{{ هل الحكمة من اختلاف القراءات التيسير على الأمة فقط؟ }}
قد يقــال:
بما أن اختلاف القراءات إنما هو للتيسير على الأمة في تلاوة كتاب ربها سبحانه وتعالى؛ إذ نزل القرآن والعرب يتكلمون بلهجات عربية مختلفة، ومنهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط فيشق عليهم أن يقرؤوه بقراءة واحدة، أما الآن فمن الميسور أن يقتصر الناس على قراءة واحدة؛ لا سيما من يبدأ بتلقي القرآن من الصغر فلا يصعب عليه تعلم القراءة؛ بل من السهولة والتخفيف أن يقتصر على وجهٍ واحدٍ من أوجه القراءات، فلماذا الانشغال بتعلُّم هذا العلم؟!
والجواب:
أن الاختلاف في القراءات ليس الداعي إليه التيسير والتهوين على الأمة فقط، وإنما لحكم أخرى جليلة، منها:
ما في ذلك من نهاية البلاغة، وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار، وجمال الإيجاز، إذ كل قراءة بمنزلة الآية، إذ كان تنوع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها لم يخف ما كان في ذلك من التطويل فبعض مواضع الخلاف تفيد فيه إحدى القراءات معنىً معيناً، وتفيد منه القراءة الأخرى معنى آخر صحيحاً لا يتعارض مع المعنى المستفاد على القراءة الأولى.
ومنها:
ما في ذلك من عظيم البرهان وواضح الدلالة على أن هذا القرآن كلام حكيم حميد؛ إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد ولا تناقض ولا تخالُف، بل كله يصدق بعضه بعضا، ويبين بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد، وأسلوب واحد، وما ذلك إلا آية بالغة، وبرهان قاطع على صدق من جاء به صلى الله عليه وسلم.
ومنها:
إعظام أجور هذه الأمة من حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم في تتبع معاني ذلك واستنباط الحكم والأحكام من دلالة كل لفظ، واستخراج كمين أسراره وخفي إشاراته، وإنعامهم النظر وإمعانهم الكشف عن التوجيه والتعليل والترجيح، والأجر على قدر المشقة.
ومنها:
بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم كتاب ربهم هذا التلقي، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عن لفظة لفظة، والكشف عن صيغة صيغة، وبيان صوابه، وبيان تصحيحه، وإتقان تجويده، حتى حموه من خلل التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف، فلم يهملوا تحريكاً ولا تسكيناً، ولا تفخيماً ولا ترقيقاً، حتى ضبطوا مقادير المدات وتفاوت الإمالات، وميزوا بين الحروف بالصفات، مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم، ولا يوصل إليه إلا بإلهام بارئ النّسم.
ومنها:
ما ادخره الله من المنقبة العظيمة، والنعمة الجليلة الجسيمة لهذه الأمة الشريفة، من إسنادها كتاب ربها، واتصال هذا السبب الإلهي بسببها، خصيصة الله تعالى هذه الأمة المحمدية، وإعظاماً لقدر أهل هذه الملة الحنيفية، وكل قارئ يوصل حروفه بالنقل إلى أصله، ويرفع ارتياب الملحد قطعاً بوصله، فلو لم يكن من الفوائد إلا هذه الفائدة الجليلة لكفت، ولو لم يكن من الخصائص إلا هذه الخصيصة النبيلة لوفت.
ومنها:
ظهور سر الله في توليه حفظ كتابه العزيز وصيانة كلامه المنزل بأوفى البيان والتمييز، فإن الله تعالى لم يخل عصراً من الأعصار، ولو في قطر من الأقطار، من إمام حجة قائم بنقل كتاب الله تعالى وإتقان حروفه ورواياته، وتصحيح وجوهه وقراءاته، يكون وجوده سبباً لوجود هذا السبب القويم على ممر الدهور، وبقاؤه دليلاً على بقاء القرآن العظيم في المصاحف والصدور.
لأجل تلك الحكم المتعددة وغيرها كانت دراسة علم القراءات من فروض الكفايات، إذا قام به البعض سقط عن الباقين, وإن قصر في تعلُّمه جميعاً لحقهم الإثم جميعاً لتفريطهم في تعلُّم كتاب ربهم سبحانه وتعالى.
[مستفاد من كتاب النشر لابن الجزري رحمه الله تعالى]