السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
القرآن الكريم منذُ لحظة نزوله كان معجَّزًا من أكثر من وِجهة، بحيث لم يستطع الكفّار مجابهتهُ، أو الإتيان بمثله، فإن القرآن الكريم ظل معه تحدٍ للعالم أجّمع منذ نزوله على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهو أن يأتوا بمثلهِ، والمعنى ليس تقليد نصهُ أو أسلوبه وإنما المعنى بمثل ما جاء به.
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة – 23]
وحتى يُفهم معنى التحدي علينا معرفة ما جاء به القرآن، فبدايةً، القرآن قد نزل باللغة العربية، وكوحي إلهي لا بد أن كان له أثره على اللغة التي أُنزل بها ألا وهي العربية، وحتى نعرف أو نقيس هذا الأثر علينا معرفة الصورة الأدبية التي كانت عند العرب قبل القرآن الكريم، فقد كانت الصورة الأدبية عند العرب الجاهليين قد انتهت إلى فرعين كبيرين هما : النثر، والشعر،
فانتهى النثر عند الخطبة والوصية والنصيحة، والمثل والحكمة والمنافرة والمفاخرة، وسجع الكهان والأسطورة والقصة.
وانتهى الشعر عند القصيدة الغنائية بشكلها المألوف المعروف.
ولم يكن للنثر وفنونه وفروعه في المجتمع العربي كبير حظ، ولا عظيم شأن كما كان للشعر، وكان أكثره ارتجالاً، ليس فيه ثقافة واسعة، ولا فكر مضيء، فضلًا عن أن النثر لم يحفل به المجتمع الجاهلي احتفالاً يذكر، ولم يوله عناية، ولا أحله منزلة خاصة، وفوق ذلك كله فقد النثر قيمته، بفقدان أصوله قبل التدوين، ولضياع أكثره، لاعتماده على الذاكرة وحدها، بعكس الشعر لأنه مقيد والنثر مطلق!
ومن هنا، بقيت القصيدة الغنائية الشعريّة وحدها أرفع صور الأدب في مجتمع الجاهليين، وهو المجتمع الذي نزل فيه القرآن الكريم متحدثـًا إليه، موجهـًا له، وهذه القصيدة الغنائية قد مرت بأطوار عديدة من التهذيب الفني حتى انتهت إلى ما انتهت إليه، من قصائد المعلقات المعروفة ذات الصبغة المتوازية العمودية.
وقد كانت لهذه القصيدة منزلتها وأهميتها في المجتمع العربي ، فهي حديث الناس وموضع اعتزازهم وتقديرهم وفخرهم، وهي التي ينشدونها في مجالس لهوهم وجدهم، وفي مسامراتهم وأنديتهم، وفي أسواقهم وحروبهم وإقامتهم وترحالهم. والشاعر عندما يكتبها ترتفع قيمته الاجتماعية في مجتمعه، ويصبح له كل ألقاب الحمد والمجد والثناء، وبلغ من أمر المعلقات، أن كتبت بماء الذهب ـ كما قيل ـ ثم علقت على أستار الكعبة.
هذه القصائد الشعرية كانت أرفع صور الأدب في مجتمع الجاهلية، فإذا أتينا لنقيسها بالصورة الأدبية، بعد أن نفخ القرآن من روحه ولونها بلونه ومنحها من عطاءاته وجدناها لا تعد شيئـًا مذكورًا؛ لأنه صورة أدبية جديدة مختلفة مبتكرة عما سبقها، فظهرت المسميات الجديدة، كـ(فرقان – قرآن – سور – آيات)، أشياء جديدة كل الجِدة..
(وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) [الإسراء – 106]
( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان – 1]
(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) [الحجر – 1]
( سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) [النور – 1]
ولم تختلف فقط المسميات بل جاء القرآن على غير شكل القصيدة الجاهلية فلم يتخذ منها نمطـًا له، ولم يأت على أسلوب الخطابة ولا الوصية ولا المثل ولا الحكمة ولا المنافرة، وفي الوقت ذاته :
نجد فيه القصة في أرفع أشكالها وأروع ظلالها.
ونجد فيه الخيال الرفيع في ألوان بديعة من التمثيل والتشبيه والمجاز والكتابة والاستعارة.
ونجد فيه البشارة والإنذار، والوعد والوعيد، ونجد أرفع الأوصاف وأجل الصور.
لم يكن القرآن شعرًا ولا سجعـًا، ولا مزاوجة، ولا نثرًا مرسلاً، ولا خطابة، ولكنه جاء على مذهب غير معهود عند العرب، ومباين للمألوف من كلامهم، يتصرف في وجوه مختلفة، من ذكر قصص ومواعظ، واحتجاج وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وأوصاف وتعليم، وسير مأثورة.
ونجده يتردد بين طرفي الإيجاز والإطناب.
ونجد فيه تصوير الحياة الإنسانية ماضيها وحاضرها ومستقبلها، والنفس الإنسانية في سلمها وحربها، ولهوها وجدها، وأملها وألمها، وكفرها وإيمانها.
ونجد فيه من سمو وصفاء الحكمة، ومن الحجة الدامغة، بهدف إيقاظ الضمائر، وتحريك العقول وإثارة النفوس.
نجد فيه ضبطًا رائعًا في فواتحه وخواتيمه ومقاصده.
ويتصف بالمعاني الدقيقة، والأفكار العميقة، والأغراض النبيلة.
ونجد فيه دقة التصوير، وسمو التعبير وعظمة التأثير، وروعة الإيجاز، وسحر المجاز، وبلاغة التكرار، وفصاحة التعريض، وبراعة الإشارة وفاعلية الإيماء.
نجد فيه تجسيم الأفكار لتحويلها لصورة مادية محسوسة، إنه يصور نعيم المؤمنين، فيدعك تشعر بالروح والسعادة، السرور والحبور، ثم يصور هلاك العاصين، وشقاء الجاحدين، وعذاب الكافرين، فيجعل القلوب تكاد تنخلع، ويتركك حليف الهم والحزن، دائم التفكر والاعتبار، والألم والأمل، والخوف والرجاء.
ونجد فيه القرآن فواتح السور العظيمة.
ونجد الفواصل في السورة، موقّعة الخُطا، منغمة الحروف، ونجد القصة والعبرة، والموعظة والحكمة في قالب من الجمال والبهاء، والجلال والرواء.
ونجد لكل سورة اسمـًا يدعو للتفكُر، ونجد لكل اسم من أسماء السور قصة ، ولكل قصة حدثـًا وعبرة.
كل ذلك نمط مخالف لأنماط البيانيين عند الجاهليين، وصورة مباينة لصورة البلاغة لدى العرب الذين نزلت فيهم معجزة القرآن، وبالإضافة لذلك جاء القرآن ليؤثر تأثيرًا كبيرًا على اللغة التي نزل بها وأدبها :
بقاء اللغة العربية حيّة الي يومنا هذا مدين دون شك للقرآن، فلولاه لبادت هذه اللغة كما بادت اللغات الاثرية القديمة.
كان العرب في شمال الجزيرة العربية حين بزوغ الاسلام يتكلمون بلهجات متعددة وإن كانت لغة قريش شائعة بينهم. وكان الجنوبيون يتكلمون بلغة حمير. والقرآن نزل بلهجة قريش فوحّد شمال الجزيرة علي هذه اللغة ثم توغلت لغة القرآن الي الجنوب فأصبحت الجزيرة العربية كلها تتكلّم بهذه اللغة. وظلت اللهجة القريشيّة في إنتشارها تكتسح ما يقابلها من لغات، فاتخذتها شعوب عديدة لساناً لها، وأصبح لسانها الأدبي من أواسط آسيا حتي المحيط الأطلسي بعبرون به عن مشاعرهم و عقولهم،كلّ ذلك بفضل القرآن الكريم، الّذي حفظ العربيّة من الضياع، وجعلها لغة حيّة خالدة منتشرة في بعض أقطار الأرض. فالقرآن له الفضل في توحيد اللغة العربية وانتشارها و بقائها.
أسهم القرآن إسهاماً فعّالاً في ظهور معانٍ لم تكن معروفةً من قبل مثل : الفرقان و الكفر و الإيمان و الإشراك و الإسلام والصوم والصلاة والزكاة و الركوع والسجود . ولم يقف الأمر عند هذه المعاني فقط، بل كان للقرآن مضمونه الذي لم يكن يعرفه العرب كالدعوة إلي عبادة الله –والبعث والعقاب والثواب- فشرع للناس ما ينبغي أن تكون عليه حياتهم و ما يسودهم من علاقات.
هذّب اللغة العربيّة من حواشي اللفظ وغريبه، وأضفي عليها لوناً من الطلاوة، مع وضوح القصد والوصول إلي الغرض، فاللفظ علي قدر المعني.
أخذ الأدباء ينهلون ويسيرون علي هديه في خطبهم وأشعارهم وكل آثارهم الأدبيّة، فهو معجمهم الأدبي واللغوي.
لصيانة لغة القرآن إعرابا و قراءة نشأت علوم النحو والقراءات.
ولفهم مضامينه ظهرت علوم التفسير وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه.
ولفهم إعجازه البياني وضعت علوم البلاغة.
ولمعرفة أحكامه تفرّع عنه علم الفقه وأصوله.
والقرآن الكريم أحدث ـ إضافة الي ماتقدّم ـ تحوّلا كبيراً في أسلوب اللغة العربية، و نستطيع أن نفهم هذا التحوّل من مقارنة أسلوب القرآن مع ما وصل إلينا من الادب الجاهلي. ولقد أدرك العرب الجاهليون هذا الاعجاز في الاسلوب القرآني، وعلموا أنه يختلف تماماً عمّا سمعوه من فصحائهم.
إضافة إلي كل ذلك وتأكيدًا عليه، فقد تأثر الشعراء والأدباء بالقرآن الكريم فمنه ما روي عن الوليد بن المغيرة :
(حديث مرفوع) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّنْعَانِيُّ بِمَكَّةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : (أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ ، فَأَتَاهُ ، فَقَالَ : يَا عَمِّ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالا، قَالَ : لِمَ ؟ قَالَ : لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ : قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ : فَقُلْ فِيهِ قَوْلا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ، قَالَ : وَمَاذَا أَقُولُ ؟ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالأَشْعَارِ مِنِّي، وَلا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ وَلا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي، وَلا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ، إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلا، وَأَنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ، قَالَ : لا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ، قَالَ : فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ فِيهِ ، فَلَمَّا فَكَّرَ، قَالَ : هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يَأْثُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ ، فَنَزَلَتْ : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) [المدثر – 11] – هَكَذَا حَدَّثَنَاهُ مَوْصُولا -).
وقد ظهر تأثر الشعراء بلغة وأساليب القرآن الكريم في أشعارهم، فعندما تأثر حسان بن ثابت – رضي الله عنه -، بقوله تعالى :
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران – 26]
قال في شعره :
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالحمر النساء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح, وانكشف الغطاء
وإلا, فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء
وقد كان تأثُر النابغة الجعدي شديدًا بالقرآن عندما قال :
الحـمد لله لا شريك له من لم يقلها فنفسه ظلما
المولج الليل في النهار وفي الليل نهارا يفرج الظلما
الخافض الرافع السماء علي الأرض ولم يبق تحتها دعما
الخالق الباريء المصور في الأرحام ماء حتي يصير دما
من نطفـة قدها مـقدرها يخلق منها الأبشار والنسما
ثم عظاما أقامها عصبا ثمت لحما كساه فالتأما
ثم كسا الرأس والعواتق أبـشارا وجلدا تخاله أدما
والصوت واللون والمعايش والأخلاق شتي وفرق الكلما
ثم لابـد أن سيجمعكم والله جهرا شهادة قسما
فائتمروا الآن ما بدا لكم واعتصموا إن وجدتم عصما
في هذه الأرض والسماء ولا عصمة منه إلا لمـن رحما
ولما تأثر الأخطل بقوله تعالى :
(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة – 286]
اقتبس معنى الآية الكريمة وقال في شعره :
ألوم أجهد نفسي ما وسعت لم وهل تكلف نفس فوق ماتسع
وقد تأثر العديد من الشعراء الآخرين أمثال، أبو النواس وأبو العتاهية وغيرهم في العصر الحديث مثل أحمد مطر، والسياب … [راجع]فكل ما سبق كان إعجاز القرآن، من حيث الأدب وكيف حفظ الأدب واللغة وتفوق عليه بل وحسنه، لذا لهزيمة تحد القرآن بالاتيان من مثله (أدبيًا فقط)، عليك القدوم بكتاب أو سورة كما في التحدي، تُحدث تغييرًا أكبر مما أتى به القرآن أو حتى مثله لكن هذا مستحيل.القرآن المُعجَّز لم يتوقف إعجازه على الأدب واللغة فقط، بل كان فيه سبق للعلوم البشرية كذلك، فالله – تعالى – يكشف لعباده بعضًا من آياته ليتبين لهم أنه الحق..، يقول – تعالى – :
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت – 53]
وقد قال ابن كثير في تفسيره : “وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ مَا الْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْهُ وَفِيهِ وَعَلَيْهِ مِنَ الْمَوَادِّ وَالْأَخْلَاطِ وَالْهَيْئَاتِ الْعَجِيبَةِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ الدَّالِّ عَلَى حِكْمَةِ الصَّانِعِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَكَذَلِكَ مَا هُوَ مَجْبُولٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمُتَبَايِنَةِ، مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَمَا هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ تَحْتَ الْأَقْدَارِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ بِحَوْلِهِ، وَقُوَّتِهِ، وَحِيَلِهِ، وَحَذَرِهِ أَنْ يَجُوزَهَا، وَلَا يَتَعَدَّاهَا“.ومن هذا المنطلق فقد تحدث القرآن عن العديد من المواضيع العلمية المتباينة، مثل حركة الأجرام وشكل الأرض، تواجد الليل والنهار معًا، وغيره، والقرآن لا تُفسر كلماته بالنظريات، لأن النظريات متقلبة، بينما القرآن ثابت وعلى هذا المنهج يجب على من يدرس الإعجاز العمل به.سأبدأ من حيث انتهى بعض المشككين بالحديث عن آية كريمة عظيمة في القرآن، يقول تعالى :
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت – 11]
والسؤال هل كانت السماء في أطوار التكوين من دُخان؟، لقد اكتشف العلماء أن الكون في مراحله الأولى امتلأ بالغاز gas، غاز الهيدروجين وغاز الهيليوم والليثيوم [راجع] :
الغاز بين النجوم يتكون من الذرات والجزيئات، المكونة أساسًا من الهيدروجين والهيليوم. جزيئات الغبار بين النجوم هي بنفس
حجم جزيئات الدخان. تكوين هذه الجزيئات [جزيئات الغبار الكوني] ليس مؤكد، لكننا من المرجحين أن تجد السيليكات (المواد الصخرية)، والكربون والجليد.The interstellar gas consists of atoms and molecules, mainly composed of hydrogen and helium. Interstellar dust particles are
the size of smoke particles. The composition of these particles is not certain, but we are likely to find silicates (rocky materials), carbon and ice
[مصدر 1]
وعليه، فإن الكون في مراحله الأولى امتلئ بغازي الهيدروجين والهيليوم، وكان هناك ما يعرف بالغبار الكوني منتشر بين النجوم وكان بنفس حجم جزيئات الدخان، لكن الدخان يختلف عن الغبار، إذن ما هو الغبار الكوني أصلًا؟ وإلي كلام الدكتور دوغلاس بيرس بمقالة بعنوان :
الانفجارات النجمية [سوبرنوفا] الدخانية، يحل لغز العشرة مليارات عام :
فريق من علماء الفلك في المملكة المتحدة أعلنوا اكتشاف أن بعض الانفجارات النجمية [سوبرنوفا] لديها عادات سيئة – إنها تقذف بقوة كميات ضخمة من “الدخان” المعروف باسم الغبار الكوني. هذا يحل لغزا أكثر من 10 مليار سنة في طور التكوين. الملاحظات الجديدة التي نشرت في 17 يوليو في مجلة “الطبيعة”، أجابت على الأسئلة التي طال أمدها حول أصل أول الجزيئات الصلبة لتتشكل في الكون. قاس الفريق الغبار الكوني البارد في “Cassiopeia A”، من بقايا انفجار نجم ساطع [سوبر نوفا] في مجرتنا، على بُعد نحو 11،000 سنة ضوئية من الأرض. وكانت كمية الغبار أكثر ألف مرة من ما تم الكشف عنه سابقا، مما يشير إلى أن هذه الانفجارات القوية هي واحدة من أكثر الطرق فعالية لإنشاء الغبار الكوني. هذا يجيب أيضا معضلة كيف كميات كبيرة من الغبار مؤخرًا اُكتشِفت في الكون المبكر تكونت.
على عكس الغبار المنزلي، “الغبار الكوني” يتكون في الواقع من حبوب صلبة صغيرة (ومعظمهم من الكربون والسيليكات) تطوف في الفضاء بين النجوم، مع أحجام مماثلة للجزيئات في دخان السجائر. وجود حبيبات الغبار حول النجوم الصغار يساعدهم على التكوّن و[تلك الحبيبات] كذلك لبنات تشكيل الكواكب. الدكتور لوريتا دان من جامعة كارديف، التي قادت فريق البحث تقول “على نحو فعال،
نحن نعيش على تجمعات كبيرة جدًا من حبيبات الغبار الكوني! والسؤال عن أصل الغبار الكوني هو في واقع الأمر [سؤال عن] أصل كوكبنا وغيره.“
Smoking supernovae solve a ten billion year-old
mystery :
A team of UK astronomers have announced the discovery that some supernovae have bad habits – they belch out huge quantities of ‘smoke’ known as cosmic dust. This solves a mystery more than 10 billion years in the making. The new observations, published on 17th July in the journal ‘Nature’, answer long-standing questions about the origin of the first solid particles ever to form in the Universe. The team measured the cold cosmic dust in ‘Cassiopeia A’, the remnant of a supernova explosion in our own Galaxy, about 11,000 light years from Earth. The amount of dust was a thousand times what had been previously detected, suggesting that these powerful explosions are one of the most efficient ways to create cosmic dust. This also answers the riddle of how large quantities of dust recently discovered in the early universe were formed.
Unlike household dust, cosmic ‘dust’ actually consists of tiny solid grains (mostly carbon and silicates) floating around in interstellar space, with similar sizes to the particles in cigarette smoke. The presence of dust grains around young stars helps them to form and they are also the building blocks of planets. Dr. Loretta Dunne from Cardiff University, who led the research says “
Effectively, we live on a very large collection of cosmic dust grains! The question of the origin of cosmic dust is in fact that of the origin of our planet and others.”
[مصدر 2]
وعليه، فإن “الغبار الكوني”، لا يشبه الغبار المنزلي، وهو ليس غبارًا، بل إن حجم جزيئاته مماثل لحجم دخان السجائر، وها هي وكالة Nasa، تخبرنا بالأمر نفسه :
الفلكيون منذ فترة طويلة كانوا متحيرين من التوهج الخافت الغامض الذي يظهر بأوقات متباينة في أجزاء معينة من السماء. في نهاية المطاف، استخلصوا أن هذا نتج عن وجود الغبار الكوني. وكان جيوفاني كاسيني الفلكي الأول الذي اعترف بهذا الغبار في الفضاء بين الكواكب، ووجوده حول الشمس، من خلال الملاحظات التلسكوبية بالقرن السابع عشرة. كاشفًا عن أصول هذا الغبار الكوني، وتكوينه، وكيف قد يؤثر على الحياة على الأرض، وكان هناك تركيز للبحث المستمر والتنقيب منذ ذلك الحين.
المركبة الفضائية كاسيني استكملت هذه البحوث مع أداة قادرة على كشف آثار جزيئات صغيرة جدًا – 1،000/1 مليميتر عرض.
لفهم حجومها الحقيقية وقوامها، هذا الغبار الكوني يمكن أفضل مقارنته بصريًا بالجزيئات المثلجة لدخان السيجارة.Astronomers have long been puzzled by a mysterious faint glow that appears at various times in certain parts of the sky. Eventually, they concluded this was caused by the presence of cosmic dust. Giovanni Cassini was the first astronomer to recognize this dust in interplanetary space, and its presence around the sun, through telescopic observations in the 17th century. Revealing the origins of this cosmic dust, its composition and how it may affect life on Earth has been an ongoing focus of research and exploration ever since.The Cassini spacecraft continues this research with an instrument capable of detecting the impact of tiny particles — 1/1,000 of a millimeter wide.
To understand their true size and consistency, this cosmic dust can best be visually compared to icy cigar smoke particles[مصدر 3]
لذا وكما نرى فإنه وحتى وكالة الفضاء العالمية Nasa، تعترف بأن الوصف البصري الأدق هو مقارنته بدخان السجائر، أي أن كلمة الدخان هي الأفضل لفهم هذا الغبار الكوني، وبحسب كلام لوريتا دان من جامعة كارديف، التي قادت فريق البحث تقول :
“على نحو فعال، نحن نعيش على تجمعات كبيرة جدًا من حبيبات الغبار الكوني! والسؤال عن أصل الغبار الكوني هو في واقع الأمر [سؤال عن] أصل كوكبنا وغيره.”“Effectively, we live on a very large collection of cosmic dust grains! The question of the origin of cosmic dust is in fact that of the origin of our planet and others.”
[مصدر 4]
فالأرض نفسها تكونت من الغبار الكوني!، وهذه مقالة علمية أخرى تقول نفس الكلام بخصوص الغبار الكوني :
الغاز في بين النجوم بالفضاء ترافقه حبيبات صغيرة جدًا من النجوم،
تمامًا مثل الموجودة بدخان السجائر.The gas in interstellar space is accompanied by very tiny grains of dust,
much like that found in cigarette smoke.
[مصدر 5]
والآن هل خضع هذا الكلام إلي التجربة أم إنه مجرد فرضية؟، والإجابة أن خضع فقد نجح العلماء بتحليل الغبار الكوني من على الغلاف الجوي للمشتري :
حبيبات الغبار بين النجوم والكواكب يتراوح حجمها بين 0.6 ميكرومتر و1.4 ميكرومتر، اُلتقطت من على الغلاف الجوي للمُشتري، أو منطقة المجال المغناطيسي حسب الدراسة،
هذه الجزيئات أصغر من قُطر شعرة الإنسان
وحوالي بحجم جزيئات الدخان.Interstellar and interplanetary dust grains between about .6 micrometers and 1.4 micrometers are captured by Jupiters magnetosphere, or area of magnetic influence, according to the study. Such particles are smaller than the diameter of a human hair
and about the size of smoke particles.
[مصدر 6]
في النهاية القرآن، كان على حق تمامًا، ومن المستحيل أن تكون المعارف البشرية في زمن الرسول كانت ولو على قرب من هذا الاكتشاف الضخم.
- قبل البدأ في موضوع الإعجاز التالي، قد يقول قائل، إن كان الله سبحانه وتعالى أخبر بالفعل في قرآنه عن هذا الإعجاز، لِمَّ لم تتغير فِكرة العرب عن مثلًا أطوار خلق السماء من خلال القرآن؟
والجواب بسيط، ألا وهو الإعجاز في القرآن هو استخدام الألفاظ التي تعبر بدقة عما يريد بلا تصادم في مفهومها مع أي عصر … بكلمات أبسط، لو كلف الإسلام نفسه باخبار العرب في بيئتهم البسيطة عن أعقد ظواهر الفيزياء لارتد منهم الكثيرين، لذا فألفاظ القرآن لم تتعارض مع العصر الذي نزلت فيه مع فهم الناس كي لا تَشُق عليهم إيمانهم، بينما حُفِظ بها معنى الإعجاز، الذي سيفهمه الناس ليثبتوا من فهمه أنفُسِهم صدق القرآن.
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ( 87 ) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص – 88:87]
ويقول الطبري بعد سرد الآراء في معنى (حين)، “وَلَا حَدَّ عِنْدَ الْعَرَبِ لِلْحِينِ ، لَا يُجَاوِزُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْهُ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا قَوْلَ فِيهِ أَصَحُّ مِنْ أَنْ يُطْلَقَ كَمَا أَطْلَقَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرِ ذَلِكَ عَلَى وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ.“، فلكل نبأ في القرآن زمن يتحقق فيه، وهكذا تتجدد معجزة القرآن على طول الزمان.
وإلي الإعجاز التالي، القرآن الكريم يخبرنا عن كروية الأرض في غير موضع واحد، يقول تعالى :
(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) [الحجر – 19]
يقول الحق – تبارك وتعالى-، أن الأرض مُددّت، والمّدُّ هو الامتداد الطبيعي لِمَا نسير عليه من أيِّ مكان في الأرض. وهذه هي اللفتة التي يلفتنا لها الحق سبحانه؛ فلو كانت الأرض مُربعة؛ أو مستطيلة؛ أو مُثلثة؛ لوجدنا لها نهاية وحَافّة، لكِنّا حين نسير في الأرض نجدها مُمْتدة، ولذلك فهي لابُد وأن تكون مُدوَّرة. وهم يستدلون في العلم التجريبي على أن الأرض كُروية بأن الإنسان إذا ما سار في خط مستقيم؛ فلسوف يعود إلى النقطة التي بدأ منها، ذلك أن مُنْحنى الأرض مصنوعٌ بدقة شديدة قد لا تدرك العين مقدارَ الانحناء فيه ويبدو مستقيماً.
وكذلك يقول الله تبارك وتعالى :
(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [الزمر – 5]
كوَّرْتُ العمامة يعني لَففتها على رأسي، فصارت مثل الكرة مكورة، وفي لَفِّ العمامة تغطي اللفَّةُ اللفَّةَ التي تحتها. كذلك الليل والنهار، جزء من الليل يغطي جزءاً من النهار فيزيد الليل، أو جزء من النهار يغطي جزءاً من الليل فيزيد النهار. كما في يحدث في قصر أو طول النهار أو الليل في الصيف أو الشتاء. ونفهم أيضاً من قوله تعالى (يُكوِّر) أن الأرض كروية، لأن الليل والنهارَ ظاهرةٌ تحدث على سطح الأرض، وقد أثبتَ العلم هذه الحقيقةَ بالصور التي التقطوها للأرض من الفضاء.
هذا كان من حيث إثبات كروية الأرض قطعًا من القرآن، يلي ذلك إثبات تعاقب الليل والنهار ولو تعاقب الليل والنهار فالأرض كروية كذلك.
يقول تعالى :
(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) [آل عمران – 17:15]
وردت فى الاية الكريمة كلمة أسْحَار وهى جمع كلمة سَحَر، والسَحَر هو السدس الاخير من الليل، وعليه فإنه يوجد وقت سَحَر واحد فى اليوم الواحد وهو سدسه الاخير ولو كانت الارض مسطحة كما كان يتصوروها الاقدمون لكان هناك وقت سَحَر واحد لكل بقاع الارض فى اليوم الواحد، ولكن اذا اخذنا فى الاعتبار كروية الارض ودورانها حول نفسها نجد هناك أكثر من وقت سَحَر واحد فى اليوم الواحد لمناطق الارض الواقعة على خطوط الطول المتباينة [من حيث فروق التوقيت، وكذلك شروق الشمس وغروبها على أكثر من بقعة يختلف التوقيت] أى أن السحر يتكرر فى دورة الارض الواحدة حول نفسها عدة مرات وهذا ما أشار له القران الكريم فى فى ذكر كلمة اسْحَار وليس سَحَر.
ويقول جّلَ ذكره تبارك وتعالى:
(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس – 40]
الليل والنهار هما الزمن الناشىء عن حركة الشمس والقمر، فالنهار ابن الشمس، والليل ابن القمر، وفي هذه الآية نَفْيَان، نفي لأنْ تدرك الشمسُ القمرَ فضلاً عن أنْ تسبقه، ونفي لأنْ يسبق الليلُ النهارَ، فإذا كانت الشمس لا تدرك القمر، فليس معنى هذا أن يسبق الليلُ ابن القمر النهارَ ابن الشمس، فالمحصلة أن النهار لا يسبق الليل ولا الليل يسبق النهار ومعنى ذلك أنه لو كانت الأرض مسطحة فسيكون الليل والنهار عليها على حالتين، إما أن الله خلق الشمس مواجهة للأرض ثم تغيب فيأتي بعدها الليل، وفي هذه الحالة النهار يسبق الليل، وإما أن الله خلق الشمس غير مواجهة للأرض فيكون الليل أولًا ثم تشرق عليه الشمس وفي هذه الحالة يكون الليل يسبق النهار، فيأتي القرآن ويقول الليل لا يسبق النهار ولا العكس، وهذا إعلان لهم بأنَّ الليل والنهار متواجدان معًا على الأرض، أي أنها كروية.
ويقول جّل وعز من قال :
(فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) [المعارج – 40]
أيُ مشارق أو مغارب هي المقصودة في الآية الكريمة؟، بينما في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وكان كل ما يعرفه الناس عن الشمس أنها تشرق من مكان وتغرب من مكان فيقولون، الشمس تشرق من ناحية هذا الجبل، وتغرب من ناحية هذه الشجرة، لكن في الوقت الحاضر نعلم أن لكل بلد مشرق ومغرب فالشمس مثلًا تشرق هنا وبعد دقائق تشرق في بلدة أخرة وهكذا، تغرب هنا وبعد دقائق تغرب في بلدة أخرى، ففي بلدة يصلون الفجر وفي نفس الوقت في بلدة أخرى يصلون الظهر وآخرون العصر وآخرون العشاء والمغرب، لذا فلكل بلد أو منطقة مشارق ومغارب نتيجة تعاقب الليل والنهار وهذا دليل كذلك على كروية الأرض.
ويقول – تبارك وتعالى -:
(وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل – 88]
يخبرنا الله تعالى بأن الجبال وهي نظنها ثابتة تسير كسير السحاب، لكن كيف؟، نعرف من العصر الحاضر أنَّ الأرض تدور حول نفسها بحيث تكمل دورة كاملة في 24 ساعة تقريبًا أو 23 ساعة و56 دقيقة [من منظور نجَّمي]، نستنتج من هذا أن كل ما في الأرض يدور معها، يدورون بفعل حركتها هي حول نفسها، والله سبحانه وتعالى وصف الجبال بالأوتاد، والوتد يتبع حركة الموتود فيه، والجبال تتبع حركة الأرض، لكن وبما أن الأجسام الواقعة في الأرض تتبع حركتها أيضًا فيظن المشاهد ثبات ورسوخ تلك الجبال وهذه هي الحركة النسبية، كذلك الآية تخبرنا أن سير الجبال كسير السحاب والجبال تسيرها الأرض والسحاب يسيره الهواء أي كلا الحركتين ليستا مركزية، لذا فمعنى الآية الكريمة هو حركة الأرض حول نفسها ولقد علل الله ختام الآية عن هذه الظاهرة بأنه – تعالى -، أتقن كل شيء.
- قد يقول قائل، لكن هذه الآية وردت في سياق الآخرة؟
والجواب، أن الله وصف الجبال يوم القيامة بالتفتت وأنها ستكون كالعهن المنفوش، كذلك يقول الله في الآية الكريمة “تحسبها” أي تظنها، وفي الآخرة لا يكون هناك ظن، بل تكون الأمور يقينية ومكشوفة، كذلك في الآية الكريمة استخدام لأفعال المضارع دلالة على التجدد والحضور، مثل (ترى، تمر)، ختمت الآية الكريمة كذلك بأن الله اتقن كل شيء فهو صنع الله، لكن في الآخرة سيكون هلاك ودمار.
وإلي الإعجاز التالي، يُعتبر أول من أنشأ علم الأجنة هو أرسطو، صاحب نظرية (التخلق المتوالي – Epigenesis) [راجع]، والتي تنص على بداية تطور الكائن الحي، وبالأخص تطور النبات أو الحيوان من بيضة أو بوغ عبر خطوات متتالية وفيها تتمايز الخلايا وتتشكل الأعضاء، ويعتبر مبتكرها في كتابه (On the Generation of Animals)، وكان يعتقد أرسطو أن، “الجنين ينشأ من دم الحيض عندما ينشطه الحيوان المنوي” :
كذلك هو طور نظرية متماسكة عن التخليق، معتقدًا أن بيض الثدييات تكون في الرحم
كنتيجة لتفعيل دم الحيض من خلال الحيوان المنوي.
He also developed a coherent theory of generation, believing that the mammalian egg was formed in the uterus
as a result of the activation of menstrual blood by male semen.
[مصدر 7]
هذا كان اعتقاد أرسطو في تكوين الجنين، أما أبقراط (وقد سبق أرسطو)، فإنه كان يعتقد أن الجنين يتكون أول شيء من الحيوان المني ثم يتغذى من انحدار دم أمه حول الغشاء :
الحيوانات المنوية تنتج من الجسم كله من كِلا الوالدين، الحيوانات المنوية الضعيفة تأتي من الأجزاء الضعيفة، والحيوانات المنوية القوية تأتي من الأجزاء القوية.
[باب 8، ص321]
البذور (الجنين)، من ثمَّ، يُحتوَى في غشاء… وعلاوة على ذلك، فهو ينمو بسبب دم أمه، الذي ينزل للرحم. أول ما المرأة تحمل، ينقطع حيضها.
[الباب 14، ص326]
في هذه المرحلة، مع نزول وتخثر دم الأم، يبدأ اللحم بالتشكل، مع السرة.
[الباب 14، ص326]
وكما ينمو اللحم فإنه يتشكل لأعضاء متمايزة بالتنفس … والعظام تنمو بصعوبة .. وعلاوة عليه فإنها ترسل فروعًا كشجرة
[الباب 17، ص328]Sperm is a product which comes from the whole body of each parent, weak sperm coming from the weak parts, and strong sperm from the strong parts.
Section 8, p 321
The seed (embryo), then, is contained in a membrane … Moreover, it grows because of its mother’s blood, which descends to the womb. For once a woman conceives, she ceases to menstruate…
Section 14, p. 326
At this stage, with the descent and coagulation of the mother’s blood, flesh begins to be formed, with the umbilicus.
Section 14, p. 326
As the flesh grows it is formed into distinct members by breath … The bones grow hard … moreover they send out branches like a tree …
Section 17, p. 328
[مراجع – Section 14, p. 326, Section 14, p. 326, Section 17, p. 328]
وأما جالين فقد اعتقد بأن تكوين الجنين من مائي الرجل والأنثى وماء الحيض :
جالين يقول، “المادة التي منها تكون الجنين ليست مجرد دم حيض، كما حفظ (ذكر) أرسطو، لكنها دم الحيض وكِلا المنيين” ص50.
Galen says, “The substance from which the fetus is formed is not merely menstrual blood, as Aristotle maintained, but menstrual blood plus the two semens.” p 50.
[مراجع p 50]
المفضلات