قرر الإسلام حرية الإعتقاد للفرد والجماعات، واعتبر أنّ حريّة الفرد وقدرته على الإختيار هما مناط التكليف، وبهما يتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، تلك الكائنات التي اقتضت حكمة الله لها التسيير وانفرد الإنسان في عالمنا المشاهد بالتخيير، وهذه الخاصية مقترنة ببني آدم لا تفارقهم أبدا ما دامت الحياة في أبدانهم قال الله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[1]… وقد اتفقت كلمة المسلمين على أنه لا يُجبر أحدٌ على الدخول في الإسلام، وقد جاءت آيات الكتاب العزيز لتوضح هذه الحقيقة بشكل جلي وتقررها قاعدة لا مراء فيها ولا جدال، حيث قال تعالى:{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[2].
هذا فيما يتعلق بغير المسلم، أما يتعلق بالمسلم اذا ارتد عن الإسلام فالأمر فيه مختلف، هل ينطبق عليه عموم الآيات في ذلك أم أنّ له حالة خاصة؟ وهو ما سنناقشه في موضوعنا هذا:
أولا: اعتبار قتل المرتد حدا من الحدود
لقد ذهب جماهير علماء المسلمين من السلف والخلف إلى القول بوجوب قتل المرتد، وقد اعتبروا ذلك حدا من الحدود المقدرة التي لا يجوز الإجتهاد في عقوبتها أو النظر فيها، وقد استدل الفقهاء على وجوب قتل المرتد بما يلي:
1_ قوله تعالى {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[3] وقد أشار العطف في قوله : { فيمت بالفاء المفيدة للتعقيب إلى أنّ الموت يعقب الإرتداد وقد علم كل أحد أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الإرتداد فيعلم السامع حينئذٍ أنّ المرتد يعاقب بالموت عقوبة شرعية ، فتكون الآية دليلاً على وجوب قتل المرتد .[4]
2_ قوله تعالى{ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلِأَنَّهُ كَفَرَ بِرَبِّهِ بَعْدَ مَا رَأَى مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَ مَا هُدِيَ إلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ(مشركي مكة والمرتدين) إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ.[5] هذا ما ذكره صاحب تبيين الحقائق، ولكنه يعود ويقول: إن الآية نزلت فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ .وهناك من احتج بهذه الآية على وجوب قتل المرتد ولكن بشيء من الإلتباس، كاعتبار هروب المرتد الى دار الحرب كي تشمله الآية.[6]
والصنعاني يبرر وجوب قتل المرتد بقوله: وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ حُكْمُ الْحَرْبِيِّ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ.[7]
3_ روى البخاري وغيره عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : { أُتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أَحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ، وَلَقَتَلْتهمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } .رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا ، وَلَيْسَ لِابْنِ مَاجَهْ فِيهِ سِوَى : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } .
4_ عنِ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : { اذْهَبْ إلَى الْيَمَنِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً وَقَالَ : انْزِلْ ، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ ، قَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ ، قَالَ : لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } .مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ : قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ .
5_ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي قَالَ : قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَسَأَلَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ ، ثُمَّ قَالَ : هَلْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، كَفَرَ رَجُلٌ بَعْدَ إسْلَامِهِ ، قَالَ : فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ ؟ قَالَ : قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَاسْتَتَبْتُمُوهُ ؛ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ ؟ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي .رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ .[8]
6_الإجماع: فقد نقل ابن قدامة وغيره الإجماع على وجوب قتل المرتد، قال ابن قدامة : وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد ، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم ، ولم ينكر ذلك فكان إجماعاً .[9]
7_ الدليل العقلي: فقد اقتضت الحكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل؛ وذلك لأن الإرتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية، فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدينَ وجدَه غير صالح، ووجد ما كان عليه قبلَ ذلك أصلحَ فهذا تعريض بالدين واستخفاف به ، وفيه أيضاً تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة ، فلو لم يُجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئاً زاجراً مثل توقع الموت ، فلذلك جُعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلاّ على بصيرة ، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه ، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى : {لا إكراه في الدين}[10] على القول بأنها غير منسوخة ، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام .[11]
ويبرر السرخسي قتل المرتد رجلا كان او امرأة بقوله:هذا لأن القتل جزاء على الردة ؛ لأن الرجوع عن الإقرار بالحق من أعظم الجرائم ، ولهذا كان قتل المرتد من خالص حق الله تعالى ، وما يكون من خالص حق الله فهو جزاء ، وفي أجزية الجرائم الرجال والنساء سواء كحد الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وبهذا تبين أن الجناية بالردة أغلظ من الجناية بالكفر الأصلي ، فإن الإنكار بعد الإقرار أغلظ من الإصرار في الابتداء على الإنكار كما في سائر الحقوق.[12]
وقد رأى العلماء المعاصرين ان عقوبة قتل المرتد تتناسب تماما مع طبيعة الدين الاسلامي بوصفه نظام دين ودولة حيث الخروج منه يعتبر خروجا عن النظام وخيانة للأمة، وفي كلام سيد سابق تلخيص لما ذهبوا اليه، فقال: الاسلام منهج كامل للحياة فهو: دين ودولة، وعبادة، وقيادة، ومصحف وسيف، وروح ومادة، ودنيا وآخرة، وهو مبني على العقل والمنطق، وقائم على الدليل والبرهان، وليس في عقيدته ولا شريعته ما يصادم فطرة الانسان أو يقف حائلا دون الوصول إلى كماله المادي والأدبي – ومن دخل فيه عرف حقيقته، وذاق حلاوته، فإذا خرج منه وارتد عنه بعد دخوله فيه وإدراكه له، كان في الواقع خارجا على الحق والمنطق، ومتنكرا للدليل والبرهان، وحائدا عن العقل السليم، والفطرة المستقيمة.
والانسان حين يصل إلى هذا المستوى يكون قد ارتد إلى أقصى دركات الانحطاط، ووصل إلى الغاية من الانحدار والهبوط، ومثل هذا الانسان لا ينبغي المحافظة على حياته، ولا الحرص على بقائه – لأن حياته ليست لها غاية كريمة ولا مقصد نبيل.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الاسلام كمنهج عام للحياة، ونظام شامل للسلوك الانساني، لاغنى له من سياج يحميه، ودرع يقيه، فإن أي نظام لا قيام له إلا بالحماية والوقاية والحفاظ عليه من كل ما يهز أركانه، ويزعزع بنيانه، ولا شيء أقوى في حماية النظام ووقايته من منع الخارجين عليه، لان الخروج عليه يهدد كيانه ويعرضه للسقوط والتداعي.
إن الخروج على الاسلام والارتداد عنه إنما هو ثورة عليه والثورة عليه ليس لها من جزاء إلا الجزاء الذي اتفقت عليه القوانين الوضعية، فيمن خرج على نظام الدولة وأوضاعها المقررة.
إن أي انسان سواء كان في الدول الشيوعية، أم الدول الرأسمالية – إذ خرج على نظام الدولة فإنه يتهم بالخيانة العظمى لبلاده، والخيانة العظمى جزاؤها الاعدام.
فالاسلام في تقرير عقوبة الاعدام للمرتدين منطقي مع نفسه ومتلاق مع غيره من النظم.[13]
ثانيا:قتل المرتد ليس حدا من حدود الله تعالى.
رأيُنا ومعنا فريق من العلماء المعاصرين أنّ المرتد عن الإسلام لا يقتل حدا، ونستدلّ على قولنا هذا بعموم الآيات التي تقرر مبدأ حرية الاعتقاد، ونحن لا نرى _من حيث المبدأ_ فرقا بين حرية المرء عند دخوله في الإسلام أو خروجه منه إذ أن أحدا لا يملك الحجر على قلوب العباد فيتحكم في معتقداتهم، والرقيب على ذلك هو الله وحده فيعاقب المرتد ويتوعده بالعذاب الأليم إن مات على ردته قبل أن يتوب، وإليكم الأدلة على ما نقول:
1_ قوله تعالى : “وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ”[14] ، هذه الآية تنص على عقوبة المرتد وهي حبوط عمله والخلود في جهنم ، ورغم أن الآية نصت على جزاء المرتد إلا أنها لم تذكر القتل عقوبة له، والسكوت في موضع البيان بيان، والإحتجاج بالآية على وجوب قتل المرتد فيه من التعسف والتكلف ما لا يخفى، لأن الفاء في قوله تعالى (فَيَمُتْ) لا تفيد الترتيب الفوري بالضرورة وهي نظير قوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[15] ، ومعلوم أن كل إنسان يولد على الفطرة ويبقى كذلك الى أن يبلغ، ومن الناس من يختار الكفر على الإيمان،ولو كانت الفاء للتعقيب الفوري للزم ذلك أن يولد الانسان مؤمنا أو كافرا وهذا يتناقض مع العدل الإلهي المطلق.
2_ قوله تعالى: “كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ”[16].وهذه الآية أيضا تنصّ على جزاء المرتد وهو اللعن والخلود في العذاب دونما ذكر لقتله نصا ولا إشارة.
3_ وقوله تعالى:”مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ”.[17]
4_ وقوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” [18]
5_ وقوله تعالى : “وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا” [19]
6_ وقوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا”[20].
7_ وقوله تعالى:{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[21]. والآية تنص صراحة على عدم جواز الإكراه في الدين ويستوي الأمر قبل الإسلام أو بعده، والقول بقتل المرتد حدا هو من قبيل الإكراه في الدين.
أمّا الأحاديث التي وردت بقتل المرتد لا تشير الى حد القتل بحال من الأحوال، ويمكن تقرأ من ثلاث زاوايا:
الزاوية الأولى: هذا الحديث وراه أصحاب الكتب الستة إلا مسلما، ومدار الحديث على عكرمة مولى ابن عباس، وهذا الرجل قد تجنب الرواية عنه عدد من العلماء منهم الإمام مالك، وكان الإمام مسلم لا يروي عنه إلا قليلا، ويعلق البيهقي على هذا الحديث بقوله: وأما حديث عكرمة فإنه موصول قد احتج به البخاري ، وأخرجه في الجامع الصحيح ، إلا أن مالك بن أنس وجماعة من أئمة الحديث كانوا يتقون رواية عكرمة مولى ابن عباس ولا يحتجون بها ، وقد وثقه جماعة منهم يحيى بن معين ، وكان أبو الشعثاء جابر بن زيد يقول لعكرمة : هذا مولى ابن عباس ، هذا أعلم الناس وأحاديثه مستقيمة تشبه أحاديث أصحابه إذا كان الراوي عنه ثقة ، والله أعلم[22]. وبناء على هذا فأقلّ ما يقال أنّ هذا الحديث لا يصلح ليكون دليلا على حد من حدود الله تعالى.
وعند نقد متن الحديث فإننا نرى فيه ما هو مستبعد، فقضية الحرق بالنار لا تصدق عن شخص عادي فضلا أن يكون عليا رضي الله عنه، وهذه القضية لم ينتبه اليها كثيرون فتأمل ذلك.
الزاوية الثانية: إن صحت الرواية فربما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المرتد لما يتركه الإرتداد في مثل تلك الحالات من تأثير على المجتمع المسلم، فقد حاول نفر من اليهود ممن زعموا دخولهم الإسلام أن يرتدوا لإثارة الشكوك حول الإسلام بالإيحاء أنهم لما وجدوا دينهم أفضل من الإسلام عادوا إليه، والقرآن الكريم يحكي أمثال هؤلاء بقوله تعالى:{ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [23]ولا يخفى أنّ أمثال هؤلاء لم تكن ردتهم بناء على تحول إيماني وفكري بقدر ما كانت بقصد الإساءة إلى الإسلام وأهله ونظامه، وهم لم يدخلوا الإسلام حقيقة، فأمثال هؤلاء يستحقون عقوبة مغلظة قد تصل إلى القتل، وكذلك كان اجتهاد النبي في مثل هذه الحالات_ حسب الروايات_ وكذلك اجتهادات بعض الصحابة من بعده.فالمقصود من قتل المرتد هو عقاب سياسي على الخيانة وليس عقابا على المعتقد. يقول ابن العثيمين: وبهذا نعرف خطأ من أدخل حكم المرتد في الحدود ، وذكروا من الحدود حد الردة ؛ لأن قتل المرتد ليس من الحدود لأنه إذا تاب انتفى عنه القتل ، ثم إن الحدود كفارة لصاحبها وليس بكافر ، والقتل بالردة ليس بكفارة وصاحبه كافر لا يصلى عليه ، ولا يغسل ولا يدفن في مقابر المسلمين.[24] ، وابن العثيمين يسلط الضوء على تلك الفروق الكبيرة بين ما كان حدا بنص القرآن كالسرقة والزنا والحرابة، وما عليه الأمر من قتل المرتد حيث الفرق جد كبير إذ كانت في الحدود على جرائم مادية ارتكبها المسلم تسببت بضرر مادي على الفرد والمجتمع، بينما الأمر في الردة ليس كذلك، فهو لم يقم بفعل محدد المعالم حتى يقام عليه الحد دون شبهة.
وما يعزز كون عقوبة المرتد ليست من قبيل العقاب على المعتقد أن كثيرا من الروايات ربطت بين الردة والمحاربة والإفساد في الارض ومثل ذلك ما رواه النسائي عن عائشة مرفوعا (…وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصَلَّبُ أَوْ يُنْفَى مِنْ الْأَرْضِ.[25] والحديث في سياق من يحل دمهم من المسلمين. ومثل ذلك ما رواه ابن ابي شيبة: (…أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام).[26] ، ومثله أيضا:(…ورجل خرج محاربا لله ورسوله فانه يقتل أو يصلب أو ينفى من الارض أو يقتل نفسا فيقتل بها)[27] ومثل هذا الربط نجده في كتب الفقهاء كذلك.
الزاوية الثالثة: ربما كان حد الردة شريعة سابقة عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن حتى جاء القرآن بنسخها، فقد جاء في التوراة النص التالي “وإنْ أغراكَ في الخفاءِ أخوكَ اَبْنُ أمِّكَ، أوِ اَبنُكَ، أوِ اَبنَتُكَ، أوِ اَمرَأتُكَ التي في حَرَمِكَ، أو صديقُكَ الذي هوَ كنَفْسِكَ، فقالَ لكَ: تعالَ نعبُدُ آلهةً أخرى لا تعرِفُها أنتَ وآباؤُكَ مِنْ آلهةِ الشُّعوبِ الذينَ حَوالَيكُم، القريبينَ مِنكُم والبعيدينَ عَنكُم، مِنْ أقاصي الأرضِ إلى أقاصيها. فلا تلتَفِتْ إليهِ، ولا تسمَعْ لَه، ولا يتَوجعْ قلبُكَ علَيهِ، ولا تتَحَمَّلْهُ، ولا تستُرْ علَيهِ، بلِ اَقْتُلْهُ قَتْلاً. يَدُكَ تكونُ علَيهِ أوَّلاً لِقَتلِهِ، ثُمَ أيدي سائِرِ الشَّعبِ أخيرًا، ترجمُهُ بالحجارةِ حتى يموتَ،[28].
والأمر كذلك في المسيحية فقد جاء في رسالة بولس إلى العبرانيين: (مَن خالَفَ شَريعَةَ موسى قُتِلَ مِن غَيرِ رَحمَةٍ ( بِناءً على قَولِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثة ). فأَيَّ عِقابٍ أَشَدَّ مِن ذلك العِقابِ يَستَحِقُّ، كما تَرَون، مَن داسَ ابنَ الله وعَدَّ دَمَ العَهْدِ الَّذي قدِّسَ بِه نَجِسًا واستَهانَ بِرُوحِ النَّعمَة؟، فنَحنُ نَعرِفُ ذاكَ الَّذي قال: ( لِيَ الاِنتِقامُ وأَنا اَّلذي يُجازي )[29].وبناء على هذه النقول في التوراة والإنجيلفربما كان قتل المرتد شريعة سابقة عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن حتى نُسخت بنص القرآن الكريم، ومثل هذا ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم الزاني المحصن لأنه شريعة سابقة حتى نسخه القرآن الكريم قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } [30] والنبي محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الأنبياء.
بناء على ما سبق يتبين أن لا وجود لشيء اسمه حد الردة في الإسلام، وأنّ الأمر لا يعدو كونه إمّا تأويلا خاطئا للآيات التي أظهرت بوضوح عقوبة المرتد المتمثلة في خلوده في جهنم إن لم يتب قبل أن يموت، وإمّا تأويلا خاطئا لروايات قتل لمرتدين ثبت من خلال المناقشة أن سبب قتلهم _ إن صحت الروايات_ لايعدو كونه ارتكاب المرتد ما يوجب قتله من الحرابة والقتل.


[1] الإنسان، 3

[2] البقرة، 256

[3]البقرة، 217

[4]التحرير والتنوير، 2/272

[5]تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 9/438

[6]انظر درر الحكام شرح غرر الأحكام 2/414

[7]سبل السلام 5/476

[8]الأحاديث الثلاثة منقولة من كتاب نيل الاوطار 11/445

[9] انظر : المغني 10/72، والشرح الكبير على متن المقنع 10/72 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/381.

[10]البقرة : 256

[11]التحرير والتنوير 2/273

[12]المبسوط 12/241

[13]فقه السنة، 2/475

[14] البقرة، 127

[15]التغابن، 2

[16] آل عمران، 86/87

[17] النحل، 106

[18] آل عمران، 77

[19] النساء، 115

[20] النساء، 137

[21] البقرة، 256

[22]معرفة السنن والاثار للبيهقي، باب المرتد 13/407

[23]آل عمران، 72

[24]مجموع رسائل ابن العثيمين 2/179

[25]النسائي4662

[26]مصنف ابن ابي شيبة6/417

[27]كنز العمال367

[28] التثنية،الأصحاح،13/7_11، موسوعة نور الحق

[29] رسالة بولس الى العبرانيين، الإصحاح 10/13_30، موسوعة نور الحق

[30]المائدة، 44