قد أتفهم جهل معاصري دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب بحقيقة دعوته التي تركز على ترسيخ مفاهيم التوحيد الخالص والبراءة من الشرك بأنواعه ، قد أتفهم جهلهم بسبب البعد الجغرافي ، وقلة مصادر المعرفة والمعلومة ، وندرة وسائل الاتصال . لكنني لا أفهم كيف يخرج اليوم أناسٌ يرددون ذات الحجج التي رددها خصوم الدعوة رغم انتشار مؤلفات الشيخ من كتب ورسائل ، مع وجود وسائل التواصل الكثيرة والمتنوعة، التي كشفت أن الكثير مما قيل من خصوم دعوة الشيخ كانت محض افتراءات وأكاذيب . فهل يوجد عاقل اليوم قد يُصدِّق أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله قد ادعى النبوة كما روَّج ذلك بعض خصوم دعوته في السابق ؟ وهل يوجد عاقل قد يُصدِّق أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله جعل طاعته الركن السادس في الإسلام ؟! وهل يوجد عاقل يُصدِّق اليوم أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله قد حرَّم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله دعوة سلفية ، لا تختلف عن دعوة من سبقوه من العلماء والمصلحين ، وعقيدة الشيخ مكتوبة ومعلنة ومُصرِّح بها في كتبه ورسائله ، فهو على مذهب أهل السنَّة والجماعة بفهم السلف الصالح ، وكل فتاواه إنما يرجع فيها إلى الكتاب والسنَّة وقول الأئمة الأربعة . والشيخ عالم غير معصوم يؤخذ من قوله ويترك كما هو الحال مع أئمة الإسلام السابقين واللاحقين. ولا ينبغي الحكم على الشيخ ودعوته بعيداً عن ظروف عصره وشروط مجتمعه فهو في النهاية ابن تلك الظروف التاريخية .
تتركز دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله على فكرة مركزية عقدية هي فكرة " إفراد الله وحده بالعبادة بأنواعها وذلك يشمل الدعاء والذبح والنذر والاستغاثة والاستعانة وغيرها " فالشيخ يرى أن صرف شيء من هذه العبادات لغير الله هو شرك في نفسه ، وإذا اعتقد صاحبها أن المدعو أو المذبوح له أو المنذور إليه أو المستغاث والمستعان به يستطيع أن ينفع أو يضر فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك بالله إذا أُقيمت عليه الحجة وأصر على رأيه . ولا أعتقد أن عاقلاً يشك اليوم في صحة حكم الشيخ في هذا ، اللهم إلا عبدة الأولياء والقبور والمعممين والسادة .
فالشيخ كما هم علماء أهل السنَّة والجماعة من السلفيين في القديم والحديث يعتبر أن الشرك بالله هو أخطر ما يهدد المسلمين ، وأن الله قد يغفر كل شيء سوى الشرك ، بدليل قوله تعالى ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) . وأن للشرك وجوه معاصرة استوطنت قلوب بعض الناس مثل دعاء الأولياء والطواف بقبورهم والنذر والذبح لهم والاستغاثة بهم لتفريج الكربات وشفاء الأمراض وإعطاء الرزق بزعم قرب ووجاهة هؤلاء الأولياء من الله ، وهو عين شرك كفار قريش الذين كانوا يقولون ( وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) ، فكفار قريش كانوا يؤمنون بوجود الله وأنه رازق ومعطي ومحيي ومميت لكنهم أشركوا معه في عبادته ولذلك عُدُّوا مشركين . والأدلة على إثبات إقرارهم بوجود الله وربوبيته كثيرة منها (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله ) وقول تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ) ، وقوله تعالى ( قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون ) ، والآيات في المشركين رغم اعترافهم بربوبية الله كثيرة أيضاً ومنها قوله تعالى ( وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) وقوله تعالى ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون )
فالشرك حقيقة ، وليس واقعة بدائية حصلت في زمن ماض وانتهت . ونصوص القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لم تنزل لأناس في زمن دون زمن بل نزلت منذ عصر النبوة وحتى يرث الله الأرض ومن عليها ، ولهذا يقال دائماً أن العبرة بعموم اللفظ القرآني والنبوي لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه ومن أجله .
والشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله لا يحكم على شيء من هذا بلا دليل ، بل هو عالة على من سبقه من الأئمة والعلماء الذين هم بدورهم عالة على الأصلين الكبيرين : القرآن الكريم والسنَّة النبوية .
فيا للعجب كيف يُلام الشيخ على حرصه الشديد على توحيد العبادة لله وحده ، فهو كمن يطلب من الناس أن يدعو الله وحده القائل ( ادعوني استجب لكم ) بينما خصومه يجيزون لهم دعاء الأولياء والأموات ، وصدق الشاعر إذ قال : إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت عيوباً فقل لي كيف أعتذرُ !
كان لدعوة الشيخ تأثير كبير امتد من الجزيرة العربية إلى مصر إلى العراق إلى السودان إلى المغرب إلى الهند ، ولقيت الدعوة جراء هذا الانتشار الكبير معارضة شديدة من فئتين على وجه الخصوص . فئتان تنتشر بينهما تجارة الوسائط بين العبد وربه وتجارة تعظيم قبور ومراقد الأولياء التي يأكلون بواسطتها أموال السذج والبسطاء . هاتان الفئتان هما الشيعة والصوفية.
لقد شنَّ علماء الشيعة والصوفية بخاصة هجوماً شديداً على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله لأنها دعوة تهدد مصالح شيوخ الطريقة والمعممين والسادة ، وهي مصالح تدر الملايين على أصحابها في مصر والهند والعراق على وجه الخصوص . وتستطيع أن ترى حتى اليوم ما يجري من ضحك على ذقون البسطاء والسذج في السيدة زينب في مصر وفي الصحن الحيدري في العراق من أكل قوت ملايين الناس بزعم النذور والهبات للأولياء والصالحين لتفريج الكربات ، كل هذا ونحن في الألفية الثانية !
شنَّ الشيعة والصوفية حملات تشويه واسعة لتنفير الناس من دعوة الشيخ التي أطلقوا عليها وصف الدعوة الوهابية ، وألصقوا بها الأكاذيب والافتراءات التي بان للناس زيفها وكذبها لاحقاً . ولك أن تعرف أن المحتل البريطاني في الهند تلقى هذه التهمة من صوفية الهند ووصف بها مشايخ أهل السنَّة والجماعة المقاومين للاحتلال كي يُنفِّر عنهم جمهور الناس . وهو عين ما يجري اليوم . (شاهد كيف يصف الشيعة والصوفية المقاومين السنَّة في العراق وسوريا بالوهابية والتكفيريين )
بل حصل ما هو أدهى ، وأصبحت تهمة الوهابية تهمة من لا تهمة له . فها هي المرجعية الشيعية في النجف تصف المرجع اللبناني الشيعي الإثني عشري محمد حسين فضل الله بالوهابي لمجرد أنَّه أنكر حادثة ضرب عمر رضي الله عنه لفاطمة رضي الله عنها وإسقاطها لجنينها وأثبت بطلانها شرعاً وعقلاً !
بل ها هم اليوم الروس الشيوعيون ، والفرس المجوس ، والصليبيون ، يصفون المجاهدين في سبيل الله في الشيشان وفي العراق وسوريا وأفغانستان بالوهابيين .
الحقيقة هي أن تهمة الوهابية كمذهب جديد مبتدع قد سقطت شرعياً بردود علماء أهل السنة والجماعة الذين دافعوا عنها وأيدوها شرقاً وغرباً ، وبانتشار وسائل نقل المعلومة والمعرفة التي سمحت للإنسان العادي بقراءة كتب الشيخ من على النت دون وسيط . ومن يقرأ بعقل منفتح في أدبيات الوهابية بعيداً عن الدعاية يدرك جيداً أنها دعوة سلفية لتنقية الدين مما علق به من أدران الشرك والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان .
تهمة الوهابية اليوم هي تهمة سياسية ، وهذا الأمر ليس بجديد . يقول الشيخ المصري رشيد رضا رحمه الله ( إن سبب قذف الوهابية بالابتداع والكفر " سياسي محض " لتنفير الناس منهم ) .
واليوم يعود الهجوم على الوهابية من خلال محاولة بائسة لربط أدبياتها بداعش . دون أن يخبرنا المهاجمون كيف لم تخرج داعش طوال قرنين ونصف من الوهابية ، ولا يخبروننا كيف يستقيم أن مشايخ الوهابية اليوم هم في خط الدفاع الأول ضد داعش ، ولا يخبروننا كيف أن السعودية التي توصف بالوهابية هي أكثر المتضررين من داعش ؟! لماذا لا يخبرنا هؤلاء عن السبب في ظهور الحشد الشيعي الذي قام بأضعاف ما قامت به داعش ؟ ولا يخبروننا عن النظام العلوي في سوريا الذي قتل 200 ألف مسلم ؟ من وراء هؤلاء المجرمين ؟ ولماذا يجري تجاهل إجرامهم ويتم التركيز في هذا الوقت على الوهابية ؟!
ولو صحَّ أن داعش تحتج بالوهابية ، فهل يصح اتهام الوهابية بأنها داعشية ؟ وهل يصح أن نتهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالتطرف والغلو والتشدد لمجرد أن مسلماً تطرف أو غلا أو تشدد ؟ أليس من الأولى أن نفحص الاتهامات بدل إلقائها على عواهنها ؟!
إنَّها جولة جديدة من حملات الاتهام ضد الوهابية . الفرق هذه المرة ، أن هناك حلفاً شيعياً صوفياً ليبرالياً .
خصوم الوهابية اليوم هم خصومها بالأمس : الشيعة والصوفية . لكن انضم إليهم هذه المرة الليبراليون من أتباع أمريكا ، وخرفاناً من السنَّة لم يقرأوا كتاباً واحداً عن الوهابية وإنما انطلقوا في عداوتهم لها من عداوتهم لخصومهم المتدينين أو عداوتهم للحكومة السعودية التي يعتبرونها حكومة وهابية . الطرف الأخير ، خرفان السنَّة ، هم مجرد حشو مدفع ، ويتم استخدامهم عن طريق الشيعة والصوفية والليبراليين لإثبات أن العداء للوهابية السنيِّة غير طائفي ، وإنما يضم أناساً من السنَّة !
ولعل من المناسب هنا أن أعيد التذكير من باب التأكيد بأصناف الخصوم مرة أخرى وباختصار شديد :
أول خصوم الوهابية وأكثرهم هم من الشيعة والصوفية الذين تهدد الوهابية وساطتهم المصرفية بين العبد وربه .
ثاني خصوم الوهابية ، هم الليبراليون الذين يجدون في الدعوة الوهابية خطراً قد يوحد الأمة ويفرض شريعتها ، وبالتالي يهدد مشاريعهم الفكرية والاجتماعية المستمدة من الغرب والتي تتناقض جذرياً مع الدين والشريعة .
ثالث خصوم الوهابية هم خرفان السنَّة الذين ينطلقون في خصومتهم للوهابية من خصومتهم للمتدينين ، وهم مجرد حشو مدفع كما ذكرت . وكم هو مضحك أن يدعي أحد الخرفان في تويتر أن الدعوة الوهابية كانت سبباً في إسقاط الخلاقة العثمانية ، رغم أن دعوة الشيخ قد قامت في العام 1811 م بينما سقطت الخلافة في العام 1922 م ! بل وقال أحدهم أن الوهابيين يمجدون يزيد ابن معاوية قاتل الصحابة رضوان الله عليهم ! هل وجدتم كذباً أسخف من هذا ؟ بالله عليكم هل يستحق هذا وأمثاله من الأدعياء رداً عليهم ؟
رابع الخصوم هم أعداء الحكومة السعودية الذين لا تعجبهم مواقفها وعلى الأخص علاقتها بالأمريكان ، فهم يهاجمون الوهابية منطلقين من كون الحكومة السعودية هي حكومة وهابية . من لديه مشكلة مع الحكومة السعودية فعليه أن يحلها معها دون أن يقحم الوهابية فيها ، فدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله كانت قبل قرنين من توحيد المملكة على يد المؤسس عبدالعزيز رحمه الله وقبل أن ترتبط السعودية بعلاقات دبلوماسية وسياسية مع الأمريكان .
أما البقية من علماء أهل السنَّة والجماعة الذين هاجموا الشيخ ومنهم أخيه سليمان رحمه الله ( الذي طبعت رسالته لأول مرة في العام 1979 م سنة الثورة الخمينية ) فكثير منهم قد رجع ، ومن لم يرجع فلا عبرة بكلامه ، بل العبرة بما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا عبرة بكون الشيخ سليمان رحمه الله أخ للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله .
لن أتكلم حتى لا يطول المقام حول المزيد من افتراءات الخصوم على الدعوة واتهام الشيخ بأنه من التكفيريين أو الخوارج أو المجسمة أو بأنه ينفي الكرامات عن الأولياء فتلك افتراءات ذاعت وانتشرت ردود أهل العلم عليها ، حيث أثبتوا بطلانها ، وكذب أصحابها. كما أنني لن أذكر عشرات المنصفين من علماء أهل السنة والجماعة أو من مفكري الغرب ومستشرقيه من الذين أنصفوا دعوة الشيخ بصفتها عودة إلى الإسلام الأصيل النقي الخالي من الشرك والبدع . ولن أتكلم عن تأثر الكثير من الحركات الإسلامية التي قاومت المحتل الغربي بالدعوة الوهابية . فالكتب موجودة ومن أراد الوصول إليها ليس عليه سوى استخدام محركات البحث المشهورة .
ختاماً :
من يريد أن يعرف دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله عليه أن يأخذها من كتبه ورسائله . لا من خصومه وأعدائه الذين بلغت بهم خصومتهم حد الافتراء والتلفيق . وعلى من يقرأ ما يُقال ويُكتب عن الشيخ ودعوته أن يكون ذكياً حصيفاً فلا يقبل النقل غير الصحيح ، ولا الدعوى دون دليل ، كما قال الشيخ ناصر الدين الحجازي ( إن كنت ناقلاً فالصحة ، أو مدعياً فالدليل ) .
ولا تُصدِّق أراجيف المرجفين ، ودر حيث دار الدليل من الكتاب والسنَّة وأقوال السلف الصالح من أئمة وعلماء هذه الأمة . ولا تكن إمعة إذا أحسن الناس أحسنت وإذا أساءوا أسأت ، بل وطِّن نفسك فإذا أحسن الناس أحسن وإذا أساءوا فلا تظلم . وكن مدافعاً عن التوحيد وأهله منافحاً عن الحق وأصحابه . ولا تغتر بقلة السالكين ، فلقد قال تعالى ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ).
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم