إلى أن يبلغ مستقره في الجنة، ذكر حال الكافر، وما يلاقيه عند النزع، وبعد أن تقبض روحه ((تخرج منه كأنتن ريح، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح، حتى يأتون به أرواح الكفار)) (7) .
إشكال وجوابُه:
قد يقال: سقت من النصوص ما يدل على أن الأرواح تعاد إلى الأبدان، ثم تُسأل، وبعد ذلك ينعم المؤمن، ويعذب الكافر، فكيف تقول بعد ذلك: إن نسم المؤمنين في الجنة، ونسم الكفار في النار؟
حاول ابن حزم أن يضعف الأحاديث التي تذكر إعادة الروح إلى البدن في القبر، ولكن ليس الأمر كذلك، فإن ما ضعفه ابن حزم وهو حديث زاذان عن البراء حديث صحيح، وهناك أحاديث كثيرة صحيحة متواترة تدل على عود الروح إلى البدن كما يقول ابن تيمية (8) .
وفي التوفيق بين النصوص يقول ابن تيمية: (وأرواح المؤمنين في الجنة، وإن كانت مع ذلك قد تعاد إلى البدن، كما أنها قد تكون في البدن، ويعرج بها إلى السماء كما في حال النوم، أما كونها في الجنة ففيه أحاديث عامة، وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء، واحتجوا بالأحاديث المأثورة العامة وأحاديث خاصة في النوم وغيره) (9) .
ثم ذكر بعض هذه الأحاديث التي سقناها من قبل، وأورد حديث أبي هريرة الذي رواه ابن حبان وغيره، والذي يذكر فيه أن المؤمن يرى بعد السؤال مقعده من الجنة، ومقعده من النار لو كان كافراً، قال: ((ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له فيه، ويعاد جسده كما بدئ، وتجعل نسمته في نسم طيب، وهي طير تعلق في شجر الجنة)) (10) ، وفي لفظ: ((وهو طير يعلق في شجر الجنة)) (11) ، وفي لفظ: ((ثم يعاد جسده إلى ما بدئ منه)) (12) فالروح – كما يدل عليه الحديث تعاد إلى الجسد بعد الرحلة إلى السماء، ثم تسأل، ثم تكون طيراً يعلق بشجر الجنة إلى أن يبعث العباد، ومع كونها في الجنة فإنه يبقى لها تعلق بالجسد، كحال الإنسان في النوم، فإنها تجول في ملكوت السماوات والأرض، مع أن لها تعلق بالجسد، وفقه هذا مبني على معرفة أن الروح مخالفة للأجساد وللمعهود من حال المخلوقات الدنيوية، يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أن مستقر أرواح المؤمنين الجنة: (ومع ذلك تتصل بالبدن متى شاء الله تعالى، وهي في تلك بمنزلة نزول الملك، وظهور الشعاع في الأرض، وانتباه النائم) (13) . (20)

وقد اختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة: فقيل: أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار، وقيل: إن أرواح المؤمنين بفناء الجنة على بابها، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها. وقيل: على أفنية قبورهم. وقال مالك: بلغني أن الروح مرسلة، تذهب حيث شاءت. وقالت طائفة: بل أرواح المؤمنين عند الله عز وجل، ولم يزيدوا على ذلك. وقيل: إن أرواح المؤمنين بالجابية من دمشق، وأرواح الكافرين ببرهوت بئر بحضرموت! وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكافرين في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس! وقيل: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكافرين ببئر برهوت. وقيل: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله. قال ابن حزم وغيره: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها. وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم. وعن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش، تغدو وتروح إلى رياض الجنة، تأتي ربها كل يوم تسلم عليه. وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض. وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن، كحياته وإدراكه ! وقولهم مخالف للكتاب والسنة. وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح! وهذا قول التناسخية منكري المعاد، وهو قول خارج عن أهل الإسلام كلهم.
... ويتلخص من أدلتها: أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت، فمنها: أرواح في أعلى عليين، في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وهم متفاوتون في منازلهم. ومنها أرواح في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء، لا كلهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه. كما في (المسند) عن عبدالله بن جحش: ((أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: مالي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولى، قال: إلا الدين، سارني به جبرائيل آنفا)) (14) . ومن الأرواح من يكون محبوساً على باب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة)) (15) ومنهم من يكون محبوساً في قبره، ومنهم من يكون في الأرض، ومنها أرواح في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة، كل ذلك تشهد له السنة، والله أعلم. وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره، في قوله تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، وقوله تعالى :وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ [البقرة:154] فهي: أن الله تعالى: جعل أرواحهم في أجواف طير خضر. كما في حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أصيب إخوانكم، يعني يوم أحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مظلة في ظل العرش)) الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود (16) ، وبمعناه في حديث ابن مسعود رواه مسلم (17) . فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه، أعاضهم منها في البرزخ أبداناً خيراً منها، تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان، أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها. ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير، أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير. وتأمل لفظ الحديثين، ففي (الموطأ) أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه)) (18) . فقوله نسمة المؤمن تعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال: هي في جوف طير خضر، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم، فلهم نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه، والله أعلم. وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، كما روي في (السنن) (19) . وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة، والله أعلم. وكأنه - والله أعلم - كلما كانت الشهادة أكمل، والشهيد أفضل، كان بقاء جسده أطول. (

موقع درر

أين مستقر الأرواح بعد الموت؟
الدار الآخرة أسئلة وأجوبة حول القبر

س: أين مستقر الأرواح بعد الموت؟
ج: قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأما المسألة الخامسة عشرة: وهي أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة؟ هل هي في السماء أم في الأرض؟ وهل هي في الجنة والنار أم لا؟ وهل تُودع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها فتتنعم وتعذب فيها أم تكون مجردة؟

فهذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها، وهي إنما تُتلقى من السمع فقط، واختلف في ذلك:
فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله، شهداء كانوا أم غير شهداء، إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرةٌ ولا ديْن، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم، وهذا مذهب أبي هريرة، وعبدالله بن عمرو رضي الله عنهم.

وقالت طائفة: هم بفِناء الجنَّة على بابها، يأتيهم من رَوحها ونعيمها ورزقها.

وقالت طائفة: الأرواح على أفنية قبورها.

وقال مالك رحمه الله: بلغني أن الروح مُرسَلة تذهب حيث شاءت.

وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبدالله: أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة.

ورُوي عن جماعة من الصحابة والتابعين: أن أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار ببرهوت (بئر بحضرموت).

وقال كعب رحمه الله: أرواح المؤمنين في علِّيِّين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سِجِّين في الأرض السابعة تحت خد إبليس.

وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله.

وقالت طائفة أخرى، منهم ابن حزم: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها.

بعد عرض ما سبق يترجح لنا أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت.

أولاً: أرواح الأنبياء، وهذه تكون في خير المنازل في أعلى عِليِّين، في الرفيق الأعلى، وقد سمِعَت السيدةُ عائشةُ الرَّسولَ -صلى الله عليه وسلم- في آخر لحظات حياته يقول: ((اللهم الرفيق الأعلى))؛ (البخاري).

وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء، وهذا قول ابن القيم وشارح الطحاوية.

قال ابن رجب - رحمه الله - في "أهوال القبور": "أما الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فليس فيهم شكٌّ أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين".

ثانيًا: أرواح الشهداء، وهؤلاء أحياء عند ربهم يُرزقون.
قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169].

وقد سأل مسروق - رحمه الله - عبدَالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن هذه الآية، فقال: "إنا قد سألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال: ((أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل مُعلَّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل))"؛ (رواه مسلم في صحيحه).

قال النووي - رحمه الله - في شرح هذا الحديث: قال القاضي عياض: "وفيه أن الأرواح باقية لا تَفنى، فينعَّم المحسن ويُعذَّب المسيء، وقد جاء به القرآن والآثار، وهو مذهب أهل السنة، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أصيب إخوانكم بأُحُد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خُضر، تَرِد أنهارَ الجنة، وتأكل من ثِمارها، وتأوي إلى قناديلَ من ذهب، مُعلَّقة في ظلِّ العرش، فلما وجدوا طِيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يُبلِّغ عنا إخواننا أنَّا أحياء في الجنة نُرزق، لئلَّا يَنكلوا عن الحرب، ولا يزهدوا في الجهاد؟ قال: فقال الله عز وجل: أنا أُبلِّغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169]"؛ (أحمد).

وفي "صحيح البخاري" عن أنس - رضي الله عنه - قال: "أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمُّه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، قد عَرَفت منزلة حارثة منِّي، فإن يكن في الجنة صبرتُ واحتسبت، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟ قال: ((ويحك! أَوَهبلتِ؟ جنَّة واحدةٌ هي؟ إنها جنانٌ كثيرة، وإنه في جنة الفردوس)).

وقال صلى الله عليه وسلم: ((رأيتُ جعفر بن أبي طالب ملَكًا يطير في الجنة مع الملائكة بجناحَين))؛ (الترمذي).

الثالث: أرواح المؤمنين الصالحين: تكون طيورًا تعلُق شجر الجنة.

قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما نَسَمة المؤمن طائر يَعْلُقُ[1] في شجر الجنة، حتى يبعثه الله إلى جسده يوم يبعثه))؛ (رواه مالك وأحمد والنسائي عن كعب بن مالك عن أبيه، وهو في صحيح الجامع: 2373).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهناك أحاديث على اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه، وهناك أحاديث تدل على انفراد الروح وحدها كالأحاديث السابقة، ثم قال شيخ الإسلام: فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تُنعَّم مع البدن الذي في القبر إذا شاء الله، وإنما تُنعم في الجنة وحدها، وكلاهما حقٌّ، وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب "ذكر الموت" عن مالك بن أنسٍ قال: "بلغني أن الروح مرسَلة تذهب حيث شاءت".

الرابع: أرواح العصاة: وستأتي النصوص التي تبين ما يلاقيه العصاة من العذاب.
فمن ذلك أن الذي يَكذِب الكذبةَ تبلغ الآفاقَ يُعذَّب بكلُّوب من حديد يدخل في شدقه حتى يبلغ قفاه، والذي نام عن الصلاة المكتوبة يُشدَخ رأسه بصخرة، والزُّناة والزَّواني يُعذَّبون في ثقب مثل التَّنُّور، ضيِّق أعلاه وأسفله واسع، تُوقد النار من تحته، والمُرابي يسبح في بحر من دم، وعلى الشطِّ من يلقمه حجارة، وهناك من الأحاديث التي تتحدث عن عذاب الذي لم يكن يستنزه من بوله، والذي يمشي بالنَّميمة بين الناس، والذي غلَّ من الغنيمة، ونحو ذلك.

الخامس: قال ابن القيم: "ومنهم: من يكون محبوسًا على باب الجنة كما في الحديث الآخر: ((رأيت صاحبكم محبوسًا على باب الجنة)).

وعن سمُرة بن جُندب، قال: "صلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة، فلما انصرف قال: ((أها هُنا مِن آل فلان أحد؟)) فسكتَ القوم - وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا - فقال ذلك مرارًا ثلاثًا، فلم يجبه أحد، فقال رجلٌ: هو ذا، فقام رجلٌ يجرُّ إزارَه من مُؤخر الناس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما منعك في المرَّتَين الأُولَيَين أن تكون أَجبتَني؟ أما إني لم أُنوِّه باسمك إلا لخير، إن فلانًا - لرجل منهم - مأسور بدَيْنه عن الجنة، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله عز وجل))"؛ (أبو داود).

السادس: مَن يكونُ مقرُّه بابَ الجنة:
قال ابن القيم في "الروح" (ص 154): "ومنهم من يكون مقرُّه باب الجنة، كما في حديث ابن عباس: "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبَّة خضراء، يخرج رزقهم من الجنة بُكرة وعشيَّة"؛ (رواه أحمد).

وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب؛ حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء.

السابع: أرواح الكفار: في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند النسائي: بعد أن وصف حال المؤمن إلى أن يبلغ مستقره في الجنة، ذكر حال الكافر، وما يلاقيه عند النزع، وبعد أن تقبض رُوحه: "تَخرج منه كأنتن ريح، حتى يأتون به بابَ الأرض، فيقولون: ما أنتنَ هذه الرِّيح! حتى يأتون به أرواح الكفار".

الثامن: أطفال المشركين، والراجح أنهم في الجنة كما مرَّ بنا.

[1] يَعْلُقُ: يأكل.
موقع الألوكة