يقول العلامة المقريزي : ( … لما مات الملك المنصور وتسلطن من بعده ابنه الملك الأشرف خليل ، خدم الكتاب النصارى عند الأمراء الخاصكية وقووا نفوسهم على المسلمين ، وترفعوا في ملابسهم وهيآتهم ، وكان منهم كاتب عند خاصكي يعرف ” بعين الغزال ” ، فصدف يومًا في طريق مصر سمسار شونة مخدومه ، فنزل السمسار عن دابته وقبل رجل الكاتب ، فأخذ يسبه ويهدده على مال قد تأخر عليه من ثمن غلة الأمير ، وهو يترفق له ويعتذر ، فلا يزيده ذلك عليه إلا غلظة ، وأمر غلامه فنزل وكتف السمسار ومضى به والناس تجتمع عليه حتى صار إلى صليبة جامع أحمد بن طولون ، ومعه عالم كبير ، وما منهم إلا من يسأله أن يخلي عن السمسار وهو يمتنع عليهم ! فتكاثروا عليه وألقوه عن حماره وأطلقوا السمسار ، وكان قد قرب من بيت أستاذه ، فبعث غلامه لينجده بمن فيه، فأتاه بطائفة من غلمان الأمير وأوجاقيته فخلصوه من الناس وشرعوا في القبض عليهم ليفتكوا بهم ، فصاحوا عليهم ما يحل ، ومروا مسرعين إلى أن وقفوا تحت القلعة ، واستغاثوا نصر الله السلطان , فأرسل يكشف الخبر فعرفوه ما كان من استطالة الكاتب النصراني على السمسار ، وما جرى لهم ، فطلب عين الغزال ورسم للعامة بإحضار النصارى إليه ، وطلب الأمير بدر الدين بيدرا النائب ، والأمير سنجر الشجاعي ، وتقدم إليهما بإحضار جميع النصارى بين يديه ليقتلهم !
فما زالا به حتى استقر الحال على أن ينادي في القاهرة ومصر ، أن لا يخدم أحد من النصارى واليهود عند أمير ، وأمر الأمراء بأجمعهم أن يعرضوا على من عندهم من الكتاب النصارى الإسلام ، فمن امتنع من الإسلام ضربت عنقه ، ومن أسلم استخدموه عندهم ، ورسم للنائب بعرض جميع مباشري ديوان السلطان ويفعل فيهم ذلك ، فنزل الطلب لهم وقد اختفوا ، فصارت العامة تسبق إلى بيوتهم وتنهبها ، حتى عم النهب بيوت النصارى واليهود بأجمعهم، وأخرجوا نساءهم مسبيات ، وقتلوا جماعة بأيديهم !
فقام الأمير بيدرا النائب مع السلطان في أمر العامة ، وتلطف به حتى ركب وإلى القاهرة ونادى من نهب بيت نصراني شنق ، وقبض على طائفة من العامة وشهرهم بعدما ضربهم ، فانكفوا عن النهب بعدما نهبوا كنيسة المعلقة بمصر وقتلوا منها جماعة ، ثم جمع النائب كثيرا من النصارى كتاب السلطان والأمراء وأوقفهم بين يدي السلطان عن بعد منه .
فرسم للشجاعي وأمير جاندار أن يأخذا عدة معهما وينزلوا إلى سوق الخيل تحت القلعة ، ويحفروا حفيرة كبيرة ويلقوا فيها الكتاب الحاضرين ، ويضرموا عليهم الحطب نارًا ، فتقدم الأمير بيدرا وشفع فيهم فأبى أن يقبل شفاعته وقال : ما أريد في دولتي ديوانا نصرانيًا !
فلم يزل به حتى سمح بأن من أسلم منهم يستقر في خدمته ، ومن امتنع ضربت عنقه ، فأخرجهم إلى دار النيابة وقال لهم : يا جماعة ما وصلت قدرتي مع السلطان في أمركم إلا على شرط ، وهو أن من اختار دينه قتل ، ومن اختار الإسلام خلع عليه وباشر ، فابتدره المكين بن السقاعي أحد المستوفين وقال : يا خوند وأينا قواد يختار القتل على هذا الدين الخراء !! والله دين نقتل ونموت عليه يروح ، لا كتب الله عليه سلامة ، قولوا لنا الذي تختاروه حتى نروح إليه !
فغلب بيدرا الضحك وقال له : ويلك ، أنحن نختار غير دين الإسلام ؟ فقال يا خوند : ما نعرف ، قولوا ونحن نتبعكم ، فأحضر العدول واستسلمهم ، وكتب بذلك شهادات عليهم، ودخل بها على السلطان فألبسهم تشاريف وخرجوا إلى مجلس الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس ، فبدأ بعض الحاضرين بالمكين بن السقاير وناوله ورقة ليكتب عليها وقال : يا مولانا القاضي اكتب على هذه الورقة . فقال : يا بني ما كان لنا هذا القضاء في خلد ، فلم يزالوا في مجلس الوزير إلى العصر ، فجاءهم الحاجب وأخذهم إلى مجلس النائب وقد جمع به القضاة فجددوا إسلامهم بحضرتهم ، فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزً ا، يبدي من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره ) ( القول الإبريزي ص 59 , وانظر الخطط 3/282 ) .
ويقول بدر الدين العيني : ( فلما نهضوا كان القاضي تاج الدين بن السفلورى جالسًا مع الوزير، فقال يا مولانا تاج الدين : ما تقول في إسلام هؤلاء الجماعة ؟! قال : أقول إن الذليل منهم صار عزيزًا ، والعزيز من المسلمين صار ذليلاً لهم ، فإنه كان يمنعهم من ظلم الناس ومن التكبر عليهم كونهم نصارى ، فالآن يقولون : نحن مسلمون، فيتسلطون عليهم والله يتولى سرائرهم ! ) ( عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان 1/258 ) .
ويحدثنا المقريزي عن إستمرار تطاول النصارى وتعديهم على المسلمين وإهانتهم في مصر أنذاك , فيقول : ( وفي أخريات شهر رجب سنة سبعمائة – من الهجرة – قدم وزير متملك المغرب إلى القاهرة حاجًا ، وصار يركب إلى الموكب السلطاني وبيوت الأمراء ، فبينما هو ذات يوم بسوق الخيل تحت القلعة ، إذا هو برجل راكب على فرس وعليه عمامة بيضاء وفرجية مصقولة ، وجماعة يمشون في ركابه وهم يسألونه ويتضرعون إليه ويقبلون رجليه ، وهو معرض عنهم وينهرهم ويصيح بغلمانه أن يطردوهم عنه . فقال له بعضهم يا مولاي الشيخ بحياة ولدك النشو تنظر في حالنا ، فلم يزده ذلك إلا عتوًا وتحامقًا ، فرق المغربي لهم وهم بمخاطبته في أمرهم ، فقيل له : وأنه مع ذلك نصراني !
فغضب لذلك وكاد أن يبطش به ، ثم كف عنه وطلع إلى القلعة وجلس مع الأمير سلار نائب السلطان ، والأمير بيبرس الجاشنكير ، وأخذ يحادثهم بما رآه وهو يبكي رحمة للمسلمين بما نالهم من قسوة النصارى ، ثم وعظ الأمراء وحذرهم نقمة الله ، وتسليط عدوهم عليهم من تمكين النصارى من ركوب الخيل، وتسلطهم على المسلمين وإذلالهم إياهم ، وأن الواجب إلزامهم الصغار ، وحملهم على العهد الذي كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فمالوا إلى قوله وطلبوا بطرك النصارى وكبراءهم وديان اليهود ، فجمعت نصارى كنيسة المعلقة ونصارى دير البغل ونحوهم ، وحضر كبراء اليهود والنصارى ، وقد حضر القضاة الأربعة وناظروا النصارى واليهود ، فأذعنوا إلى إلتزام العهد العمري ) ( القول الإبريزي ص 61, وانظر الخطط 3/283 ) .
ويقول أيضًا : ( … وفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة – من الهجرة – ، رسم بتحرير ما هو موقوف على الكنائس من أراضي مصر ، فأناف على خمسة وعشرين ألف فدان ، وسبب الفحص عن ذلك ، كثرة تعاظم النصارى وتعديهم في الشر والإضرار بالمسلمين ، لتمكنهم من أمراء الدولة وتفاخرهم بالملابس الجليلة ، والمغالاة في أثمانها ، والتبسط في المآكل والمشارب ، وخروجهم عن الحد في الجراءة والسلاطة …
وتحدث جماعة مع الأمير طاز في أمر النصارى وما هم عليه ، فوعدهم بالإنصاف منهم ، فرفعوا قصة على لسان المسلمين قرئت على السلطان الملك الصالح صالح بحضرة الأمراء والقضاة وسائر أهل الدولة ، تتضمن الشكوى من النصارى ، وأن يعقد لهم مجلس ليلتزموا بما عليهم من الشروط .
فرسم بطلب بطرك النصارى وأعيان أهل ملتهم ، وبطلب رئيس اليهود وأعيانهم ، وحضر القضاة والأمراء بين يدي السلطان ، وقرأ القاضي علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر العهد الذي كتب بين المسلمين وبين أهل الذمة ، وقد أحضروه معهم ، حتى فرغ منه ، فإلتزم من حضر منهم بما فيه وأقروا به ، فعددت لهم أفعالهم التي جاهروا بها وهم عليها ، وأنهم لا يرجعون عنها غير قليل ، ثم يعودون إليها كما فعلوه غير مرة فيما سلف، فاستقر الحال على أن يمنعوا من المباشرة بشيء من ديوان السلطان ودواوين الأمراء ولو أظهروا الإسلام ، وأن لا يكره أحد منهم على إظهار الإسلام ، ويكتب بذلك إلى الأعمال ) ( القول الإبريزي ص 60 , وانظر الخطط 3/284 ) .
ويقول العلامة المقريزي أيضًا : ( وفي هذه السنة : كانت واقعة النصارى ، وذلك أنهم كانوا قد تعاظموا ، وتباهوا بالملابس الفاخرة ، ومن الفرجيات المصقولة والبقيار الذي يبلع ثمنه ثلاثمائة درهم ، والفرط التي تلفها عبيدهم على رؤوسهم ، بمبلغ ثمانين درهما الفوطة . وركبوا الحمير الفره ذات الأثمان الكثيرة ، ومن ورائهم عبيدهم على الأكاديش. وبنوا الأملاك الجليلة في مصر والقاهرة ومتنزهاتها ، واقتنوا الجواري الجميلة من الأتراك والمولدات ، واستولوا على دواوين السلطان والأمراء ، وزادوا في الحمق والرقاعة ، وتعدوا طورهم في الترفع والتعاظم …
وأكثروا من أذي المسلمين وإهانتهم ، إلى أن مر بعضهم يومًا على الجامع الأزهر بالقاهرة ، وهو راكب بخف ومهماز وبقيار طرح سكندرى على رأسه ، وبين يديه طرادون يبعدون الناس عنه ، وخلفه عدة عبيد على أكاديش ، وهو في تعاظم كبير . فوثب به طائفة من المسلمين ، وأنزلوه عن فرسه ، وهموا بقتله ، فخلصه الناس من أيديهم . وتحركت الناس في أمر النصارى وماجوا ، وانتدب عدة من أهل الخير لذلك ، وصاروا إلى الأمير طاز الشريف أبى العباس الصفراوي ، وبلغوه ما عليه النصارى مما يوجبه نقض عهدهم ، وانتدبوه لنصرة الإسلام والمسلمين .
فانتفض الأمير طاز لذلك ، وحدث الأصرين شيخو وصرغتمش وبقية الأمراء في ذلك بين يدي السلطان ، فوافقوه جميعًا ، وكان لهم يومئذ بالإسلام وأهله عناية . ورتبوا قصة على لسان المسلمين ، قرئت بدار العدل على السلطان بحضرة الأمراء والقضاة وعامة أهل الدولة . فرسم بعقد مجلس للنظر في هذا الأمر ، ليحمل النصارى واليهود على العهد الذي تقرر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وطلب بطرك النصارى ورئيس اليهود ، وحضرت قضاة القضاة وعلماء الشريعة ، وأمراء الدولة ، وجيء بالبطرك والرئيس ، فوقفا على أرجلهما وقرأ العلائى على ابن فضل الله كاتب السر نسخة العهد الذي بيننا وبين أهل الذمة ، بعدما أُلزموا بإحضاره …
وكان هذا العهد قد كتب في رجب سنة سبعمائة في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون ، فلما انتهى العلائي علي بن فضل الله كاتب السر من قراءته , تقلد بطرك النصارى وديان اليهود حكم ذلك ، والتزما بما فيه ، وأجابا بالسمع والطاعة … ثم جال الحديث في أمر اليهود والنصارى وإعادة وقائعهم الماضية ، وأنهم بعد التزامهم أحكام العهد يعودون إلى ما نهوا عنه … إلخ ) ( راجع بتوسع : ” السلوك لمعرفة دول الملوك ” للعلامة المقريزي 2/214-216 , ” عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان ” لبدر الدين العيني 1/290-310 ) .
لقد ذكر لنا المقريزي وغيره , أسباب المشاحنات والنزاعات التي حدثت بين المسلمين والنصارى أنذاك , وهى أن النصارى كلما استتب لهم الأمر , وارتفعت منازلهم في الدولة , كادوا للمسلمين وأذوهم , فكان رد الفعل من عوام المسلمين منطقيًا – عقلاً لا شرعًا – إيذاء كثرة تعاظم النصارى وتعديهم في الشر والإضرار بهم , وعلى النصارى أن يدركوا أن سبب أي إضطهاد – مزعوم من قبلهم – , هو مكرهم وكيدهم وخبثهم وتعديهم على من حفظوا عليهم أنفسهم ودينهم وأموالهم وديارهم , فلا تلوموا إلا أنفسكم , فأنتم تجنون ما تزرعون , ومن أعمالكم سلط عليكم !
ورحم الله العلامة المقريزي إذ يقول : ( ولا يخفى أمرهم – أي النصارى – على من نور الله قلبه , فإنه يظهر من آثارهم القبيحة إذا تمكنوا من الإسلام وأهله ما يعرف به الفطن سوء أصلهم , وقديم معادة أسلافهم للدين وحملته ! ) ( الخطط 3/285 , والقول الإبريزي ص 65 ) .