التراكم الهائل لغنى الكنيسة الكاثوليكية ظاهرة حديثة نسبيا. بدأت حينما حرم الايطاليون سنة 1870 الكرسي البابوي من سيطرته على الولايات البابوية (بما فيها روما) التي كانت تشكل ما يقرب عن ثلث مساحة ايطاليا.

منذ تلك الفترة انطلقت الكنيسة الكاثوليكية في الانغماس في عالم الثروة معتمدة في ذلك على معادلة النجاح في العالم الحديث الصناعي والمالي، والتي وضع أهم مرتكزاتها البابا Benoît XV-1914-1922 ابان وبعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918). سياسة تقوم على عدم ربط استثمارات الباباوات والكنيسة بأي اعتبارات سياسية أو دينية بل جعلها مرهونة فقط بقواعد الادارة القائمة على الربحية.
آنذاك لم يكن قد حصل الفاتيكان بعد على الموارد النقدية من الفاشية الايطالية ، لكنه كان يتوفر على ما يكفي من الملايين للاستثمار في الأسواق العالمية. وحتى يثبت Benoît XV أنه لم يكن يمزح حين شرع سياسته الجديدة فقد عمل على استثمار القسط الأكبر من أموال الفاتيكان.
أين ؟
على خطى الحملات الصليبية البابوية ضد العالم الاسلامي !
في عقارات الامبراطورية العثمانية !
وكانت هذه بداية طريق قاد الكنيسة الكاثوليكية للتربع الى جانب أكبر وأضخم الشركات التي تلعب بالملايير في القرن 20.
سنة 1929 وابان فترة معاهدة لاتران صارت ثروة دولة الفاتيكان صندوقا رسميا. وفي نفس السنة سلم موسوليني Mussolini أكثر من 1750 مليون ليرا ايطالية (ما يعادل 100 مليون دولار) الى الفاتيكان كآخر دفعة للانهاء التام للمسألة الرومانية.
توقيع اتفاقية لاتران سنة 1933 - في الصورة Mussolini (ممثل الحكومة الايطالية) والكاردينال Gasparri (ممثلا عن البابا )

مباشرة بعد انهيار الأسواق استثمر البابا بولس 11- Paul XI (لا يقل حسه التجاري عن Benoît XV) أموالا طائلة في الولايات المتحدة الأمريكية. ولقد مكن ذلك الكنيسة من جني أرباح كبيرة بعد خروج الاقتصاد الأمريكي من الكساد الكبير الذي عرفه خلال الثلاثينيات.
لكن الفاتيكان لم يقتصر على الاستثمار في الولايات المتحدة بل كان من الذكاء الذي مكنه من استثمار نسبة محترمة من تعويضات “لاتران” داخل ايطاليا مما جعل الكرسي البابوي يمتلك في ذلك الوقت ما بين 10 و 15 بالمائة من جميع الأسهم والأنصبة المتداولة في البورصة الايطالية.
هذا الوضع دفع بالمجلة البريطانية “Economist” الى القول: ” نظريا باستطاعة الفاتيكان أن يلقي بالاقتصاد الايطالي بأكمله في فوضى كبيرة اذا قرر فجأة التخلي عن جميع أنصبته لرميها في السوق“.
سنوات بعد ذلك تحققت نبوءة “Economist”، اذ صرح وزير المالية الايطالي في فبراير 1968 بأن الفاتيكان يمتلك لوحده أنصبة تبلغ أكثر من 100 مليار ليرة ايطالية.
لقد تحولت ثروة الكنيسة الى مصدر انزعاج أخلاقي متنامي بالاضافة الى كونها معضلة مالية حقيقية. اذ صارت الكنيسة مثقلة بثروتها ليس فقط من تلك القادمة من الأموال المستخلصة من آلاف المنظمات التابعة لرجال دين وكنائسيين وعلمانيين، بل أيضا من قدرات الأدمغة المالية المكلفة بتسيير أموالها منذ الحرب العالمية الثانية التي استثمرت ملايير الفاتيكان في كل أنحاء العالم ببراعة لا مثيل لها.
تراكم هاته الثروات فرض على البابا التخلص من أدوات التسيير القديمة والمتهالكة وتعويضها بأخرى أكثر تطورا عبر تأسيس ولاية داخل الفاتيكان مختصة بالشؤون الاقتصادية. يوجد على رأس هاته الولاية مختصين من الأمريكيين والفرنسيين والألمان متواجدين في معظمهم خارج ايطاليا على اعتبار أن الاستثمارات وزعت على مستوى العالم. وفي هذا الاطار فقد برز دور مؤسسة روتشيلد (Rothschild) اليهودية الشهيرة – أقرضت الفاتيكان منذ سنة 1831 – في شراء، بيع ودمج ملايين من الأسهم وكذلك الاستثمارات باسم الفاتيكان.
تنوع العمليات المالية وطابعها السري جعل الفاتيكان يدخل دوامة الفضائح المالية كما حصل خلال فترة الثمانينيات مع ما تبع ذلك من صدمة الملايين من الكاثوليك وحزن الكثيرين الذين كانوا يعتقدون أن الفاتيكان لا ينخرط الا في المعاملات الخيرية. لكن وبصفة عامة تظل هاته الاستثمارات مراقبة بشكل جيد من طرف مختصيين ماليين لا نظير لهم في مجالهم. وهم في أغلبهم ينتمون اما الى أخويات غير كاثوليكية من البروتستانت أو من اللادينيين أو من اليهود وحتى من الملحدين.
وكانت هاته المعاملات المالية لمدة سنوات مدارة لسنوات من طرف أحد أكبر البنوك العالمية ويتعلق الأمر ببنك J.P. Morgan المتواجد بنيويورك (خاصة فيما يخص الاستثمارات الأمريكية)، وبنك Ambros اللندني فيما يخص الاستثمارات الانجليزية، وبنك Le Crédit Suisse بزيورخ فيما يخص الاستثمارات الأوربية، دون نسيان تلك المتابعة لأعمال الفاتيكان بايطاليا كبنك Banco di Roma وبنك Banco Commerciale وكذلك Banco Santo Spirito.
ويجدر بالذكر هنا أن كا ما ذكر أعلاه متعلق فقط بالموارد “النقدية”، فوحدها الأصول المالية مأخوذة بعين الاعتبار. وبالتالي فان الممتلكات العقارية والأراضي والشركات الصناعية والتجارية المملوكة والمدارة من طرف الكنيسة الكاثوليكية في ايطاليا واسبانيا وألمانيا وانجلترا وأمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية، فهي مستثناة مما فصل لحد الآن. فمن المستحيل تحديد القيمة الحقيقية والآنية لكل ممتلكات الكنيسة.
فلدى الفاتيكان – أو بالأحرى الكنسية الكاثوليكية – الآلاف والآلاف من الكنائس والكاتدرائيات والأديرة والعديد من المنشآت في العالم الغربي، فما هي القيمة النقدية للبقع الأرضية المشيد فوقها كل هاته البنايات ؟ وما هي القيمة الحقيقية للبنايات في حد ذاتها ؟ … لو قيمنا بأثمنة زهيدة الكنائس المتواضعة والأبرشيات الصغيرة، فبكم سيقيم مثلا وكيل عقاري كاتدرائية St.Patrick بنيويورك أو Notre Dame بباريس أو St.Pierre بروما ،الخ ؟ مبالغ مهولة !
من اليمين الى اليسار: كاتدرائية القديس بطرس بروما - كاتدرائية نوتردام بباريس- كاتدرائية القديس باتريك بنيويورك

أما من قد يدعي أن هاته المنشآت ليس في ملكية الكنيسة الكاثوليكية فهو كمن يريد أن يقنعنا بأن النظام الديكتاتوري الشيوعي لا يملك شيئا لأن كل الممتلكات هي ملك للشعب ! فعندما تبيع الكنيسة الكاثوليكية قطعة أرضية أو تشتري أخرى فان أسقف المنطقة هو من يوقع العقد، أي أن الكرسي الكنسي الذي ينتمي اليه يصير هو المالك أو الذي يحصل على أموال البيع.
للفاتيكان مصدر آخر من مصادر التمويل تقوم به حكومات بعض البلدان لصالحه. ففي هذه البلدان لا يقتصر الأمر على الاستخلاص الضريبي لصالح الكنيسة بل تقوم الدولة بنفسها بقبض الضريبة باسمها. هذا السخف كان من أعجب الأمور ببلد كألمانيا مثلا حيث “يرغم” (بضم الياء) الألمان على دفع ما يسمى ب Kirchensteuer لصالح الكنيسة. ضريبة رأت الوجود مع دستور 1919 وتم تأكيدها بموجب ميثاق بين هتلر والفاتيكان في اتفاقية 20 يوليوز 1933، وتمت دسترتها سنة 1949 بعد الحرب العالمية الثانية. (حاليا هي ضريبة اختيارية). [المدون: ماشاء الله على العلمانية التي صدعوا رؤوسنا بها !!!]
اتفاقية 20 يوليوز 1933 بين الكرسي البابوي (مثله الكاردينال Pacelli الذي سيصير البابا Pie XII) والرايخ الألماني (مثله Franz von Papen)

قبل الحرب العالمية الثانية كان المواطنون الألمان يدفعون للكنيسة متوسطا قدره 2 أو 3 ماركات في السنة. في سنة 1972 ارتفع المبلغ ليتراوح ما بين 55 و 60 ماركا. فكما نرى فان خزائن الفاتيكان لم تكتف بالامتيازات المالية التي تحصلها من جراء تغلغله في دواليب عمالقة الصناعة في ألمانيا (نفس الشيء في ايطاليا والولايات المتحدة) بل امتلأت أيضا بالملايين القادمة من Kirchensteuer والتي بلغت حوالي 350 مليون دولار في السنة. هذا النظام كانت نتيجة لكثلكة الحياة السياسية التي سيطرت بعد الحرب العالمية لمدة طويلة.
وتعتبر الكنيسة الكاثوليكية أخطر سماسرة البورصة على مستوى العالم. نشرت Wall Street Journal: “المعاملات المالية للفاتيكان بالولايات المتحدة كانت من الضخامة لدرجة أنه في حالات كثيرة باع أو اشترى في عملية واحدة ذهبا بما قيمته أكثر من مليون دولار“. لذلك كان الفاتيكان وما يزال أشرس مراكم للثروات والممتلكات، ولا أحد يعلم بالضبط وبدقة كم هو وزن الكنيسة الكاثوليكية أو قيمتها بالدولار أو بعملات أخرى ولا حتى البابا نفسه !
عندما طلب من أحد المسؤولين بالفاتيكان أن يعطي ولو تقديرا نسبيا لثروة الفاتيكان اليوم، رد بجواب معبر: “الرب وحده من يعلم ذلك” !