التوحيد مفتاح دعوة الرسل
بقلم : عثمان جمعة ضميرية
قد أكرم الله تعالى هذا الإنـسـان ، وأعـظــم عليه المنَّة ، عندما بعث إليه الرسل ، وأنزل معهم الكتب والشرائع ، التي تتفق مع فـطــرة هذا الإنسان ، التي فطره الله تعالى عليها؛ من الإيمان بالله سبحانه وتعالى ، الخالق المعبود ، الذي لا يستحق العبادة أحد سواه.
ثم أكرم الله تعالى هذا الإنسان مرة أخرى ، عندما ختم الرسالات السماوية برسالة مـحـمد -صلى الله عليه وسلم- ، وتكفّل بحفظها وحفظ كتابها ، حيث قال سبحانه وتعالى : ((إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9].
وبذلك كانت رسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هي الرسالة الوحيدة التي بقـيـت عـلـى أصـولـهـا الـمنزلة، محفوظة -بحفظ الله تعالى- من أي تغيير أو تحريف أو تبديل، وبذلك تم الحفاظ على دعوة التوحيد ، نقية صافية ، كما جاء بها جميع الرسل ، عليهم الصلاة والسلام ، إلى أن ختموا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ، وقد جاؤوا جميعهم بدعوة الإسلام وكلمة التوحيد.
والتوحيد : هو قاعدة كل ديانة جاء بها من عند الله تعالى رسولٌ. ويقرر الله سبحانه وتعالى هذه الحقيقة ويؤكدها ، ويكررها في قصة كل رسول على حدة ، كما يقررها في دعوة كل الرسل إجمالاً ، على وجه القطع واليقين : ((ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ)) [المؤمنون:23].
((وإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ)) [الأعراف:65].
((وإلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ)) [الأعراف:73].
وهي الكلمة نفسها التي تكررت على لسان شعيب وموسى وعيسى -عليهم الصلاة والسلام- ، حتى أصبحت قاعدة عامة ، قررها الله سبحانه وتعالى فقال : ((ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)) [الأنبياء:25].
((ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل:36].
فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وهو أول ما يدخل به المرء في الإسلام ، وأخر ما يخرج به من الدنيا ، فهو أول واجب وآخر واجب. ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل-رضي الله عنه-عندما بعثه إلى اليمن : »إنك تأتى قوماً أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه : عبادة الله وحده ، وفي رواية : فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله ، عز وجل ، افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى ، افترض عليهم صدقة في أموالهم ، تؤخذ من أغنيائهم وتُردُّ إلى فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لذلك فإيّاك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب« [اخرجه الشيخان] . وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : »أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل« [رواه الشيخان ].
وفي هذا الحديث الشريف تفسير لقول الله تعالى : ((فَإن تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)) [التوبة:5].
والتخلية في هذه الآية الكريمة ، والعصمة في الحديث الشريف ، الذي جاء قبلها ، كلاهما بمعنى واحد.
فكل الرسل ، عليهم الصلاة والسلام ، قد أدركوا حقيقة "التوحيد" وكلهم بعثوا بها ، وكلّهم دعا إلى عبادة الله الواحد ، دعا إلى الحقيقة التي تلقاها وأُمر بها كما أُمر أن يبلغها ، وقد نهضوا جميعا -عليهم الصلاة والسلام- بذلك ؛ لإيمانهم المطلق بكونها الحقيقة الصادرة إليهم من الله تعالى وحده ، ومن ثم كان هناك مصدر واحد لا يتعدد ، يتلقى منه البشر التصور الصادق ، الكامل الشامل لحقيقة الوجود كله ، هذا المصدر هو الذي أنزل على خاتم رسل الله تعالى محمد-صلى الله عليه وسلم- ، هذا الكتاب ، القرآن الكريم ، أنزله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وهو كتاب واحد في حقيقته ، وهو تصور واحد في قاعدته : رب واحد ، وإله واحد ، ومعبود واحد ، مشرع واحد لبني الإنسان ، فالله تعالى هو الذي خلق ، فهو الذي يشرع ويأمر وينهى ، ومنه نستمد جميع الأحكام من حلال وحرام : ((أَلا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ)) [الأعراف:54]. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة:21-22].
وإن التوحيد المطلق لله سبحانه وتعالى ، يقتضي توحيد دينه الذي أرسل به الرسل ، عليهم الصلاة والسلام ، للبشر جميعاً ، وتوحيد رسله الذين حملوا هذه الأمانة ، والرسالة للناس ، ولذلك عبر الله تعالى عمن يريدون التفرقة بين الله ورسله ، وعمن يريدون التفرقة بين الرسل -بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض- عبَّر عن هؤلاء وعن هؤلاء أيضاً بأنهم ((هُمُ الكَافِرُونَ حَقاً)) ، فقال الله ، سبحانه وتعالى : ((إنَّ الَذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ويُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ ويَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ ويُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقاً وأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً)) [النساء:150-151].
وما ذلك إلا لأن التوحيد هو الأساس اللائق بتصور المؤمن لله سبحانه وتعالى ، كما أنه هو الأساس اللائق بوجود منظَّم غير متروك للتعدد والتصادم ، والفوضى والعبث ، ولأنه هو العقيدة اللائقة بإنسان يرى وحدة الناموس والسنن ، في هذا الوجود أينما امتد بصره ، وهو أيضاً التصور الكفيل بضم جميع المؤمنين في موكب واحد يقف أمام صفوف الكفر ، وفي حزب واحد يقـف أمام حزب الشيطان..
ولكن هذا الصف الواحد ، هو صف المؤمنين حقاً بالله سبحانه وتعالى ، وصف أصحاب العقيدة الصحيحة ، التي لم يدخلها تحريف ولا انحراف ، عقيدة التوحيد التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - وتكفل الله تعالى بحفظها ، ومن ثم كان الإسلام هو دين التوحيد ، الذي لا يقبل الله تعالى من البشر ديناً غيره ، لأنه هو الدين الحق :
((إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ)) [ال عمران:19] ((ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ)) [ال عمران:85].