يقول الله تعالى في القرآن الكريم: و اضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنّتين من أعناب و حففناهما بنخل و جعلنا بينهما زرعا. الكهف 32.
لقد ضرب الله تعالى في القرآن الكريم العديد من الأمثال ليُظهر للنّاس بعض الحكم في أحوالهم و أعمالهم و عواقب تصرّفاتهم و منها ما ورد في سورة الكهف حيث وردت قصّة الرّجلين الّذين كان أحدهما مؤمنا تقيّا و الآخر كافرا غنيّا شقيّا فأظهر الله تعالى عدله و ضرب مثَلهما كي لا يغترّ النّاس بالدّنيا و ينسوا الآخرة.
و ذلك أنّه كان في بني إسرائيل أخوان أحدهما مسلم مؤمن طيّب يحبّ الخير و يُكثر منه، و أمّا الآخر فكان عابدا للأصنام، كافرا، جاحدا، شحيحا بخيلا. جافي الطّبع، و لمّا مات أبوهما اقتسما ماله فأنفق كلّ منهما حصّته في ما يلائم طبعه و ما يحب.
أمّا الأخ المؤمن فقد اشترى عبيدا مملوكين بألف دينار و أعتقهم و جعلهم أحرارا لله تعالى، ثمّ اشترى ثيابا بألف دينار و كسا الفقراء العراة ابتغاء مرضاة الله عزّ و جلّ، و اشترى بألف ثالثة طعاما و أطعم الجائعين، و أكثر من فعل الخير و بذل المعروف، و أعان من استطاع إعانتهم حتّى نفد ماله، و لكنّه كان مسرورا بما فعل راجيّا الثّواب و الرّحمة من الله عزّ و جلّ.
و أمّا الأخ الكافر فإنّه ما كاد يستلم ماله، حتّى وضع عليه المفاتيح، و حرم الفقير السّائل، و شتم من قصده للإعانة، و أغلق أذنيه عن سماع أنين المحتاجين، و أغمض عينيه عن رؤية الأطفال الجائعين.
ثمّ تزوّج من نساء غنيّات، و اشترى بقرا و غنما فتوالدت و نمت نموّا مفرطا، و اشتغلى بالتّجارة بباقي ماله فربح ربحا كبيرا حتّى فاق أهل زمانه غنى، و بنى لنفسه جنّتين أي بستانين كبيرين جدّا زرعهما أعنابا و كروما، فأورقا و أثمرا، و أحاطهما بشجر النّخيل ثمّ نوّع في المزروعات فجعل فيهما من أنواع الخضار و الفاكهة و لم ينقص منها شيئا، و كانت الأشجار متواصلة متشابكة لا يقطعها و يفصل بينها إلاّ النّهر الجاري الّذي يسقي الزّروع بمائه الرّقراق، فتُميّز البساتين بالشّكل الحسن و التـرتيب الأنيق و الطّرقات الّتي جعلها ذاك الكافر فيهما للتّنزّه و التّمتّع بمنظرهما.
و كان الجدير به أن يؤمن بالله الّذي منحه كلّ تلك النّعم و أنعم عليه بها، و أن يشكره و يُذعن له و يحمده، و لكم من النّاس من تفتنهم الأموال و تجعلهم يتكبّرون، و هكذا كان الأخ الكافر الّذي لم يزدد إلاّ كفرا و طغيانا.
و أدركت الأخ المؤمن الحاجة فأراد أن يعمل أجيرا ليأكل، فقال: لو ذهبت إلى أخي لأعمل عنده فإنّه لن يمانع، فجاءه و لم يصل إليه إلاّ بعد فتح العديد من الأبواب، فلمّا دخل عليه سأله حاجته فقال الأخ الكافر: أ لم أقاسمك المال نصفين؟ فما صنعت بمالك؟!
فأجابه المؤمن: تصدّقت به لله تعالى راجيّا الأجر الوفير.
فقال الأخ الكافر متهكّما: إذا أنت من المتصدّقين؟ ما أراك إلاّ سفيها مضيّعا لماله.
ثمّ قال: و ما جزاؤك عندي على سفاهتك إلاّ الحرمان. انظر ماذا صنعت بمالي حتّى صار عندي من الثّروة و حسن الحال ما ترى، و ذلك أنّي كسبت و أنت سفهمت، أنا أكثر منك مالا.
ثمّ أخذ بيد أخيه المؤمن يريه ما عنده و في نفسه الكِبر و الكفر، و أنكر البعث و فناء داره و ما زرع في البساتين، و ذلك لقلّة عقله، و عدم يقينه بالله، و إعجابه بالحياة الدّنيا و زينتها، و كفره بالآخرة، ثمّ قال: إن كان هواك بعث و قيامة كما تزعم، فلن أخسر شيئا فكما أعطاني الله هذه النّعم في الدّنيا فسيعطيني أفضل منها في الآخرة لكرامتي عنده.
فوعظه أخوه و حذّره من الكفر بالله الّذي خلقه من تراب ثمّ جعله رجلا سويّا ثمّ يميته و يحاسبه. و أخبره أنّه مؤمن بالله وحده لا شريك له و لا مثيل و لا شبيه له، خالق كلّ شيئ، و قال له: إنّ الّذي تعيّرني به من الفقر سيعود عليك بالعقاب، فإنّني أرجو أن يرزقني الله في الآخرة جنّة خيرا من جنـتك هذه الفانيّة، ثمّ إنّك لا تأمن على البساتين من العواصف و تقلّب الرّياح الّتي قد تجعل منهما أوراقا جافّة تتطاير هنا و هناك، و هذا الماء العذب إذا غار في الأرض فكيف تطلبه و من ذا ينصرك إذا شاء الله أن يخذلك؟ و لمّا رأى يهوذا أنّ أخاه الكافر ما زال مصرّا على كفره و طغيانه، يمرح بين أزهاره و أشجاره تركه و خرج.

و في اللّيل حدث ما توقّعه الأخ المؤمن إذ أرسل الله تعالى مطرا غزيرا و عواصف كبيرة أحرقت البساتين ، و هدمت العرائش، و ابتلعت الأرض ماء النّهر فجفّ، و أصبحت الأرض رديئة لا نبات فيها و لا شجر و قد مُلئت بالوحل فما استطاع أحد أن يمشي عليها.
و لمّا قام الكافر صباحا ذهب كعادته إلى البساتين ليتنزّه و يتفيّأ تحت ظلال الكروم، و لمّا رأى ما حلّ بجنّتيه، جفّ حلقه و أخذ يضرب كفّا بكفّ علامة التّحسّر و التّأسّف و ندِم على ما سلف منه من القول الّذي كفر بسببه بالله العظيم. و إنكاره للبعث و قال: يا ليتني لم أشرك بربّ أحدا.
و تركه أصحاب السّوء الّذين كانوا يعينونه على كفره و تجبّره لمّا صار فقيرا، فغدا وحيدا لا ناصر له.
قال تعالى: و لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله و ما كان منتصرا. الكهف 43
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا خيرا من هذه الدّنيا و أن يميتنا على كمال الإيمان و يرضّنا و يرضى عنّا.