لم ينتشر الإسلام بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها ومن خلالها فقط اعتنقته الشعوب هذا ما يقوله المؤرخ (جوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب)، فالإسلام لم يكتفِ بالدعوة إلى التسامح الديني، بل تجاوز ذلك ليجعل التسامح جزءاً من شريعته الدينية وقد تجلت أروع صور التسامح في الإسلام عندما دخل الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) مدينة القدس، فقدم كبير أساقفتها مفاتيح الأماكن المقدسة وحان وقت الظهر وعمر في كنيسة القيامة فطلب إلى رجل الدين أن يدله إلى مكان يصلي فيه فأجابه: هنا فرفض عمر قائلاً: لو فعلت لطالب المسلمون بالكنيسة وخرج إلى الشارع فصلى.

ويعلق المؤرخ الفرنسي (بيرجرون) على هذه الواقعة التاريخية قائلاً: إن في هذا العمل نبلاً وشهامة وتسامحاً واحتراماً للأديان الأخرى.

ويتساءل: ماذا كان ردنا نحن الغربيين على ذلك؟ بل ماذا كان رد المسيحيين الأوروبيين لأن المسيحيين الشرقيين قاتلوا الصليبيين بجانب الإسلام؟ ويجيب (بير جرون): تجدون في تاريخ الحروب الصليبية أنه في عام 1099 دخل جنود وفرسان أوروبا القدس وقد بلغت الدماء الركب في مذبحة هي لطخة عار في تاريخ الحملات الصليبية.

وتجلى تسامح الإسلام مرة أخرى عندما حرّر صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس بصورة إنسانية رحيمة مع احترام لأماكن العبادة المسيحية، أما اليتامى والشيوخ والأرامل من الصليبيين، فإن صلاح الدين لم يكتب بإطلاق سراحهم دون فداء، بل منحهم مساعدات مالية. ما أبشع الصورة الأولى وأقساها، وما أروع الصورة الثانية وأرحمها! وشتان بين وحشية الغرب وتعطشه لسفك الدماء، وبين سماحة الإسلام ونظرته الإنسانية ورحمته وآدابه في جهاده.


حرية الرهبان
يضم دير (مارجرجس) في ريف حمص الغربي الذي يعود إنشاؤه إلى القرن السادس الميلادي في زمن الإمبراطور يوستيانيوس نموذجاً رائعاً للتسامح الإسلامي مع الأديان الأخرى يتمثل في مخطوطة الخليفة عمر بن الخطاب التي كتبت بخط معاوية بن أبي سفيان بالخط الكوفي، أي العربية دون تنقيط، وتحوي هذه المخطوطة ثلاثة بنود رئيسية تتجلى فيها صورة التسامح الإسلامي وتحديد العلاقات التي تربط المسيحيين بالمسلمين ووضع المسيحيين كإحدى الطوائف الدينية في ظل الحكم الإسلامي وهذه البنود هي:
توطيد العلاقة بين المسيحيين والإسلام، وإعفاء الدير من جميع الضرائب، وتنظيم العلاقات الاجتماعية مع المسيحيين وحماية الصومعات والكنائس والمحافظة على الأوقاف وعدم التعدي عليها.

وقد كتب للمسيحيين هذا العهد خلفاء المسلمين ابتداء من الخليفة الأول أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، الذي قال ليزيد بن أبي سفيان عندما أرسله لتحرير الشام (إنك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له ـيعني الرهبان ـ)، وانتهاء بالإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) الذي لم يخرج من دعوة الإسلام للتسامح وفي نهاية المخطوطة إشارة إلى تاريخ إملائها يوم الاثنين وتمام أربعة أشهر من الهجرة بالمدينة.

وتتألف مخطوطة عمر بن الخطاب من قسمين الأول أثري قديم وهو عبارة عن مجموعة من الأختام بالحبر الأسود، والثاني عبارة عن مخطوطة من الورق الملصق على قماش يشير إلى ما أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم على معاوية بن أبي سفيان بخصوص وضع المسيحيين النصارى ضمن الدولة الإسلامية بشكل عام.

أول وثيقة لحرية الأديان
تعتبر هذه الوثيقة بالإضافة إلى الوثيقة العمرية المحفوظة في كنيسة القيامة بالقدس من أهم المواثيق الخاصة بحقوق الإنسان التي أرسى دعائمها الإسلام في ظل ما كان معروفاً من أوضاع في القرون الوسطى وما سبقها، وفي ظل قوة الدولة الإسلامية التي كان شعار قادتها المسلمين العدالة والتسامح الإسلامي الذي ينبع من موقف القوة لا من موقف الضعف، وتقرر هاتان الوثيقتان من الناحية القانونية حقوق الإنسان بكل صورها قبل أن يعرف العالم هذه الحقوق وقبل أن يعرف مبادىء القانون العام.

وقد توالت عصور التاريخ الإسلامي والمسلمون يعاملون أبناء الأديان الأخرى بناء على هذه الوثائق أفضل معاملة عُرفت في التاريخ كما يقول الباحث (حسن عبدالله) في دراسة له بعنوان (العهدة العمرية أول وثيقة لحرية الأديان في العالم) لدرجة أن المؤرخ الانجليزي الكبير"ارنولد توينبي" اعتبر ظاهرة التسامح الإسلامي ظاهرة فريدة وشاذة في تاريخ الديانات. ويضيف الباحث عبدالله: إن الوثيقة العمرية لم تقم على مجرد أصول إسلامية عامة في العلاقات الدولية، بل قامت على أصول إسلامية خاصة ومحددة وعلى أصول مرتكزة على كتاب الله وسنة رسوله وسلوك المسلمين من بعده.

كما تعتبر وثيقة سيدنا "عمر" بالإضافة إلى وثيقة "القدس العمرية" من الآثار الخالدة الدالة على عظمة تسامح المسلمين في التاريخ، ويذكر أن وثيقة القدس قد تضمنت إعطاء الأمان لأهل القدس (ايلياء) ـ كما كان الرومان يسمونها ـ الذين كانوا يدينون بالمسيحية ولأموالهم وكنائسهم وصلبانهم بألا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم ولايُنتقص منها ولا من خيرها ولا من صلبانهم ولا من شيء من أموالهم ولايُكرهون على دينهم ولا يُضام أحد منهم.

دولتكم ليست دولة فاتحين
أعطى "العهدة العمرية" سيدنا عمر بن الخطاب بعد الفتح الإسلامي للقدس وشهد عليها الصحابة خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان حيث وضعوا تواقيعهم عليها بعد أن ختمها عمر بخاتمة وعندئذ أصبحت سارية حتى يومنا هذا كنموذج أمثل لتعامل المسلمين مع غير المسلمين. وتقدم "صفرونيوس" البطريك المسيحي وزعيم المدينة وأخذ العهد ونظر فيه وقال وهو يبكي لعمر: إنني أيقنت من موقفك أن دولتكم ليست دولة فاتحين ولهذا لن تنقرض مع السنين وستحميها العدالة وتضمن لها الخلود، وشد البطريك المسيحي على يد عمر بن الخطاب وأخذ "العهدة العمرية" ووضعها في صندوق أبنوسي ولا تزال محفوظة في كنيسة القيامة في القدس إلى الآن.

وتشكل هاتان الوثيقتان مع غيرهما من وثائق التسامح الديني الإسلامي في بقاع مختلفة من العالم علامة تاريخية فريدة في تاريخ حقوق الإنسان، والواجب علينا بعد مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة على توقيع كل منهما أن نحتفل بصدورهما في هذا الوقت الذي ينتهك فيه اليهود حرمة المدينة المقدسة لافتين الأنظار إلى أهميتهما كوثيقتين أشاعتا الأمن والسلام في مدينة الله التي لم ترق الدماء فيها إلا على أيدي الصليبيين واليهود. بقلم: خالد عواد الاحمد