من إعجاز القرآن إخباره بأحداث مستقبلية، وقد وقعت هذه الأحداث كما ذكرها القرآن الكريم، ومن ذلك قوله عز وجل:
{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (الروم: 1 ـ 4) . ومن المعلوم، كما رواه الترمذي وغيره، وكما هو ثابت في التاريخ، أن الفرس انتصروا في معركة بقيادة "شربزان" على الروم، وذلك أيام كسرى. وكان المشركون يحبّون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإيّاهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبّون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، فلما أنزل الله هذه الآية وفيها إخبار كما ترى بأن الروم سيعودون فينتصرون على الفرس في بضع سنين، أي في أقل من عشر سنين، خرج أبو بكر يصيح بها في نواحي مكة، فقال له أناس من قريش: فذلك بيننا وبينكم، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى. وذلك قبل تحريم الرهان. فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان وقالوا لأبى بكر: كم تجعل البضع: ثلاث سنين أو تسع سنين؟ فسمَّوا بينهم ست سنين، فمضت السنوات الست قبل أن يظهر الروم، فأخذ المشركون رهن أبى بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، وأسلم عند ذلك كثيرون. وفى رواية أخرى أنه لما مرّت السنوات الست ولم يظهر الروم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: ارجع فزدهم في الرهان واستزدهم في الأجل. ففعل أبو بكر: فغَلَبَت الروم في أثناء الأجل.
ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ} (الفتح:27)، ومعلوم أن هذه الآية نزلت في حالة لم يكن المسلمون يتوقعون أن يدخلوا فيها مكة لطواف أو غيره، فقد رأوا من المشركين صدّاً وعسفًا وإيذاء، ولكن العام الذي تلا تلك الحالة جاء فصدَّق هذه الآية، ولاحت للناس الحكمة من الصدّ والصلح، وتبين أن كل ذلك جاء مقدمة دقيقة وعجيبة بين يدي فتح مكة سلمًا كما شاءه الله عز وجل. وهو ما أخبر الله عنه في آخر هذه الآية بقوله عز وجل:{فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح:27). ولو وَضَعْتَ الأمر في ميزان التقديرات الفكرية والمنطقية، عندما أنجز صلح الحديبية، لَمَا رأيت أى دليل يمكن الاعتماد عليه، على أن ثمرة هذا الصلح سيكون فتح مكة عمّا قريب، وأي فتح؟ فتح سلمى لا تتناوش فيه السيوف، ولا يقع فيه قتال يذكر.
ومن النوع الثاني: آيات تحدثت عن أشخاص بأعيانهم، أنبأت عن مصائرهم، وكشفت عن حكم الله المبرم في حقهم. من ذلك قول الله تعالى عن أبى لهب عبد العزّى بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} (سورة المسد).
إنك إذا تأملت هذه الآيات وما قد تضمنته من أخبار عن مستقبل هذا الرجل وما سيَؤُول إليه حاله، علمت أن أحدًا من الناس لا يملك أن يطلق هذا الوعيد ويسجله في عنق الزمن وعلى صفحة الدهر. فما الذي يُدْرِى هذا الإنسان أن أبا لهب سيثبت على كفره إلى الموت؟ وما هي ضمانات أن لن يؤمن كما آمن الكثير ممن هم أشد منه كفرًا وأقسى عناداً؟ بل ما الذي يُطَمْئِنُ هذا الإنسان إلى أن أبا لهب لن ينهض به دافع التحدّي عندما يسمع هذا الوعيد المسجل في حقه إلى أن يعلن إيمانه بالله ورسوله على الملأ، ليثبت بذلك أنه قد محا أسباب شقوته، وأن إخبار القرآن عن مصيره مخالف للواقع الذي تم؟
إن بشرًا من الناس لن يستوثق من تقلبات الزمن، وما قد يطرأ من الأحوال والأفكار الجديدة على أبى لهب وأمثاله، ونظرًا لذلك فلن يجد من الجرأة ما يعتمد عليه في إطلاق مثل هذا الخبر الغيبي المخبوء في تلافيف المستقبل.
ومثله قول الله عز وجل في حق الوليد بن المغيرة المخزومي:
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً* وَبَنِينَ شُهُوداً* وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً* ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً *سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} (المدثر: 11ـ 17)، إلى قوله عز وجل: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ* لاَ تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر: 26 ـ 30).
إن هذا الإخبار الغيبي: سأرهقه صعودًا، سأصليه سقر... إلخ، ليس مما يتجرَّأ إنسان عليه؛ لأن الإنسان يفرض الاحتمالات المختلفة للزمن، والأطوار المفاجئة العجيبة للإنسان، وهو ليس مُطَّلعًا على ما قد يأتي به الغد أو ما قد يفاجأ به فكر الإنسان، ولكنه إخبار غيبىّ يصدر عمّن بيده مصير الزمن والمكان، وعمّن يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور وما ينتهي إليه حال أي إنسان.
وتدخل في هذا النوع تلك الآيات التي أخبرت عن اليهود وما قضى الله بشأنهم إلى قيام الساعة، كقوله تعالى:
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (المائدة: 64). وكقوله عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأعراف: 167). وكقوله عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168).
وأنت إذا نظرت إلى تاريخ اليهود في العالم، وإذا تأملت ظاهرة انتشارهم وتفرقهم بين الأمم والشعوب، وكيف يختبئون خلف كل فتنة يهيجونها، ووراء كل نار يوقدونها، وكيف يبعث الله عليهم بين الحين والآخر من يسومهم سوء العذاب، وكيف أنهم ـ على الرغم من مراسهم لأسباب الفتن والحروب وسيطرتهم على الكثير من أسواق العالم وتجاراته ـ لم يأتوا من جهدهم بطائل، ولم تقم لهم قائمة يطمئنون إليها، بل ظلوا مقطعين في الأرض. أقول: إذا تأملت في ذلك كله أدركت أن إخبارات القرآن عنهم وقعت كما أخبر، وأن الزمن ماضِ في تحقيق المزيد منها.
إنك لتلاحظ تناقضًا عجيبًا في واقع اليهود وشأنهم الذي يتقلبون فيه؛ فهم الذين يملكون ينابيع كثير من الثروات في العالم، وهم الذين كانوا ـ ولا يزالون ـ يلعبون بالذهب في أسواق العالم خفضًا له ورفعًا، وهم الذين يختبئون خلف الكثير من سياسات العالم وقياداته يوجهون وينذرون ويُغرِّرون.
ولكنك تلاحظ أنهم ـ على الرغم من هذا كله ـ لم يستطيعوا أن ينشئوا لأنفسهم دولة مستقرة أو كيانًا مطمئنًا، وإن الأمم التي أنشأت كياناتها واستقرت في أوطانها وصلت إلى ما ابتغته من ذلك منذ عصور بعيدة باليسير مما يملكه اليهود ويسيطرون عليه.
فما تحليل هذا التناقض؟.. تحليله الوحيد أن الأمر في جملته تصديق أمين لحكم الله فيهم ووعيد الله لهم، إنه قرار الله عز وجل:{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً} يلاحقهم في كل حين وعلى كل حال. وإنه حكم الله عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} يهيمن عليهم في حالة العسر واليسر، وفى تقلبات البأس والضعف.
ومن النوع الثالث: آيات كثيرة تعلن في بيانات حاسمة عن نواميس كونية، وتخبر أنها ستظل قوانين نافذة حاكمة على الناس كلهم وعلى الطاقة العلمية كلها، مهما تنوعت، فهي تستعصي على كل محاولات التغيير والتطوير، وإليك بعضًا من هذه الآيات:
• {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} (يس: 68).
• {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (النساء: 78).
• {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (المؤمنون: 18).
• {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85).
• {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: 32).
تأمل في هذه التقارير القاطعة في أسلوبها، المطلقة عن قيود الزمان والمكان، المرسلة في قوة وإصرار إلى أعماق غيوب المستقبل، المتجاهلة بل المترفعة عن محاولات التطوير والعلم، أيمكن أن ينطق بها بشر؟.. وهل الإنسان نفسه إلا ذرة من جزيئات الكون، فهو لا يدرى ما الذي يأتي به الغد ويتطور إليه العلم، أو تمتد إليه الطاقة؟
إن أعظم العلماء شأنًا اليوم، يرى الحقيقة العلمية بعينيه ثم يتحفظ مع ذلك في التعبير عنها، متوقعًا أن يفاجَأ في كل يوم بقيود أو حدود جديدة لها. فأي رجل هذا الذي يستطيع أن ينهض من وراء القرون الغابرة، فيبعث إلى الدنيا كلها بتقرير علمي جازم يفصّل فيه أمر النواميس الكونية الراسخة، ويرفعها فوق هام البشرية مؤكدًا أن أي طاقة، مهما كانت، لن تمتد إليها بأي تغيير؟ 1.
****************************
(1) من روائع القرآن، د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص 148 ـ 152.