قال الله تعالى :-

(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا “16” )





الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يعطينا مثالاً لعاقبة الخروج عن منهج الله تعالى؛ لأنه سبحانه حينما يرسل رسولاً ليبلغ منهجه إلى خلقه، فلا عذر للخارجين عنه؛ لأنه منهج من الخالق الرازق المنعم، الذي يستحق منا الطاعة والانقياد. وكيف يتقلب الإنسان في نعمة ربه ثم يعصاه؟ إنه رد غير لائق للجميل، وإنكار للمعروف الذي يسوقه إليك ليل نهار، بل في كل نفسٍ من أنفاسك.





ولو كان هذا المنهج من عند البشر لكان هناك عذر لمن خرج عنه، ولذلك يقولون: “من يأكل لقمتي يسمع كلمتي“.

كما أن هذا المنعم سبحانه لم يفاجئك بالتكليف، بل كلفك في وقت مناسب، في وقت استوت فيه ملكاتك وقدراتك، وأصبحت بالغاً صالحاً لحمل هذا التكليف، فتركك خمسة عشر عاماً تربع في نعمه وتتمتع بخيره، فكان الأولى بك أن تستمع إلى منهج ربك، وتنفذه أمراً ونهياً؛ لأنه سبحانه أوجدك من دم وأمدك من عدم.





والمتأمل في قضية التكليف يرى أن الحق سبحانه بعضنا أن يكلف بعضاً، كما قال تعالى:





{وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها .. “132”}


(سورة طه)





وقد شرح لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية فقال: “مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر“.

وهذا التكليف وإن كان في ظاهره من الأهل لأولادهم، إلا أنه في حقيقته من الله تعالى فهو الآمر للجميع، ولكن أراد الحق سبحانه أن يكون التكليف الأول في هذه السن من القريب المباشر المحس أمام الطفل، فأبوه هو صاحب النعمة المحسة حيث يوفر لولده الطعام والشراب، وكل متطلبات حياته، فإذا ما كلفه أبوه كان أدعى إلى الانصياع والطاعة؛ لأن الولد في هذه السن المبكرة لا تتسع مداركه لمعرفة المنعم الحقيقي، وهو الله تعالى.





لذلك أمر الأب أن يعود ولده على تحمل التكليف وأن يعاقبه إن قصر؛ لأن الآمر بالفعل هو الذي يعاقب على الإهمال فيه. حتى إذا بلغ الولد سن التكليف وتعود عليه، وبذلك يأتي التكليف الإلهي خفيفاً على النفس مألوفاً عندها.

أما إن أخذت نعم الله وانصرفت عن منهجه فطغيت بالنعمة وبغيت فانتظر الانتقام، انتظر أخذه سبحانه وسنته التي لا تتخلف ولا ترد عن القوم الظالمين في الدنيا قبل الآخرة.





واعلم أن هذا الانتقام ضروري لحفظ سلامة الحياة، فالناس إذا رأوا الظالمين والعاصين والمتكبرين يرتعون في نعم الله في أمن وسلامة، فسوف يغريهم هذا بأن يكونوا مثلهم، وأن يتخذوهم قدوة ومثلاً، فيهم الفساد والظلم وينهار المجتمع من أساسه.





أما إن رأوا انتقام الحق سبحانه من هؤلاء، وشاهدوهم أذلاء منكسرين، فسوف يأخذون منهم عبرة وعظة، والعاقل من اعتبر بغيره، واستفاد من تجارب الآخرين.





فالانتقام من الله تعالى لحكمة أرادها سبحانه وتعالى، وكم رأينا من أشخاص وبلاد حاق بهم سوء أعمالهم حتى أصبحوا عبرة ومثلة ومن لم يعتبر كان عبرة حتى لمن لم يؤمن، وبذلك تعتدل حركة الحياة، حيث يشاهد الجميع ما نزل بالمفسدين من خراب ودمار، وإذا استقرأت البلاد في نواحي العالم المختلفة لتيسر لك الوقوف على هذه السنة الإلهية في بلاد بعينها، ولاستطعت أن تعزو ما حدث لها إلى أسباب واضحة من الخروج عن منهج الحق سبحانه.


وصدق الله حين قال:





{وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون “112”}


(سورة النحل)





وإياك أن تظن أن الحق سبحانه يمكن أن يهمل الفسقة والخارجين عن منهجه، فلابد أن يأتي اليوم الذي يأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر، وإلا لكانت أسوة سيئة تدعو إلى الإفساد في حركة الحياة. قال تعالى:





{وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا “16” }


(سورة الإسراء)





الآفة أن الذين يستقبلون نص القرآن يفهمون خطأ أن (ففسقوا) مترتبة على الأمر الذي قبلها، فيكون المعنى أن الله تعالى هو الذي أمرهم بالفسق، وهذا فهم غريب لمعنى الآية الكريمة، وهذا الأمر صادر من الحق سبحانه إلى المؤمنين، فتعالوا نر أوامر الله في القرآن:





{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين .. “5” }


(سورة البينة)





{أمرت أن أعبد رب هذه البلدة .. “91” }


(سورة النمل)





{وأمرت أن أكون من المسلمين “72”}


(سورة يونس)





فأمر الله تعالى لا يكون إلا بطاعة وخير، ولا يأمر سبحانه بفسق أو فحشاء، كما ذكر القرآن الكريم، وعلى هذا يكون المراد من الآية: أمرنا مترفيها بطاعتنا وبمنهجنا، ولكنهم خالفوا وعصوا وفسقوا؛ لذلك حق عليهم العذاب.

والأمر: طلب من الأعلى، وهو الله تعالى إلى الأدنى، وهم الخلق طلب منهم الطاعة والعبادة، فاستغلوا فرصة الاختيار ففسقوا وخالفوا أمر الله. قوله:





{وإذا أردنا أن نهلك قرية .. “16”}


(سورة الإسراء)





من الخطأ أن نفهم المعنى على أن الله أراد أولاً هلاكهم ففسقوا؛ لأن الفهم المستقيم للآية أنهم فسقوا فأراد الله إهلاكهم. و(قرية) أي أهل القرية. وقوله:





{فيها فحق عليها القول .. “16” }


(سورة الإسراء)





أي: وجب لها العذاب، كما قال تعالى:





{كذلك حقت كلمت .. “33” }


(سورة يونس)





وقد أوجب الله لها العذاب لتسلم حركة الحياة، وليحمي المؤمنين من أذى الذين لا يؤمنون بالآخرة. وقوله تعالى:





{فدمرناها تدميرا “16” }


(سورة الإسراء)





أي: خربناها، وجعلناها أثراً بعد عين، وليست هذه هي الأولى، بل إذا استقرأت التاريخ خاصة تاريخ الكفرة والمعاندين فسوف تجد قرى كثيرة أهلكها الله ولم يبقى منها إلا آثاراً شاخصة شاهدة عليهم، كما قال تعالى:





(وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا“17” )





فأين عاد وثمود وقوم لوط وقوم صالح؟ إذن: فالآية قضية قولية، لها من الواقع ما يصدقها. وقوله:





{من بعد نوح .. “17”}


(سورة الإسراء)





دل على أن هذا الأخذ وهذا العذاب لم يحدث فيما قبل نوح؛ لأن الناس كانوا قريبي عهد بخلق الله لآدم ـ عليه السلام ـ كما أنه كان يلقنهم معرفة الله وما يضمن لهم سلامة الحياة، أما بعد نوح فقد ظهر الفساد والكفر والجحود، فنزل بهم العذاب. الذي لم يسبق له مثيل. قال تعالى:





{والفجر “1” وليال عشر “2” والشفع والوتر “3” والليل إذا يسر “4” هل في ذلك قسم لذي حجر “5” ألم تر كيف فعل ربك بعاد “6” إرم ذات العماد “7” التي لم يخلق مثلها في البلاد “8” وثمود الذين جابوا الصخر بالواد “9” وفرعون ذي الأوتاد “10” الذين طغوا في البلاد “11” فأكثروا فيها الفساد “12” فصب عليهم ربك سوط عذاب “13” إن ربك لبالمرصاد “14”}


(سورة الفجر)





ولنا وقفة سريعة مع هذه الآيات من سورة الفجر، فقد خاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله:





{ألم تر كيف فعل ربك بعاد “6” }


(سورة الفجر)





و(ألم تر) بمعنى: ألم تعلم؛ لأن النبي لم ير ما فعله الله بعاد، فلماذا عدل السياق القرآني عن: تعلم إلى تر؟





قالوا: لأن إعلام الله لرسوله أصدق من عينه ورؤيته، ومثلها قوله تعالى:





{ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل “1” }


(سورة الفيل)





حيث ولد رسول الله في عام الفيل، ولم يكن رأى شيئاً. وفي آيات سورة (الفجر) ما يدلنا على أن حضارة عاد التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً كانت أعظم من حضارة الفراعنة التي لفتت أنظار العالم كله؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عن عاد:





{التي لم يخلق مثلها في البلاد “8”}


(سورة الفجر)





أي: لا مثيل لها في كل حضارات العالم، في حين قال عن حضارة الفراعنة:





{وفرعون ذي الأوتاد “10” }


(سورة الفجر)





مجرد هذا الوصف فقط. وقوله تعالى:





{وكم أهلكنا من القرون .. “17” }


(سورة الإسراء)





كم: تدل على كثرة العدد.





والقرون: جمع قرن، وهو في الاصطلاح الزمني مائة عام، ويطلق على القوم المقترنين معاً في الحياة، ولو على مبدأ من المبادئ، وتوارثه الناس فيما بينهم.

وقد يطلق القرن على أكثر من مائة عام كما نقول: قرن نوح، قرن هود، قرن فرعون. أي: الفترة التي عاشرها. وقوله:





{وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً “17” }


(سورة الإسراء)








أي: أنه سبحانه غني عن إخبار أحد بذنوب عباده، فهو أعلم بها، لأنه سبحانه لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء:





{يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور “19” }


(سورة غافر)





فلا يحتاج لمن يخبره؛ لأنه خبير وبصير، هكذا بصيغة المبالغة. وهنا قد يقول قائل: طالما أن الله تعالى يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية، فلماذا يسأل الناس يوم القيامة عن أعمالهم؟





نقول: لأن السؤال يرد لإحدى فائدتين:

الأولى: كأن يسأل الطالب أستاذه عن شيء لا يعلمه، فالهدف أن يعلم ما جهل.


والأخرى: كأن يسأل الأستاذ تلميذه في الامتحان، لا ليعلم منه، ولكن ليقرره بما علم.وهكذا الحق سبحانه ـ ولله المثل الأعلى ـ يسأل عبده يوم القيامة عن أعماله ليقرره بها، وليجعله شاهداً على نفسه، كما قال:





{اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً “14”}


(سورة الإسراء)





وقوله تعالى:





{وكفى بربك .. “17”}


(سورة الإسراء)





كما تقول: كفى بفلان كذا، أي: أنك ترتضيه وتثق به، فالمعنى: يكفيك ربك فلا تحتاج لغيره، وقد سبق أن أوضحنا أن الله تعالى في يده كل السلطات حينما يقضي: السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية، وهو سبحانه غني عن الشهود والبينة والدليل.





إذن: كفى به سبحانه حاكماً وقاضياً وشاهداً. ولأن الحق سبحانه خبير بصير بذنوب عباده، فعقابه عدل لا ظلم فيه.